يبدو أن المفاوضات بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي/ حزب العمال الكردستاني، تحت غطاء مجموعة أحزاب الوحدة الوطنية الكردية، قد وصلت تقريبًا إلى الحائط المسدود، وهذا الأمر كان متوقعًا، استنادًا إلى التجارب السابقة والمعطيات الراهنة والمؤشرات المستقبلية؛ فحزب العمال الكردستاني اعتمد منذ تأسيسه عام 1978 سياسة ضرورة إلغاء الآخرين في كردستان تركيا، وخاض معارك طاحنة ضد جميع الأحزاب الأخرى المنافسة، لإخراجها من الساحة، حتى تمكّن في نهاية المطاف من التفرد والهيمنة على الأوضاع هناك، بالرغم من الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان إيفرين عام 1980.
وقد سعى زعيم هذا الحزب عبد الله أوجلان، منذ اليوم الأول لدخوله إلى سورية عام 1979، للوصول إلى المفاتيح التي تمكنه من بناء العلاقات مع نظام حافظ الأسد، وقد استطاع الوصول إلى ذلك بالفعل. وتمكن في تلك الفترة من بناء علاقات مع النظام الإيراني، بالتنسيق مع النظام السوري. وبات منذ ذلك الحين ركيزة أساسية من ركائز إستراتيجية النظامين في المنطقة، خاصة بعد أن تمكن من التغلغل ضمن كردستان العراق، مستغلًا ظروف الخلافات بين الحزبين الرئيسين (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني).
وقد اتسم حزب العمال بنزعته البراغماتية، فهو على استعداد للتعامل مع الجميع، بشرط أن يبقى الطرف الأقوى في الساحة الكردية. وقد استخدم كل أساليب الضغط والتهديد، حتى الاغتيال، ضد خصومه، خاصة في مواجهة أعضائه الذين كانوا يعلنون من حين إلى آخر انشقاقهم عنه، بعد أن يتبين لهم حقيقة توجهات الحزب وطبيعة تحالفاته.
وبعد إخراج عبد الله أوجلان من سورية عام 1998، نتيجة الضغوط التركية، وعلى إثر الحظر العلني لنشاط الحزب في سورية، بموجب التزامات اتفاقية أضنة الأمنية عام 1998 التي أُجبر حافظ على التوقيع عليها مع حكومة مسعود يلماظ ونائبه بولند أجاويد؛ لجأ الحزب المعني، وعلى الأغلب بالتنسيق مع الأجهزة المخابراتية السورية والإيرانية، إلى تشكيل ثلاثة أحزاب في كل من سورية والعراق وإيران؛ وذلك بحجة أن ظروف كل جزء من أجزاء كردستان مغايرة، تستوجب سياسات تتناسب مع طبيعة المتطلبات. هذا بينما كان الأمر في حقيقته هو أن كل هذه الأحزاب الفرعية كانت مرتبطة ارتباطًا عضويًا بقيادة قنديل التي أصبحت القيادة الفعلية لحزب العمال، بعد اعتقال أوجلان من قبل السلطات التركية عام 1999.
وفي بداية الثورة السورية، تم تفعيل العلاقة بين نظام بشار وحزب العمال مجددًا، وبالتنسيق مع النظام الإيراني بطبيعة الحال. أما الهدف فقد كان ضبط الأمور في المناطق الكردية، والحد من تفاعلها مع الثورة السورية، وذلك بعد التظاهرات الضخمة النشطة المتواصلة التي عمّت معظم المدن والبلدات ذات الغالبية الكردية تأييدًا للثورة. وبالفعل، دخل حزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) المناطق الكردية السورية بصورة علنية؛ وتمكّن -بشعاراته الديماغوجية- من السيطرة على الأوضاع، بدعم من النظام، وبالتنسيق مع العديد من الأحزاب الكردية السورية التي لم تكن بعيدة هي الأخرى عن أجهزة النظام. ولكن ما إن تمكن حزب الاتحاد من تثبيت أموره، حتى أبعد جميع الأحزاب الكردية السورية التي كانت قد شكلت حينئذ المجلس الوطني الكردي، عن دائرة التأثير، وبات هو المهيمن الأول.
بعد تصاعد المدّ الداعشي في كل من العراق وسورية، إذ سيطر تنظيم (داعش) في مدة زمنية قياسية على مساحات واسعة في البلدين (شملت الموصل ومناطق واسعة في غرب العراق والمناطق الشرقية السورية التي تضم المحافظات الثلاث: الحسكة والرقة ودير الزور)، وبعد التوافق الروسي الأميركي على تقسيم مناطق العمليات الميدانية في سورية؛ استفاد حزب العمال -عبر واجهته السورية حزب الاتحاد- من استغلال ورقة محاربة الإرهاب الداعشي، وساعده في ذلك التباينات التي كانت بين الموقف الأميركي والتركي حول الملف السوري، وربما حول مستقبل المنطقة، وحاجة الأميركان إلى قوة ميدانية على الأرض، لأن الحسابات الانتخابية كانت تمنعهم من نشر قواتهم البرية في أماكن النزاع.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المسؤولون في إقليم كردستان العراق، خاصة من جانب الرئيس مسعود البارزاني شخصيًا، لإيجاد صيغة من التفاهمات بين الحزب المعني والمجلس الوطني الكردي، وعلى الرغم من موافقة هذا الحزب على ثلاثة اتفاقيات بصورة مبدئية: (اتفاقية هولير الأولى 11-6-2012 والثانية11-7-2012، واتفاقية دهوك 22-10-2014)، ظلّ حزب العمال يحرص على سدّ الطريق أمام أي إمكانية لشراكة حقيقية مع أي طرف، في إدارة المناطق التي كانت يهيمن عليه بضوء آخر من النظام أساسًا. هذا مع أنه هو الوافد المقحم، في حين أن المجلس، خاصة في بداياته، كان يضم غالبية الأحزاب الكردية السورية التي تلتزم برامجها بالعمل ضمن الساحة الكردية السورية، ولها تاريخ يمتد على ما يقارب ستين عامًا.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة حديثًا، على مدى ستة أشهر، من أجل التقريب بين الطرفين، مع معرفة الأميركيين بطبيعة العلاقة بين حزب الاتحاد وقيادة قنديل، ومعرفتهم كذلك بطبيعة العلاقة بين قنديل والنظام الإيراني من جهة، والنظام السوري من جهة ثانية؛ حاول حزب العمال/ الاتحاد إيجاد فتوى، عبر الترويج لفكرة أن الإدارة الذاتية التي أعلنها الحزب المعني من طرف واحد قد باتت بعيدة نسبيًا عن التأثير المباشر لقيادة قنديل وتدخلاتها في كل شاردة وواردة، بينما تقول المعطيات الواقعية على الأرض عكس ذلك.
كان هناك أملٌ بأن العقلاء من الكرد السوريين داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، ومن الكرد والعرب داخل قوات (قسد)، سيأخذون بعين الاعتبار مصلحة شعبهم، ولن يقبلوا الاستمرار في لعبة الأجندات الإقليمية التي لا تراعي مصحلة السوريين على اختلاف انتماءاتهم؛ ولكن ما يستنتج مما يحصل حاليًا هو أن هؤلاء ليسوا في موقع التأثير، أو ربما كانوا جزءًا من لعبة توزيع الأدوار.
ويبدو أن السعي الأميركي لم يكن بعيدًا عن سياسة التوافقات غير المعلنة مع إيران في العراق، وهي التوافقات التي أسفرت عن تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي. ومن الواضح أن هناك رابطًا يمكن متابعته وفق مؤشرات عدة بين ارتفاع وتيرة التفاؤل أو التشاؤم بنجاح أو فشل المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي من جهة، وبين التفاهمات الضمنية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في العراق.
وكان من الواضح منذ البداية وجود توجّهَين ضمن الحزب المعني حول المفاوضات المعنية: الأول يدعم المفاوضات ويسعى لإنجاحها، على الأقل في الظاهر؛ والثاني يشكّك في جدواها ويضع العراقيل، ويقدم على خطوات استفزازية.
ففي حين كان المجلس الوطني الكردي يطالب بفك العلاقة بين حزب الاتحاد وقيادة قنديل، كان أنصار الحزب المذكور يخرجون -بأوامر من ممثلي قيادة قنديل ضمن قيادة الحزب المذكور- في تظاهرات في مختلف المدن والبلدات، رافعين شعارات حزب العمال وصور عبد الله أوجلان، وهي المناظر التي سبق أن شاهدناها في عفرين ورأس العين (سري كانيي) وتل أبيض.
إلا أن المعطى الأكثر جدارة بالتحقق هو ما حصل بعد الإعلان عن الاتفاق بين الحكومة العراقية الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، حول ترتيب الأوضاع في منطقة سنجار/ شنكال 1-10-2020. وضرورة إبعاد “الحشد الشعبي” من هناك، إضافة إلى قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني تعمل مع “الحشد” تحت غطاء أسماء حركية تتبدل كثيرًا للتضليل، تمهيدًا لعودة السكان خاصة من الإيزيديين الذين ما زالوا في المخيمات على بعد كيلومترات من منازلهم. وقد جاءت هذه الاتفاقية بعد عملية إطلاق صواريخ من المنطقة المعنية على مطار أربيل.
وبعد الاتفاقية، أقدم عناصر “الحشد” في بغداد على إحراق مقر الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكردستاني هناك. الأمر الذي أكد مجددًا أن مسيرة المفاوضات بين حزب الاتحاد/ حزب العمال، والمجلس الوطني الكردي، لن تجد طريقها إلى النجاح. وبالفعل صدرت تصريحات من المسؤولين في الحزب المعني، ممن كانوا قد أفصحوا عن التوافقات، بأنهم لن يقطعوا علاقاتهم مع العمال الكردستاني، ولن يُعطى المجلس فرصة التشارك، وإنما عليه الانضمام إلى المؤسسات التي شكلها حزب الاتحاد الديمقراطي، وبقيادة الأخير.
وبناء على ذلك؛ نفهم أسباب تراجع الحماس الأميركي لمتابعة المفاوضات المعنية التي يبدو أنها ستنتظر الاحتمالات المستقبلية. فإذا حدث توافق أميركي روسي، حول حلّ ما في سورية، مع الإبقاء على نظام بشار الأسد وفق شروط معينة؛ فإن الحزب على الأغلب سيعود إلى القواعد القديمة، ليكون حليفًا مع النظام، وتُصبح قواته جزءًا من جيش النظام بهندسة روسية، وربما بموافقة أميركية. وفي حال عدم الوصول إلى التوافق المشار إليه، فإن الأمر سيتوقف على ما ستكون عليه الأمور، بين الأميركان والإيرانيين في العراق. هل سيستمر الأميركيون في الوجود المؤثر هناك، أم أنهم سيختارون الانسحاب، كما فعل أوباما عام 2014؟ أم ستكون هناك صيغة تفاهمية بينهم وبين الإيرانيين، تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الميدانية والسياسية في المنطقة، خاصة بعد اتفاقيات إبراهيم/ إبراهام بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، والتوافق المبدئي على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل بموافقة “حزب الله” وإيران؟ إجابات هذه الأسئلة تبقى في انتظار المتغيرات.
من جهة أخرى، ضمن هذا السياق، تجدر الإشارة هنا إلى ما لم يعد سرًا، وهو أن موضوع حزب العمال الكردستاني قد أصبح عاملًا مؤثرًا في وضعية كردستان العراق بدعم إيراني، وبالتنسيق مع قوى كردستانية منافسة للحزب الديمقراطي لكردستاني. أما في سورية، فالمجلس الوطني الكردي ليس في أفضل حالاته. فهناك العديد من الأحزاب خارجه تتبع حزب الاتحاد أو تنسّق معه ضمن منظومته، وهناك أحزاب تقف بين بين. إضافة إلى أن عضوية المجلس في الائتلاف باتت تشكل ضغطًا شعبيًا عليه، نتيجة وضعية الائتلاف ومواقفه الإشكالية التي أثارت الكثير من الجدل على المستويين السوري العام، والكردي السوري تحديدًا.
وقد كان هناك أملٌ بأن العقلاء من الكرد السوريين داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، ومن الكرد والعرب داخل قوات (قسد)، سيأخذون بعين الاعتبار مصلحة شعبهم، ولن يقبلوا الاستمرار في لعبة الأجندات الإقليمية التي لا تراعي مصحلة السوريين على اختلاف انتماءاتهم؛ ولكن ما يستنتج مما يحصل حاليًا هو أن هؤلاء ليسوا في موقع التأثير، أو ربما كانوا جزءًا من لعبة توزيع الأدوار، سواء كان ذلك بعلمهم أو من دون علمهم، أو ربما هم في انتظار الموقف الأميركي الواضح.
الأوضاع الصعبة التي تعيشها سورية عمومًا، والمناطق الكردية خاصة، ستستمر ما دام التوصل إلى حل شامل للمسألة السورية بعيدًا. ولعل من نافل القول أن نشير هنا إلى أن مثل هذا الحل مؤجل، إلى ما بعد الانتخابات الأميركية على الأقل. ولكن الخشية أن يطول الانتظار، الأمر الذي سيفتح الأبواب أمام احتمالات لا يريدها السوريون، ولم يثوروا أصلًا من أجلها.
حقائق لا بد من قولها وادراكها
كل الشكر والتقدير للدكتور عبد الباسط سيدا.