أعلن مركز حرمون، في نهاية تموز/ يوليو، نتائج موضوع جلسات الحوار الوطني الأول، التي عُقدت بمبادرة مشكورة من مركز حرمون ذاته، بغرض التباحث حول القضايا الوطنية الأساسية التي تشكّل أسس إعادة بناء الدولة السورية بجوانبها الرئيسية. ولا بد في البداية من الثناء على مبادرة المركز، نظرًا لفرادتها في الحالة السورية أولًا، وثانيًا بحكم حاجة الساحة السورية إلى تفعيل المبادرات الحوارية والاستشارية حول مختلف القضايا الوطنية، ومنها قضايا الوطن والمواطنة والحقوق والأهداف والاستراتيجيات وغيرها من القضايا المحورية، ولا بدّ أيضًا من الثناء على مسارعة المركز في إعلان نتائج نقاش الموضوع الأول من الحوارات، وتحديد المواضيع المتفق على نقاشها وإمعانها دراسة، الأمر الذي قد يُسهم في مشاركة أوسع من خلال متابعة المواضيع والحوارات والتعليق عليها، تأييدًا أو نقدًا.
وفي السياق ذاته، لا بدّ من التأكيد على جانب مهمّ يرتبط بالحوار وبموضوعاته، لا تساورني الشكوك حول إدراك المركز والقائمين على المبادرة لأهميته، بل ربما تبنّيهم له، وإن أغفلوا ذكره الآن، وهو المعبّر عن ضخامة المهمّة المعلنة، وصعوبة حصرها بطيف ثقافي أو سياسي محدد، وعن ضرورة اعتبارها خطوة أولى ضمن سلسلة من الخطوات اللاحقة الضرورية، من أجل توسيع المشاركة في الحوار أولًا، ونقله من المستوى النخبوي إلى المستوى الشعبي قدر الإمكان، ثانيًا؛ إذ يستدعي تحقيق ذلك مزيدًا من المبادرات الجريئة والخلاقة والبناءة والقيمية المشابهة لمبادرة المركز المذكورة، بموازاة هذه المبادرة أو على التتابع معها، فمسار الحوار الوطني طويل وشاق، ولا سيّما في ظلّ التشتت الجغرافي السوري، وتعدد قوى الاحتلال والهيمنة داخل سورية، وبحكم الارتباطات الإقليمية والدولية التي تحكم توجّهات البعض، فرديًا وجماعيًا. ولم يغب عن ذهن المركز دعوة الجميع إلى المشاركة في نقاش مخرجات الحوار، عبر إرسال موادهم إلى المركز، ما يؤكد إدراك المركز لأهمية توسع المبادرة وتمدّدها، أفقيًا وعموديًا، إن جاز التعبير، وهو ما نأمل تحقيقه في الأيام القادمة، بالمشاركة الكتابية أو عبر مبادرات خلاقة جديدة.
ومن بعد الإشادة بالمبادرة، والإشارة إلى سياقها التراكمي، أجد أنّ من المهم لفت الأنظار إلى الجزئيات المغيّبة عن موضوعات الحوار، وفق ما أعلن من نتائج جلسات الموضوع الأول، على أمل تداركها في الجلسات القادمة وتضمينها في مواضيع جلسات الحوار القادمة، وأعتقد أن تحقيق المهمة التي وضعها المركز لجلسات الحوار، متمثلة بـ “المساهمة في بلورة توافق لرسم أسس الدولة السورية القادمة التي يريدها السوريون، ويعملون من أجلها، بما يشكل بداية لتجميع قوى السوريين”، توجب نقاش دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، وعدم الاكتفاء بنقاش الأسس التي تُرسخ النظام الديمقراطي فقط، فالديمقراطية السياسية لا تمثّل مجمل أهداف السوريين، ولا تضمن وحدها الحفاظ على وحدة وحقوق الشعب السوري، ولنا في التجربة التونسية نموذج واضح عن قصور الديمقراطية السياسية في صيانة حقوق المواطن والوطن، وفي صيانة ذاتها أيضًا.
اتفق المجتمعون أو المتحاورون على تحديد الموضوعات الوطنية ذات الأولوية، وفق 10 بنود تتحدث جميعها عن طبيعة النظام السياسي والحقوق السياسية، ومنها ثلاثة بنود تبدو منفصلة قليلًا، تتحدث عن ضمانات استقلال القضاء، وحقوق النساء والمساواة بين الجنسين، وحياد الجيش والأمن تجاه السياسية، وخضوعه للسلطة المدنية المنتخبة. ويبدو من البنود العشرة المقترحة أنها تتمحور حول طبيعة النظام السياسي الديمقراطي بشكله الليبرالي، ما يزعزع من ارتباط المواضيع المقترحة مع حيثيات الحالة السورية، ولا سيّما شقّها الاجتماعي والاقتصادي، التي عكستها أهداف الحركة الثورية السورية منذ يومها الأول (لوائح المطالب المعلنة في أكثر من مدينة وبلدة سورية)، ولا سيّما ما يتعلق بالتعليم والطبابة المجانية، والرعاية الاجتماعية، ومسؤولية الدولة تجاه العاطلين عن العمل وتجاه أصحاب الدخل المحدود، وكذلك ما يخص طبيعة النظام الاقتصادي، وموقع الدولة منه، تخطيطًا ومساهمة وتنظيمًا، ومن ثم دورها في تحديد المجالات الاقتصادية الاستثمارية، ودعم القطاعات العلمية المرتبطة بالمشاريع الاقتصادية الإنتاجية السورية.
فمن مراجعة أحداث وتطورات الثورة السورية بموجتها الأولى، وخصوصًا في أشهرها الأولى، نجد عشرات الأمثلة على دور القضايا الاجتماعية والاقتصادية في دفع الشارع السوري نحو الثورة على النظام، بل قد يصحّ اعتبارها أساس الحركة الثورية، وبناء على ذلك؛ لا يمكن نقاش أسس سورية القادمة دون التطرق إلى هذه المواضيع. وأعتقد أن سورية القادمة الديمقراطية، من دون أدنى شك، يجب أن تكون ذات اقتصاد منتج ومتطور، صناعيًا وزراعيًا، بغض النظر عن إمكاناتها السياحية وثرواتها الطبيعية الغنية والثرية، ومن دون ذلك، لن نتمكن من بناء دولة مستقلة ومتطورة يسودها رفاه اجتماعي، بين جميع أبنائها دون أي تمييز كان.
وفي ظلّ القوى الرأسمالية والإمبريالية السائدة عالميًا من ناحية أولى، وفي ظلّ الصراع الدولي على سورية وفيها من ناحية ثانية؛ لا يمكن بناء اقتصاد سوري منتج ومتطور، صناعيًا وزراعيًا، في ظل تحييد الدولة عن دورها الاقتصادي، تخطيطًا ومساهمة وتشريعًا، فالدولة تملك رأس المال الأكبر، خصوصًا إن أخذنا بعين الاعتبار عائدات الثروات النفطية والباطنية التي يفترض إخراجها من موازنة الدولة وتحويلها إلى صندوق استثماري يخدم الهدف الاقتصادي الإنتاجي. طبعًا، قد يصعب تنفيذ ذلك، منذ اليوم الأول لبناء سورية القادمة، نظرًا إلى مهمات ومسؤوليات الدولة تجاه عملية إعادة الإعمار.
ومن هنا، أعتقد أن موضوع إعادة الإعمار قضية شائكة ومؤثرة على المسار المفترض لسورية المستقبل؛ إذ قد يتحوّل هذا الملف إلى أحد مداخل الهيمنة الخارجية، والاحتلال الخارجي المباشر أو غير المباشر، الأمر الذي يجعل من ملفّ إعادة الإعمار قضية مفصلية وحاسمة، وإن لم تكن قضية دستورية، ولذلك لا بدّ من نقاشها والتباحث بها وبشروطها وسُبلها وحيثياتها أيضًا. طبعًا، هناك قضايا أخرى ذات ارتباط بالحقوق الفردية والجماعية، ولا سيّما حقوق الأقليات ومسألة الأمّة، وهي تستدعي أيضًا كثيرًا من التباحث بشكل مفصل ودقيق وعلمي وقانوني، لكني لن أخوض فيها الآن، نظرًا لاحتمال تضمنها في تفصيلات البند السادس، المعني بالحقوق والحريات الفردية والعامة ومرجعيتها، لذا يفضّل أن ننتظر ونرى ما سوف تتمخض عنه جلسات الحوار القادمة، ولنا في المستقبل تعقيبٌ آخر على مسار الجلسات والحوارات الحاصلة ونتائجها.