لا يحتاج سوريّان يقفان في وجه النظام إلى كثيرٍ من النقاش، حول أن درعا كانت أوّل شوكة في حلق هذا النظام، وأنّ هذه الشوكة تحمل معاني مختلفة، فهي وخزتْ كبرياء النظام المقنّع بالرعب، وصارت هذه الشوكة تستوقفه، كيفما تحرّك، لتملأه قلقًا وعدم استقرار. وهي من جهة ثانية شوكةٌ، بمعنى القوة والمنَعة، فكلمة “ذاتُ الشوكة” في الآية القرآنية {وتودّون أنْ غيرَ ذاتَ الشوكة تكون لكم} تُحيل إلى معنى القوة في الحرب.

والقوة التي تتمتع بها درعا، كونها (شوكة)، لا تنبع أساسًا من فعل ماديّ وسلاحٍ ومواجهات مسلحة وانتفاضة اضطرت إلى العسكرة، بالرغم من أن هذا داخل في الحسبان، لكنها القوة التي تدلّ على أن روح السوريين التي أصابتها رضوضٌ باهظة، خلال حكم الأسد الأب ثم الابن، هي روحٌ عصية على الفناء، تأبى الاستسلام، ذلك لأنها تمتثل لقوانين التاريخ والطبيعة، مهما تأخر مفعول هذه القوانين في الروح العظمى لشعب ما، التاريخ الذي يطرح مقولاته دائمًا في أن الشعوب المقهورة ستثور ضد حكامها، قصر الزمان أم طال.

ونحسب أن نظامًا جبارًا، كنظام الأسد، لم يخطر في باله أن انتفاضة ثائرة بهذا الشكل يمكن أن تندلع في وجهه يومًا من الأيام، فكيف إذا كانت بدايتها من منطقةٍ كانت أبعد ما يكون عن حساباته؟

درعا الشوكةُ المادية والمعنوية في عمق الطاغية هي التي تقع في جنوب الجغرافية السورية، وقد انتقلت بشجاعتها إلى الصدارة في قلب كل سوريّ انسجم مع مبدأ الكرامة وإرادة التغيير.

قيل قديمًا إنه “إذا أمحلتْ حوران جاعت روما”، المقولة التي يتداولها كثيرٌ من السوريين، وتداولها من قبلهم مؤرخو العصور الرومانية والبيزنطية الذين فصّلوا في تاريخ المنطقة وأهمية درعا الاقتصادية للإمبراطورية الرومانية، من حيث إنها كانت المسيطرة على الشرق جميعه تقريبًا.

وتقول تلك الروايات إن درعا حكمت نفسها بنفسها، في مرحلةٍ من المراحل الرومانية، وحققت ما نسميه الآن حكمًا ذاتيًا، أي أن عظمة روما وجبروتها لم تشأ إلا أن تتكيف مع خصوصية درعا في المشرق. وقد كان مشهورًا عن الرومان قوتهم وعنفهم ودمويتهم في الحكم، حيث كانوا لا يتورعون عن تمثيل مشاهد مسرحية تتطلب قتلى حقيقيين بصورة فعلية، كانت روما مسرحًا للدم، لكنّها لم تنته من التاريخ، فإذا فنيت روما وأباطرتها، فهناك دائمًا ثغرات يتسلل منها طغاة جدد يتابعون عنف وبطش روما، وما فعله نظام الأسد منذ آذار 2011، بدءًا من درعا، كان استعادة لمنطق القوة الباطشة والعنف الدموي الذي اشتهرت به روما. لكن مع فارق أن روما أعطت درعا حكمًا ذاتيًا، كنوع من الحنكة السياسية في إدارة شؤون أطراف الإمبراطورية، في حين تسعى قوة النظام إلى مزيد من محق درعا وإذلالها.

لا يتورع النظام عن إشهار حقده على كل المدن والقرى والبلدات التي وقفت ضده بحشودها الصارخة الغاضبة، ولا يخفي نزعته في الانتقام منها بكل وسيلة وحيلة. فهو في أيام (السلم) كان يفرّق بين مدينة ومدينة، بين قرية وقرية، في أمور البنية التحتية والخدمات والمشاريع، وكانت تفرقته تلك نابعة من نظرة ليست وطنية أساسًا في التعامل مع (الشعب) الذي يحكمه؛ فكيف في أيام (الحرب)؟

بعد استفراد النظام وحلفائه بالسوريين الرافضين، وبعد انفضاض العالم عنهم، كان لا بدّ من استعادة الجغرافية الثائرة وتأديبها، لترجع راضخة مهانة إلى (حظيرة) النظام. وكان ينفّذ خططه تلك بالتدريج تزامنًا مع مماطلاته في كل جولات المفاوضات المعروفة، حيث إنه يعلم أن هذه المفاوضات لا تحقق له شيئًا. إنما هي غطاء لإضاعة الوقت والمضي في تحقيق استعادته لتلك المناطق التي خرجت عن سيطرته. وكانت درعا تعرف أن اللحظة قادمة لا محالة، بعد ما حققه النظام شيئًا فشيئًا. لكن هناك تداعيات في الأسئلة السورية حول شأن درعا، تداعيات تصبّ في النهاية كلها في الشأن السوري برمّته، وقد يسعفنا التأمل في صياغة بعض من هذه التداعيات المشروعة.

حين انفجرت الأرض السورية في بقع جغرافية أساسية على امتداد البلاد، وجد النظام نفسه، بكل جبروته العسكري ودهائه الأمنيّ الشرير، أمام واقع جديد عليه، فكل خبراته الإجرامية الماضية تتكثف في مذبحة حماة الشهيرة. أما بقية مذابحه فكانت في مساحات تسعفه معها قوة باطشة قليلة لتنفيذ الهدف من دون “ضجيج إعلامي”. مثل مذبحة تدمر. أما أن تنتفض كل هذه المدن والقرى دفعة واحدة وبالتتالي، فتلك تجربة جديدة. ولذلك راح في البداية -كما بات معروفًا- ينتظر مؤشرات البوصلة العالمية والإقليمية ليتمكن من ضبط آليات الرد. وحين استتبّ له الأمر، وأيقن أن مسارات القوى الفاعلة في العالم ليست جادة في دعم الانتفاضة السورية، ثم من وجهة أخرى تمكّن من اختراع معضلات مرعبة نجح في تغيير رأي كثير من فعاليات الرأي العالمي إلى صالحه، خاصة تركيزه على عسكرة وأسلمة ودعشنة الانتفاضة، حين جرى ذلك، بدأ بمرحلة الانقضاض التدريجي، بخطط مدروسة ومسنودة عسكريًا وسياسيًا من حلفاء رأوا في الحالة السورية المتشظية تلك فرصةً ذهبيةً لتحقيق توازناتهم الإستراتيجية في حكم العالم ومراكز تأثيره الاقتصادي. فأطلقوا العنان للنظام ليفعل ما يشاء من دون تردد ولا رادع. بل اكتملت عدته العسكرية في الرد والانقضاض، حين شارك هؤلاء الحلفاء مباشرة، وأحيانًا بالنيابة عن النظام بالكامل، في تدمير الجغرافية السورية التي انطلقت منها شرارات الانتفاضة أو امتدت إليها.

من أسباب نجاح النظام في استعادة زمام المبادرة في المناطق التي استعادها، أنّ الفاعل السوري على الأرض لم يكن له خطة إستراتيجية للبقاء والاستمرار، لأسباب كبرى، منها أن النظام ساعد بدهاء في تجميع بؤر الانتفاضة في أماكن مغلقة أو شبه مغلقة، لا فضاء للحركة فيها، ولا مجال فيها للمناورة العسكرية ولا للتكتيك السياسي (هذا إن وُجد أصلًا)، ومنها أيضًا قطع طرق الإمداد كليًّا، وحين لم يتوفر ذلك، قام بتقطيع هذه الطرق وتشتيتها. وأسهم ذلك في استفراده بالفاعل السوري في المناطق (التي كانت محررة من قبل المعارضة، ثم صارت محررة من قبله!).

ذلك ما فعله بحمص، كمثال واضح للعيان، بدءًا من بابا عمرو حتى المدينة القديمة، مرورًا بالقصير وسواها. وقد كرر هذا النموذج كل مرة بنجاح، ولو كان نجاحًا بطيئًا وغير مكتمل في بعض حالاته. لكن الأمر انقلب لصالحه.

ما رآه النظام في درعا، ومن ورائه حليفه الروسي والإيراني و”حزب الله”، أن هذه البيئة الأساسية للشرارة الأولى للانتفاضة ينبغي تأديبها التأديب الأكبر. خاصة أنه لم ينجح في تسريب الدعشنة بما يكفي إليها، ليلعب كالعادة على عنصر (الجماعات الإرهابية)، وهذا أمرٌ يحسب للمجتمع المتدين في درعا أنه لم يمكّن النظام من الاحتيال عليه وقطع عليه طريق الدعشنة. وإلا فقد كانت عملية تهديم إرادة درعا من داخلها بعوامل حتّ داعشية طبيعية، أمرًا أيسر.

وتشبه درعا، في كثير من تفاصيل وقائعها، باقي المدن والبلدات التي “حرّرها” النظام بمساعدة سلاح الجو الروسي. بالرغم من أن لها طابعًا امتازت به وجعلها تفترق عن التشابه الكامل مع تلك المناطق. لكن عنصر القوة التي تميل دائمًا لصالح النظام وحلفائه يجعل كل المناطق تتشابه، في كونها هدفًا لا بدّ من الوصول إليه.

وما ترافق مع مآلات درعا الأخيرة يعيد التذكير بمآلات جميع المناطق المستعادة، فالخيارات قليلة، ولا أوراق لعب كافية لاستثمارها على المدى البعيد، وهذا لا تتحمل درعا وسواها من المدن مسؤولية مباشرة عنه، لكنه مفهوم ضمن سياق الأداء السياسي الدولي في التخلي عن السوريين، وعدم الاشتغال بصورة أخلاقية جادة لترحيل النظام السوري، فماذا ينتظر من آلافِ المنتفضين هنا وهناك، وهم أمام أفق مسدود؟ هذا الأفق المسدود الذي جوبهت به الانتفاضة السورية في جميع مناطقها كان عبارة عن أفق الانتفاضة السورية المسدود برمّته.

ونظرًا لما تشكله درعا من رمزية أيقونية للسوريين المعارضين للنظام، فقد ارتفعت نبرة الأسى على مصيرها، بما يناسب ضخامة هذا الرمز واتساع الحلم السوري. فقد تم اعتبار نهاية درعا نهاية أخيرة للانتفاضة. ومع ما يعتصر السوريين من ألم وإحباط، يحاول المزاج الثوري ابتكار أشكال من إطالة الأمل الذي لا غنى عنه لاستمرار فكرة مناهضة النظام.

الدرس الآخر من درعا نراه من خلال هيمنة الجانب الروسي على مسار الحراك التفاوضي بين النظام وأهالي درعا. وثمة أنباء تفيد -كالعادة- بتهميش القيادات السورية العسكرية والاستهانة بها، وكأن روسيا مندوب ساميّ تقليدي يتعامل مع شعب محتلّ، وهي من يقرر كيفية حلّ مشكلته. صحيح أن النظام يستمر في استعراضاته العسكرية ونقضه للعهود حتى المفترضة، في محاولة منه لرسم صورة سيادية زائفة عنه، لكن حقيقة ما يجري أن الإرادة الروسية تتقدم وتحرّك الجغرافية، وتملك قوة الضغط، ولو كانت في النهاية تصبّ في مصلحة النظام، وهذا أمرٌ مفروغ منه، باعتبار روسيا ليست راعية للنظام وحسب، بل هي حاميته ومبتلعة سيادته الوطنية.

صحيح أن أحداث درعا وقائع تُفهم في السياق السوري العام، لكنها -من غير تعقيدات في التأويل- بصمة خاصة في مدوّنة الحرية السورية.