رافق تكوّن جنين المجتمع تكوّن جنين الدولة، فوضعت البشرية قدمها على أول درجات سلم الحضارة بهذا التوءم.
منذ تجمع البشر في الغاب وبشقوق الجبال، تطلبت حماية هذا التجمع وقيادته في الطبيعة تطور جنين “الدولة” مع تطور المجتمع وتعدد حاجاته وظهور الملكية الخاصة والاستقرار في القرى البدائية والإنتاج البشري، بما فيها القنانة والزراعي والحرفي وتدجين الحيوانات.
لقد فرضت الحياة تطور جنين الدولة إلى كائن منفصل عن المجتمع، واحتاج هذا الكائن إلى سلطة يستدعيها جنين ثالث وهو “العقد الاجتماعي” الذي يحتكم إليه المجتمع الأهلي والدولة، وهذه بداية “الدستور”.
في هذه المرحلة من تطور الحضارة وارتقائها، بدأ التناقض بالظهور بين جنين الدولة (وقد أصبح دولةً بيدها “سلطة” تمكنها من الحكم والتغول في آن على المجتمع) وجنين المجتمع الذي تعددت حاجاته وأشكال تجمعه من فئات ومكونات مجتمعية وإنتاجية، وتوسع القرى إلى مشروع مدن ووجود “دستور”، فظهرت هيئات ولجان مجتمعية تحمي مكونات المجتمع الأهلي وصولًا إلى تعبيرات المجتمع المدني، من جمعيات وأندية واتحادات ومنظمات ونقابات ومؤسسات دينية، إلى الإعلام والأحزاب السياسية ورأي عام وحماية البيئة وفصل السلطات.
إن المجتمعات التي أنجزت بناء دولها المدنية الحديثة، وفرضت فيها تعبيرات المجتمع المدني نفسها، لم تعد بحاجة إلى هيئات ولجان مدنية أو تجمعات باسم “التجمع المدني”، لكن المجتمعات التي ما زالت تدور في أطر وتعبيرات مجتمعية أهلية أي ما قبل مدنية وما قبل وطنية، ما زالت بحاجة إلى تنمية هيئات ولجان مدنية ورعاية تعبيرات المجتمع المدني.
لنأخذ نموذجًا للبحث “السلطة الرابعة” الصحافة والإعلام بوصفها إحدى حاجات المجتمع المدني الحديث وتعبيراته، وللذكرى كانت عشرات الصحف والمجلات تباع على الأرصفة وفي المقاهي في المحافظات السورية معظمها في خمسينيات القرن الماضي، وكان شرط وحدة 1958 بين مصر وسورية حل الأحزاب وإغلاق الصحف، لكن محاولة وأد جنين دولة ما بعد الاستقلال بدأت بانقلاب عام1952 في مصر و1963 في سورية، ومحاولة الوأد المخطط لهذا الجنين حدثت بعد انقلاب عام 1970، فحلت صحفٌ رسميةٌ تُراقبُ، وتطبعُ بطابَع واحد ممهور بخاتم مالكها الحصري الحاكم والنظام.
حرية التعبير والعقيدة الدينية والفكرية والسياسية أول شرط لعمل السلطة الرابعة بوصفها إحدى تعبيرات المجتمع المدني، ويكفي لإشهار الصحف “علم وخبر” يُسلم لإحدى مؤسسات الدولة المدنية المختصة، وشرطه الثاني وقوف الدولة على مسافة واحدة من وسائل الإعلام كافة، فلا تتحيز لإحداها ولا تحابيها، ولا تفرض عليها قيودًا على النشر ولا تغلقها ولا تصادرها إلا بحكم قضائي، ويحكم عمل وسائل الإعلام حرية الإعلام عبر حرية الآخرين وسيادة القانون.
ويكفي أيضًا إشهار الأحزاب “علم وخبر” يسلم لإحدى مؤسسات الدولة المدنية المختصة.
في ظلال الدولة المدنية لا حاجة إلى منشور سري، ولا إلى أحزاب سياسية سرية، ولا مسوّغ لتكوينات ولا لصحافة سرية، ومن ثم لا حاجة إلى تعدد الأجهزة الأمنية، ويكفي جهاز أمن واحد يحمي أمن المواطن والوطن من الخطر الخارجي، والمواطن يمارس حياته بحمى القانون.
في متغيرات سورية الراهنة ومسيرة ثورة الحرية والكرامة المتعثرة وأزمتها على سبيل المثال “الربيع العربي”، وفرت ثورة المعلوماتية أدوات حديثة ووسائل التواصل الاجتماعي على صعيد الإعلام، من الهاتف المحمول إلى النت والقنوات الفضائية، لكن هذا لا يلغي دور التجمعات والصالونات الأدبية والأندية والكتب والصحف والمسرح والفن السابع (السينما)، بل يعزز دورها ويرسخه، فمشاهدة فيلم في قاعة سينما أو مسرحية على خشبة مسرح، أو محاضرة في قاعة لا تشكل بديلًا للشاشة الصغيرة في المنزل وحسب، بل تتخمر فيها عقول المواطنين في القاعة وتتجادل وتنجدل في ما بينها، ويتفاعلون ويغتنون ويتعلمون من تجاربهم الفردية والجماعية، وتنمو فيهم روح الجماعة والمجتمع والشعور الوطني، وترتقي الأخلاق والقيم الإنسانية (ما حدث في ميدان التحرير في مصر نموذجًا) وهذا لا توفره الشاشة المنزلية الصغيرة ولا الكبيرة داخل البيوت المغلقة وضمن نطاق العائلة.
أول بلاغ تصدره الانقلابات العسكرية في بلاد العرب فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإغلاق الصحف وحظر التجمعات والتجول، والحد من حرية التعبير، وحصر دور وسائل الإعلام بالدوران في فلك سلطة النظام وتحت أنظار الحاكم، إنها محاولة لوأد جنين الدولة والمجتمع المدني. ولم يدرك حكام التوليتارية العرب بعد أن هذا العصر حصَّن المجتمعات ضد أشكال الاستبداد كلها.