يبدو أن قضية رجل الأعمال رامي مخلوف قد أخذت أبعادها شبه النهائية، ما لم تحدث تطورات مفاجئة، ومستجدها في الأسبوع الماضي هو قرار المنع من السفر من قبل القضاء الإداري، ومنشور مخلوف الأخير (28 أيار/ مايو)، الذي أعلن فيه تحويل الأسهم العائدة له في شركات عدة إلى شركة (راماك) للمشاريع التنموية والإنسانية.
مخلوف هو واجهة لمجموعة مصالح اقتصادية واجتماعية أصابتها الإجراءات الحكومية الأخيرة المدعومة من القصر الجمهوري بقوة. الأمر لا يتعلق بالتأخر عن تسديد الضرائب المستحقة على شركة “سيرياتل”، بل هو عملية مدروسة للنيل منه اقتصاديًا، ونقل جزء من الثروة التي حازها، باعتباره صاحب بيت مال السلطة سابقًا، إلى رجال أعمال آخرين، من أجل دعم مركز الثقل الجديد الذي بدأ بالتشكل والتبلور حول شخصية أسماء الأسد الصاعدة بقوة، بعد أن تعافت من مرضها وأخذت مكان السيدة الأولى (أنيسة مخلوف) التي توفيت في العام 2016. وكانت أسماء قد استغلت الأموال الممنوحة من الاتحاد الأوروبي للمجتمع المدني منذ عام 2005، غير الموجود أصلًا، للقيام بأنشطة ذات طابع تنموي.
اللافت والجديد في قضية رامي مخلوف هو نقل الخلاف من قبله إلى العلن، عبر وسائل التواصل الاجتماعية، ما يشكّل دعمًا قويًا لموقفه وغطاءً يحميه، ويعطي فكرة عن نقاط القوة التي يتمتع بها ومدى استعداد مؤيديه لدعمه في مواجهته المفتوحة مع أسماء الأسد، وقد حفلت منشوراته بالترميز إليها وهو يخاطب رئيسه.
يعتمد رامي مخلوف على المستفيدين من “جمعية البستان الخيرية” بشكل خاص، وهم كثر، والجمعية هي الوحيدة على هذا المستوى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ومن المعروف أنه لم يكن يتم الترخيص في سورية حتى للجمعيات الخيرية إلا بصعوبة وفي مناطق وحالات خاصة، وذلك من باب التضييق على المجتمعين الأهلي والمدني. على العموم، يقف وراء مخلوف في هذه المواجهة:
1. المستفيدون والذين استفادوا من خدمات جمعية البستان الخيرية، وهم يعدون بعشرات الآلاف؛
2. رجال الأعمال الملحقون به والعاملون في مؤسساته والأسر التي يعيلونها؛
3. أنصار الحزب القومي السوري وميليشياته، وارتباطات الحزب العائلية التاريخية ببيت “مخلوف” وبيت “جديد” من عشيرة الحدادين في جبلة، المنافسين التاريخيين لعشيرة الكلبية في جبل القرداحة، وكانت السلطات قد حلت فرع الحزب القومي السوري التابع لمخلوف (الأمانة العامة) في خريف العام الماضي، بقرار مبرم من محكمة الاستئناف؛
4. مجموعة من الضباط الأقرب إلى إيران.
هذا يعني أن رامي مخلوف قد يخسر معركته هذه مع أسماء، وهو الأمر الأكثر ترجيحًا، لكن بالنقاط، لا بالضربة القاضية، وقد أضعفه تحوُّل أخيه، إيهاب، إلى مركز الثقل السلطوي الجديد. كما أنه من شبه المؤكد بأن الصراع سيترك شرخًا في الطائفة، لكنه لن يتحول إلى انقسام في الظروف الحالية، إذ الحرب لم تنته، ووحدة الصف ما تزال مطلوبة، وسيكون هذا الشرخ الأول من نوعه ضمن الطائفة العلوية على المستوى الشعبي، وقد نجح حافظ الأسد في توحيدها سياسيًا، لأول مرة، لكن بثمنٍ باهظ ترك وسيترك آثارًا عميقة على أبنائها وعلى السوريين جميعًا.
كشف الصراع مع مخلوف عن مدى تفسخ السلطة واحتكارها للثروة الوطنية، فما إن حصل هذا الشرخ حتى عادت بعض أجنحتها المستبعدة أو الموجودة في الظل إلى المطالبة بحصصها، فدخل ماهر الأسد وزوجته منال الجدعان، على خط الخلاف ضد أسماء (تغريدة لرياض حجاب تحدث فيها عن ذلك)، وعاد رفعت الأسد من غيبوبته السياسية والعقلية، من خلال ابنه دريد، ليذكر السوريين بتاريخه الحافل بـ “تعزيل” البنك المركزي من الدولارات، وزاد عليها ما تبرع به الرئيس القذافي وقتئذٍ، بطلب من أخيه حافظ الأسد، لقاء خروجه سالمًا غانمًا إلى فرنسا مع عدة مئات من حاشيته، كما جاء في مذكرات مصطفى طلاس.
وبينما يتضعضع التحالف القديم والقوي للسلطة بين آل الأسد ومخلوف، ينمو التحالف الجديد الذي تقوده أسماء الأسد، مستظلةً بسلطة زوجها المتداعية ومدعومة بالحليف الروسي هذه المرة، ودوره ليس خافيًا، فقد رافقت شرطته العسكرية قوات الأمن التي داهمت مقرات رامي مخلوف واعتقلت المديرين. وفي ضوء عجزهم أمام الحلفاء المهيمنين، يحتار أهل السلطة إن كان عليهم أن يتضامنوا أو يتنافسوا، في الوقت الذي يتم فيه سحب البساط من تحتهم أجمعين. إنها طريقة التاريخ الملتوية للنفاذ من الاستعصاء السوري الحالي وتعقيداته، من أجل إحداث التغيير السياسي، مهما يكن الشكل الذي سيتبدى به أو السيناريو الذي سيأخذه.
برزت أسماء بعد موت أنيسة 2016، وكانت قد حضّرت نفسها -اجتماعيًا- من خلال سيطرتها، منذ عام 2005، على أموال الاتحاد الأوروبي الممنوحة للمجتمع المدني السوري، غير الموجود في سورية أصلًا. كما برز دور السيدة الأولى الجديدة، بعد وفاة السيدة أنيسة أم بشار، وتطور هذا الدور في السنتين الأخيرتين ليصبح أكثر فاعليةً وتأثيرًا في ترتيب البيت الداخلي للسلطة، فعملت على تحويل الثروة بالتدريج إلى رجال أعمال من أقاربها والمتعاونين معها، فكان لا بد أن تصطدم بإمبراطورية آل مخلوف المالية العتيدة، وهذا ما حصل.
في هذا المجال، مُنح امتياز بطاقة “تكامل” الخاصة بتوزيع بعض المواد الأساسية، لمقربين منها وأقرباء لها. لا أحد يعرف بالضبط كيف يتم تقاسم مداخيل هذا المشروع، لكن ما يتسرب من معلومات يشي بأن مداخيل هذه البطاقة تكاد تبلغ مداخيل شركة اتصالات مصغرة. كل ذلك كان يجري كمقدمة لتقويض إمبراطورية آل مخلوف المالية، والتي بدأت ثمارها السياسية بالنضج، ما صار ينذر بتنافسٍ على السلطة، يدعم هذا الرأي إخراج رامي مخلوف الخلافَ إلى العلن، وتدرج موقفه من مناشدة الرئيس إلى امتلاك الشجاعة على التحدي.
بالطبع، لا يمكن أن نصدق بأن الأمر يتعلق بتخلف رامي عن دفع مستحقاته الضريبية، في بلدٍ لا أحد يعرف بالضبط كيف توزع فيه الأموال والثروات، لكن الجميع يعرف أين تتركز، إنها عملية “تشليح” لرامي مخلوف، بهدف تقليم أظفاره المالية واحتمال تحولها إلى “مخالب” سياسية تدمي السلطة، وتعيد بصورة “ماكرة” قصة رفعت الأسد من جديد.
في صراعه مع تحالف السلطة الجديد، يستخدم رامي لغة شعبية بسيطة مطعمة بالتدين، يجتذب بها المعوذين والتائهين بين الفقر والمخاوف والانتماءات، وتوفر له دعمًا شعبيًا قد يجنبه الانتحار على الطريقة المعتادة في تصفية الحسابات والتخلص من الخصوم. بالفعل، انتشرت العديد من الصفحات المؤيدة له على وسائل الإعلام الاجتماعية، وفيها يستخدم بعض المؤيدين أسماء مستعارة، خوفًا من الملاحقة وتطبيق قانون الجرائم الإلكترونية.
ومع أن الحاجة الملحة إلى المال ومطالبة الحلفاء بدفع المستحقات قد عجلت من خروج هذا الخلاف إلى دائرة الضوء، بالطريقة الخشنة التي تمّت بها، فإن نقل الثروة يمهد لنقل السلطة، ويبدو أن أسماء تعمل على تأسيس سلالتها الخاصة في المملكة، بيد أن حساباتها تأتي في توقيت خاطئ، وهذا لا يعني أن بعض المستجدات المتوقعة في الأشهر القادمات قد تضعها في موقع السلطة أو تؤمن لها دورًا مهمًا فيها.
هنا يحضر البعد الخارجي للصراع، فبينما تحاول روسيا، من خلال التحالف الجديد، تعزيز نفوذها وإجراء عملية هيكلة لمناصريها في التحالف الجديد لتسهيل إملاء قراراتها، تقف إيران حيرى، ولكنها أذكى من أن تراهن على الحصان الخاسر، رامي مخلوف، فأوعزت إلى قناة “العالم” الإخبارية التابعة لها بالهجوم على رامي، واتهمته بأنه يهب من الأموال التي سلبها من الشعب، وكأننا كنا نعتقد بأن المال يهطل من السماء كالمطر! في ذلك، يبدو أن إيران باتت تلهث للحاق بروسيا في سورية، وهي تخسر مواقعها واحدًا بعد الآخر أمام حليفتها اللدودة، المتحالفة مع عدويين لا قِبل لإيران بمقاومتهما، الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
فما الهدف من التطورات الحاصلة الآن على مستوى السلطة، وفي القلب منها قضية رامي مخلوف؟ وما الذي يمكن أن تقود إليه على المدى القريب؟ يمكن الإجابة عن هذين السؤالين معًا بما يلي:
مع الأسف، المشكلة، للمرة الألف، هي عدم وجود مشروع وطني سوري للتغيير، تصوغه قوى جديدة تتلاءم توجهاتها مع مرحلة ما بعد الحرب وبناء الدولة، وقد اقتربت الشروط الموضوعية من أن تصبح مساعدة للنهوض به.