بالقدر الذي كشفت فيه كورونا هشاشة المنظومة الرأسمالية التي ذهب الوهم بكثيرين إلى أنها قاربت قدرة مطلقة، بسبب التقدم الهائل في التكنولوجيا، نظن أنها كفيلة في الوقت عينه بقدح زناد نقاش جديد، حول علاقة التصورين العلماني والإيماني؛ فالتصوّر العلماني الذي يستمد مبرراته من الاختبار العقلي، والذي يتعالى حاملوه على غيرهم بسبب الاستناد إلى العقل كحاكم مطلق ونهائي، لم ينجح في مواجهة أنواع القلق الوجودية التي يقع الموت في مقدمتها، وبدا ضعفه أكثر من أي وقت سابق في مواجهة فيروس، استحال الموت بسببه من خطر في الأفق إلى خطر ماثل متربّص بالأفراد في كل مكان.

ولعل إعادة النظر في علاقة هذين التصورين تعيد قدرًا من التوازن المفقود في عالم الرأسمالية المتوحشة؛ هذا التوازن الذي ينشأ من محاولة مقاربة أبعاد الإنسان القصيّة بوسائل لا تصلح لهذه المقاربة؛ بمعنى أن الانفتاح والتجاوز واليقين والرجاء والثقة التي ينطوي عليها التصور الإيماني، لا يمكن أن تكون مواضيع لاختبارات تجريبية لا تلقي بالًا لبُعد الإنسان الروحي، وتضع في الهامش تشوفاته لفهم أكبر لأبعاد خارج نطاق المحسوس.

ولعل هيمنة التصور العقلي كانت من أسباب تفاقم ظاهرة القلق في الغرب، هذا القلق الذي يجد دوافعه في الخوف من المجهول الذي يتربّص بالإنسان، بعد أن تنتهي فترة حياته على هذه الأرض، فهذا التصور لم يتمكن من تسكين القلق؛ لأنه لا يقدم إجابات ناجزة عما يكمن خلف منعطف الحياة، ولهذا تجد ندرة نسبية في علم النفس الغربي للأبحاث التي تناقش الموت، إذا ما قورنت بالأبحاث التي تناقش مواضيع أخرى، كالعدوان والاكتئاب والشذوذ الجنسيّ؛ بسبب النفور من هذه الحدث القادم مهما استبطأه الإنسان، وبسبب العجز عن معرفة كنه ما يكمن خلفه بالأساليب التجريبية.

إن القلق من هذا الحدث الذي يمثل يقينًا مكروهًا أصبح يقتضي بحثًا جادًا، في استعادة التوازن بين الفضاءين العقلي والإيماني اللذين فصلا فصلًا قسريًا مجافيًا لطبيعة الإنسان؛ فلا التصور الإيماني يحق له إقصاء التصور العقلي الذي يقدم الإجابات المستندة إلى البحوث العلمية التجريبية، ولا التصور العقلي يحق له الادعاء بأنه كفيل بتقديم أجوبة عن كل ما يشغل الإنسان بأبعاده الروحية والوجدانية.

ولعل هذا الفيروس المجهري الذي تمكّن من حبس سكان الكوكب في بيوتهم قادرٌ على إحداث أثر أكبر من الأثر الذي سببه فقدان الإنسان الغربي الثقة بالمطلق عندما فصل علاقته بالسماء، وفقدانه الثقة بالعلم بعد أن شهد حربين عالميتين، فدأب على البحث عن بديل لله وللعلم.

وعلى الرغم من أن التصور الإيماني سيشرع -كما نزعم- في استعادة مكانته؛ فإن هذه الاستعادة ستترافق مع إعادة نظر في الأصول اللاهوتية، بما تعنيه من صياغة تبريرات لهذا التصور الإيماني؛ فقد أثبت الفاعلون الاجتماعيون، ممن يناط بهم التعبير عن هذه الصياغات، أن صياغاتهم لا تُفلح في تشكيل وعي مطابق، ولا تستطيع أن تواكب الحاجة إلى خطاب إنساني عابر للمنظومات اللاهوتية السائدة القائمة على الإغلاق العقيدي؛ ذلك أن سذاجة خطابات اللاهوتيين من كل الأديان، والتي كررت نفسها في خطاب إقصائي يدعي كلُّ طرف فيه احتكار الحقيقة، تمثّل حلولًا جزئية قاصرة عن مواجهة حدث كوني يهدد الإنسانية كلها، ويوحدها في القلق الذي أصبح قادرًا على إقصاء أسباب تشتتها وافتراقها.

وإذا كان التصور الإيماني يؤسس لعلم أصول إيمانية، والتصور اللاهوتي يؤسس لعلم أصول لاهوتية؛ فإن التصور الديني الذي يقوم على أساس اجتماعي وسيكولوجي يؤسس لعلم أصول دينية تبحث في أثر الدين في المجتمعات وفي الأفراد، وهو ما سيكون مشتقًا أكيدًا لاستعادة التوازن بين التصورين العقلي والإيماني، ولكنه يقتضي بدوره صياغة عصرية له تُلقي بقديمه وغير النافع منه، وتؤسس لجديد يستجيب للحاجات الجديدة الراهنة.

فهذه الأصول تقتضي مقاربة شجاعة لتجديد كثير من مفاهيمها، ويمكن القول -بشيء من التجوز- إنها لم يتح لها من يقاربها مقاربة تجديدية حقيقية، وظل أصحاب الفكر الديني يحومون حول سطوحها، بينما يطالب أهل الفكر المغاير بنسفها، وقد أصبحت بفعل القلق الوجودي الشامل الذي يجتاح سكان الكوكب كله قابلةً أكثر من أي وقت مضى للحفر فيها وصياغتها بطريقة معاصرة.

ويمكن القول من زاوية أخرى: إن الحاجة إلى الدين سببها ثلاثة أنواع من القصور البشري: الأول قصور معرفي يدفع إلى طرح أسئلة من قبيل: لماذا تكون الأشياء على ما هي عليه، وهو ما يمكن للحدث الهائل الذي تمر به البشرية اليوم أن يجعله قصورًا له موقع الصدارة؛ فسكان الكوكب اليوم يتساءلون: لماذا نُقتل وتُهدم كل أحلامنا ونفارق أحبابنا، بفعل فيروس تطور تطورًا طبيعيًا، كما يقال؟! والنوع الثاني قصور مادي ناتج عن الريبية في الفعالية الإنسانية، لما تنطوي عليه من قابلية للإخفاق، وقد جعل كورونا من هذه الريبية أكثر تجليًا في ذهن الإنسان، بعد أن فشل كل التقدم العلمي في مواجهة فيروس مجهري! والنوع الثالث قصور وجداني، سببه استشعار الإنسان الشر والتعاسة الوجوديين، وهو قصور يجعله بحاجة إلى الشعور الديني لكي يقاوم هذا الشر وهذه التعاسة، وقد بلغا اليوم بفعل كورونا ذروة قصوى.

إن استعادة التصور الإيماني مع تجديد الأصول الإيمانية، واشتقاق أصول لاهوتية مواكبة تعبّر عن هذا التصور الإيماني بما يناسب الواقع الجديد، وصياغة أصول دينية معاصرة تنطوي على مقاربة جادة لأثر الدين، ثلاث نتائج نظن أن القلق المهيمن اليوم سيعمل على تحقيقها.

والاعتراف بأن الدين لا يختزل في مجرد شعور ديني يواجه قصورًا وجدانيًا، وإنما هو نتيجة قصور معرفي وقصور مادي يضاف إلى القصور الوجداني، هو نتيجة نظن أنها حتمية لما يعانيه إنسان اللحظة الحاضرة من قلق يجتاح كيانه بكل أبعاده.

كان البحث عن مركز يعوّض الإنسان الغربي فقدانه الله وفقدانه الثقة بالعلم قد جسده غودو في انتظاره لمجهول لا يأتي، ولعل البشرية كلها اليوم قد أصبحت معادلًا موضوعيًا لمنتظر غودو، ولكنه هذه المرة لا بد أن يأتي بإبداع الإنسان وفعاليته واستثماره لكل أبعاده المعرفية والمادية والوجدانية.