ما زلت أستغرب أن تغيبَ قضية العدالة الاجتماعية عن اهتمام الناس الواعي والمدرك، وأن تغيب عن مناقشاتهم اليومية وعن الكتابة عنها والبحث فيها، على الرغم من أن انشغال كل إنسان بمكوناتها وآثارها على حياته يستغرق جلّ يومه، ولكن ذلك الانشغال يبقى دون مستوى الوعي والإدراك العاقل!
العدالة الاجتماعية تعني مقدار عدالة ما يحصل عليه معظم الأفراد من دخلٍ/ أجر، لقاء عملهم وجهدهم ومساهمتهم في إنتاج السلع والخدمات، وهو دخلٌ بالكاد يغطي احتياجات معظم سكان العالم وفق شرطهم الاجتماعي، بالمقارنة بما يحصل عليه آخرون، حيث إن هناك من يحصل على دخول أعلى بمرّات، أو بعشرات المرات، أو بمئات المرات، أو بآلاف المرات، بالنسبة إلى كبار الأغنياء، وهم قلة نادرة.
يُعدّ دخل الفرد أحد أكبر هموم الناس عمومًا، في جميع دول العالم، لكونه يستغرق تفاصيل حياة الفرد كلّها؛ حيث يرتبط مستوى ذلك الدخل، بنوعية الطعام الذي يتناوله الفرد مع أسرته، وبمستوى البيت الذي يسكنه (حجمه وموقعه وما فيه من مفروشات وأدوات وتجهيزات)، وبنوعية اللباس والهندام، وبوسائل الراحة والانتقال، كما يرتبط بمستوى مدارس أولاده وبمستوى تعليمهم، وبعدد أيام الراحة والاستجمام التي تقضيها الأسرة، وبمستوى الرعاية الصحية التي تتلقاها.. ويمكن تعداد أمور كثيرة كلها ترتبط بمستوى دخل الفرد، وتؤثر في نمط حياته، وتحدد شدة صعوباتها، وتتدخل في رسم خط سعادته وتعاسته وأمراضه الجسدية والنفسية. إن مسألة الدخل ومستواه تكاد تصاحب رَبّ أو ربّة العائلة وبقية أفراد الأسرة، طوال حياتهم.
أتفهّمُ سعي الأغنياء، ممن يستولون على حصص كبيرة من الدخول، لطمس مناقشة قضايا الدخل والعدالة الاجتماعية، ولكني لا أستطيع أن أتفهم مسألة ابتعاد معظم الناس -أصحاب المصلحة- عن الاهتمام بمسألة الدخول وبعدالة توزيعها، وغيابها عن مناقشاتهم وأحاديثم اليومية.
عندما أقارن رواتب أفرادٍ يؤدون أدوارًا أهمّ وأكبر من غيرهم، وينتجون أكثر، برواتب آخرين يؤدون أدوارًا أقل أهمية بكثير، ويحصلون على دخول أعلى بكثير؛ أرى زيف الأنظمة السائدة القائمة على الربح التي توزع الدخول على الناس بموجبها.
ببساطة، لا يوجد أي منطق إنساني يقبل هذه الفروقات الهائلة بين الناس، وهذه ليست دعوة للمساواة الميكانيكية بين البشر، حيث إن الناس -بطبيعتهم- غيرُ متساويين في صفاتهم واستعداداتهم وقدراتهم وتأهيلهم واجتهادهم، وهذا يعني أن مساهماتهم في مجتمعهم وقدراتهم على الإنتاج ليست واحدة بالضرورة، ولذلك لا بد من أن يكون ما يحصلون عليه متفاوتًا، بتفاوت إنتاجهم ومساهماتهم، فالمساواة الميكانيكية ظالمة ومجحفة ومخرّبة أيضًا؛ لأنها تقتل الحافز وتساوي بين المبدع وغير المبدع، وبين المجتهد وغير المجتهد. ولكن ثمة أسئلة يجب أن تُطرح: كم هي الفروقات المنطقية والمعقولة بين البشر؟ وكم تبلغ الفروقات في مساهماتهم في الإنتاج وفي بناء مجتمعاتهم؟ وهل ذلك المبلغ الكبير الذي يحصل عليه الأغنياء هو تعويض عادل، مقابل إنتاجهم وأدوارهم ومساهماتهم في مجتمعاتهم؟ أم أن الجزء الأكبر منه هو استيلاء على ما أنتجه آخرون، عبر أنظمة سياسية واقتصادية سائدة، هي -من حيث توزيع الدخل- أشبه بأنظمة أندية القمار، وبسبب قيم ومفاهيم مغلوطة أشاعها المالكون للثروة والسلطة منذ آلاف السنين، عبر قدرتهم على التأثير، وخاصة في زمننا الحديث، حيث باتوا يستخدمون الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية، للحفاظ على مكتسباتهم والوصول إلى أغراضهم؟!
عندما أقارن رواتب أفرادٍ يؤدون أدوارًا أهمّ وأكبر من غيرهم، وينتجون أكثر، برواتب آخرين يؤدون أدوارًا أقل أهمية بكثير، ويحصلون على دخول أعلى بكثير؛ أرى زيف الأنظمة السائدة القائمة على الربح التي توزع الدخول على الناس بموجبها.
قارنوا -مثلًا- راتب رئيس جمهورية منتخب ديمقراطيًا ويتولى إدارة البلاد، أو راتب وزير يتولى إدارة قطاع من المجتمع، وهي مهام كبيرة وحساسة، وكل قرار من هؤلاء قد يخلق منافع كبيرة أو أضرار كبيرة على فئات ضيقة أو واسعة، قارنوه مع راتب مالك شركة صغيرة، بمهمة محدودة لا تقتضي مؤهلات تُذكر، أو قارنوه براتب ودخل وأرباح مالك شركة كبيرة، أو مع دخل مالك شركة عملاقة؛ وسترون الفارق الهائل، على الرغم من أن دور رئيس الجمهورية والوزير هو أكبر بكثير من دور هذا الفرد الذي يفوض آخرين بإدارة شركته. أو قارنوا راتب مدير شركة حكومية عملاقة، بدخل مدير أو مالك شركة مماثلة من حيث الحجم والقطاع، وسترون الفارق الكبير جدًا بين دخل هذا وذاك، مع أن الدور الذي يقوم به كلاهما متشابه. ويمكن أن نذكر في هذا السياق الجهودَ التي يبذلها باحثون يعملون على تطوير لقاح لوباء كورونا، ودواء لمعالجة المرضى. هذا الأمر العظيم في أهميته سينتج فوائد كبيرة، ليس على الباحث الذي طور اللقاح أو الدواء، بل على مالك شركة الأدوية التي تنتج اللقاح والدواء وتسوّقه، بينما لا ينال الباحث/ الباحثون سوى جزء يسير، لا يقارن بما يجنيه مالك الشركة. أو قارنوا دخول فنيين ومهندسين وماليين يديرون شركةٍ ما، بدخل مالك الشركة نفسه، الذي يجلس في بيته، بينما تُحوّل الأرباح إلى حسابه دون أن يبذل هو شخصيًا عُشر جهدهم. وثمة أمثلة كثيرة مشابهة عبر التاريخ القديم والحديث.
الفارق هنا هو “الملكية” وعائدها أي الربح، وهذا يعيد طرح السؤال القديم: هل عائد الملكية الكبيرة هو دخلٌ منطقي ومشروع ويقبل به عقل، وخاصة عندما يبلغ مستويات مرتفعة جدًا؟!
من المنطقي أن يتم ربط دخل الفرد بمدى مساهمته في إنتاج السلع والخدمات، من خلال عمله ودوره وجهده الذهني والعضلي المبذول في عملية الإنتاج الاجتماعي. وعلى الرغم من صعوبة هذا الحساب وهذا الربط، فهو قابل للتطبيق نظريًا، مع أنه غير ممكن عمليًا الآن، وعلى ذلك؛ من الصعب القفز إلى نظام مجتمعي يُنتج عدالة اجتماعية حقيقية، ولكن ما هو ممكن الاقترابُ تدريجيًا من مجتمع العدالة، عبر تطبيق سياسات تحقق عدالة اجتماعية متصاعدة نحو الهدف الأسمى، وهو الوصول إلى مجتمع العدالة المجتمعية، مجتمع الديمقراطية السياسية المرتبطة عضويًا بالديمقراطية الاقتصادية -الاجتماعية، الذي ينمو تدريجيًا في قلب المجتمع القائم، أي في قلب مجتمع اقتصاد السوق القائم على الربح، حيث تتخلله وتخترقه تنظيمات مجتمعية تحقق درجة أعلى من العدالة في توزيع الثروة، وفقًا لقاعدة المساهمة في الدخل، وهي تنظيمات موجودة الآن قائمة في قلب هذا المجتمع القديم، ولكن دورها ما زال ضعيفًا، وتنظيمات يتم تطويرها أو ابتداعها من جديد من خلال الدراسة والتحليل للتجارب، ويتم ذلك بدفع قوى مجتمعية مدركة لمصالحها في تحقيق مجتمع أقل ذئبية مجتمعية وأكثر عدلًا و سعادة.
يمكننا هنا أن نحدد المبادئ/ القواعد الرئيسة التي تحقق هذه العدالة الاجتماعية المتنامية، وهي مبدأ اقتصاد السوق القائم على حرية الاستثمار والدخول والخروج من السوق، وتشكل الأسعار بحسب قاعدة العرض والطلب؛ ومبدأ الجمع بين سياسة تنموية تحفز القدرة الإنتاجية لإنتاج السلع والخدمات وإنتاج الدخل؛ ومبدأ العدالة المتنامية في توزيع الدخل من خلال سياسات تعزز العدالة وتتجنب التأثير السلبي في القدرة الإنتاجية للفرد والمجتمع (تجنب تجارب النموذج السوفيتي)؛ ومبدأ وجود مختلف أشكال الملكية التي تتنافس فيما بينها لإثبات جدارتها، وتوسيع قاعدة الملكية بحيث توسع قاعدة توزيع الدخل مع حزمة سياسات تعزز توسيع قاعدة الملكية؛ ومبدأ سياسة أجرية أكثر عدالة ترفع حصة الأجور في توزيع الدخل، على حساب حصة الأرباح وتعزيزها بمجموعة من التشريعات الخاصة بالأجور والمزايا وسوق العمل التي تربط الأجر بالإنتاجية؛ ومبدأ دور الدولة الذكية التي تقوم بدور الحكم بين طبقات المجتمع وفئاته، وبدور تنظيمي فاعل، ودور استثماري مكمل غير احتكاري يوفر البيئة الصديقة للاستثمار والإنتاج؛ ومبدأ الشركة مؤسسة اجتماعية؛ ومبدأ المجتمع الفاعل كشرط أساس لقيام هذا النموذج، ومن دون قوى مجتمعية فاعلة تتبناه لن يكتب له النجاح.
نختم بالقول إن اعتبار المجتمع الرأسمالي القائم على الربح مجتمعًا ديمقراطيًا شاملًا قائمًا على العمل، يبدأ عندما يصبح الجزء الأعظم من السكان مالكين لملكيات صغيرة في مؤسسات صغيرة أو كبيرة تدرّ عليهم دخلًا، وتصبح الملكية الفردية الصغيرة والملكية الخاصة المشتركة او الجماعية والتعاونية والمساهمة غير الاحتكارية والنقابية والحكومية هي التي تؤدي الدور الأكبر في الاقتصاد، وتشغّل العدد الأكبر من المشتغلين ولها الحصة الأكبر من حيث امتلاكها لقيمة الأصول، وتنتج الجزء الأكبر من الناتج المحلي الاجمالي، ولكل من هذه المبادئ تفاصيل كثيرة.