ناهض بعض المؤثرين في الرأي العام العربي المسلسلَ الكوري “لعبة الحبّار”، لما قد يكون له من تبعات سلبية على سلوكات الأطفال، ولمخاطر تنفيذها على أرض الواقع، بالرغم من أن حقيقة الألعاب لا تمثّل في طبيعتها البدائية الحالة العنفية، ولا يملك الأطفال ما يؤهلهم لممارسة القتل، كما يفعله كبارنا، وهي ألعاب تتشابه في البيئات الشعبية جميعها بالمحتوى العام لها، ودلالات التفوق فيها، وإقصاء المهزوم منها بعيدًا عن متابعة النهائيات، ولكن طريقة تعاطيها في المسلسل من قبل المالك للعبة والمراهنين عليها، وما يعانونه من أمراض نفسية، حوّل نتائجها إلى كارثية، تشبه تمامًا لعبة الحياة في واقع مجتمعاتنا ذات الأغلبية الفقيرة، والأقليّة العددية لأثرياء السلطة والمتنفذين فيها.

وعلى الرغم من أهميّة مراقبة المحتوى المقدّم للأطفال، من أيّ جهة كانت، فإن اللافت في التحذير من المسلسل (الذي لم يُقدّم على أنه عمل للأطفال) جاء من أحداثه الدرامية فقط، بما تضمّنه من مشاهد دموية، وليس من تأثير النص السلبي كنتيجة عامة تسببها الظروف القاهرة والحياة البائسة للفقراء، ما يعني أن التحذير هو طلب المنع عن المشاهدة بقوّة السلطة، بالرغم من أن المسلسل ليس معروضًا على أقنية البث الحكومية لأيّ من الدول العربية، وهو ليس فيلمًا كرتونيًا لهم يمكن البحث في أخلاقياته وقيمه التوجيهية، ومدى تطابقها مع ما هو مسموح أو ممنوع في دولنا، وهو في متناول الجميع، ككل المنتجات السلبية والإيجابية التي تبيحها وسائل التواصل الحديثة.

 إن الاقبال على متابعة المسلسل جاء نتيجة طبيعية لتقديم أحداثه المكتوبة ببساطة السرد، بأداء مميز لأبطاله وتقمّصهم لسمتي اليأس والأمل، وربما كان هذا هو السبب المباشر لانتشار المسلسل، وتجاوزه كلّ الأرقام السابقة له في عدد المشاهدات، ونسب توزيعها على دول العالم، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأهم في صناعة الدراما منذ العام 1913 حتى يومنا هذا، بشقيها الترفيهي الهوليودي، والحقيقي الدموي، وبالتحديد في مشرقنا العربي.

بالطبع، لم تكن دولنا العربية خارج سباق التنافس على المشاهدات والتأثر بها، والتماهي مع أحداثها، وكأننا نرى حياتنا في المرآة على مستويين، المراهن والرهينة:

أولهما، الحكومات المنتشية بهزيمة شعوبها ومشاهدة قوافل موتهم، كأحصنة تتساقط في مضمار مخيف، كحالنا “السورية”، مرة بالرصاص والقنابل، وتارة بقذائف المدافع، لكل مخالف لتعاليم السلطة، أو حتى المتعاطف معهم بالرأي ضدهم، أو بوسائل القهر الأقدم التي اعتمدت مقولة التجويع للترهيب، في مثل مخجل، طالما اعتمدته أنظمة شمولية استبدادية كثيرة: “جوّع كلبَك يتبعْك”، وهو ما نجحت فيه كل قوى الاستبداد في جرّنا إلى معركة الموت، أو الحرب بمعناها السلمي والمسلح، من أجل لقمة العيش.

 وثانيهما، هو نحن، من الرهائن الذين يصارعون من أجل البقاء، حتى عندما يذهبون إلى لعبة الموت بإرادتهم المغتصبة، هذا هو المستوى الآخر لتشابهنا مع هذا المسلسل الدموي، الذي لا يمثل حياة فقراء كوريا، بل يتعدى ذلك عالميًا، حيث إنه يحوي تفاصيل دقيقة عن يأس مجتمعاتنا، واختفاء أحبتنا من بيننا. وسورية واحدة من تلك الدول التي يختفي شبانها بحثًا عن فرصة النجاة، مرة باللجوء، وتارة بالذهاب إلى حروبٍ ليس لهم فيها ناقة أو جمل، ليكونوا وقودًا للعبة يتسلّى فيها الكبار الموترون.

فهل الاقتتال الذي اقتيد إليه شباب سورية، كمقاتلين يقتلون بعضهم بعضًا، كما حدث ويحدث بين الفصائل المحسوبة على المعارضة، أو في حرب الخصوم الأصدقاء “روسيا وتركيا” على أرض ليبيا بأدواتهم من السوريين على جانبي المقتلة، ليس لعبة “حبّار أو موت”، يذهب إليها السوري اليائس من فقره أو نجاته، أو الباحث عن فرصة حياة لأهله، أو حتى ممن هم على قائمة المجرمين؟ هذه التفاصيل جميعها في المسلسل هي عالمنا المليء بالمراهنات علينا، وموتنا المحتوم تحت قيد لعبة السلطات، قنصًا بالرصاص أو ذبحًا بالسكاكين.

 يحتاج النجاح الباهر الذي حققه المسلسل الكوري، على بساطة فكرته وإخراجه، وبعض محاولاته الفاشلة في اقتناص دهشتنا، إلى مُشاهدٍ يرغب في رؤية نفسه بطلًا، وإن كانت نهايته الموت، لقد كنّا جميعًا نلعب معهم داخل لعبة الحبار، نتحرك مع إشارة خضراء وإشارة حمراء، ونتوقف بذات التوقيت عند رغبة الحاكم، كما اعتدنا لعقود أن نلتزم التعليمات، وعندما عجزنا عن تنفيذ الأوامر، قتلنا بالرصاص.

 ربما كان نجاح الإمتاع في أيّ عمل درامي يحتاج إلى مقومات، أهمّها أن يستطيع كاتب العمل ملامسة دواخل الناس الخفية ونوازعها، وأن يقدّمها ممثلون بملامح طبيعية تشبه ما يطبعه الزمن على وجوه العابرين فيه من الناس العاديين، وهذا ما فعله العمل، اعتمد بساطة أحلام الفقراء في تجاوز مآسيهم، في لعبةٍ تتساوى مخاطر الاشتراك فيها مع مآلات تجنبها، هي ساوت بين “الموت والموت”، مع فارق الحلم أن النجاة ممكنة بالربح، ولكنها مستحيلة مع الفقر وانعدام فرص الأمل.

 وفي المستوى الآخر، يجلس المراهنون على أحصنتهم، بكامل دوافعهم المرضية والسلطوية والرغبوية، لنرى حياتنا من منبر لعبةٍ يتحرك اللاعبون فيها داخلنا، وننهزم مع كل ضحية، ليبقى الأمل معقودًا بأنّ أحدًا منا ربما ينتصر بموتنا.

هي المعاناة من الفقر التي تصنع سلوكات عامة متقاربة لعموم الفقراء في المجتمعات المختلفة، حتى تكاد ردات الفعل تتقارب إلى درجة التطابق، سواء لجهة الاستسلام التام لحياة خارج منظومة الحقوق الأساسية لهم من قبل حكوماتهم ورجالها، أو لجهة البحث عن حلول خارج إطار المنطق، وبالمقابل، يمارس الفاعلون الأساسيون في صناعة القهر الأساليب ذاتها في تحويلنا إلى أحصنةٍ يراهنون عليها، حتى يحين موعد موتها أو ثورتها، والخيارات دائمًا مفتوحة!