قبل الحديث عن الصراعات الجارية في سورية اليوم، التي نشبت كنتاج لحرب النظام الإبادية في مواجهة غالبية السوريين أولًا، ولسلوك الفصائل العقائدية ذات الفكر الشمولي، سواء كانت دينية أو وضعية؛ لا بدّ من الحديث قليلًا عن تركيبة السكان في سورية.
يشكل العرب النسبة الغالبة من السوريين (85) في المئة، وهم يسكنون في مختلف مدن البلاد، ويتوزعون إلى أديان وطوائف عدة: فالمسلمون السنة هم الغالبية (65) في المئة من عموم السكان، وبعدهم العلويون (10) في المئة، والمسيحيون (9) في المئة، ثم الإسماعيلية والدروز والشيعة، ونسبهم صغيرة جدًا. يأتي بعد العرب، بفارق كبير، الأكراد، حيث يشكلون حوالي (10) في المئة من السكان، وغالبيتهم العظمى من المسلمين السنّة، أما الفرقة اليزيدية التي تنتمي إلى العِرق ذاته، فإنها تختلف معهم في الديانة، وعددها صغير نسبيًا قياسًا إلى عدد الأكراد، ثم يأتي التركمان ويشكلون حوالي (5) في المئة.
ليس الغرض من ذكر تلك النسب سوى الإشارة إلى أن المجتمع السوري مجتمع متنوع، عرقيًا ودينيًا ومذهبيًا، من دون نسيان الطبيعة الغالبة عليه، التي تشكل انتماءه العفوي والحقيقي، وهي العروبة والإسلام، كانتماء لا كأيديولوجية. وأن هذا المجتمع المتنوع عرَفَ في يومٍ ما حالة تعايش وانسجام وطني، وفق معايير تلك المراحل.
ابتدأت التغيرات الكارثية التي دخلت على حياة السوريين منذ انقلاب 8 آذار 1963، الذي صوّره حزب البعث كحدث قومي وعلماني، على الرغم من أنه فعليًا حدثٌ كرّس التحارب العربي البيني من جهة، ومن جهة أخرى رسم الطريق لتكريس النزعات الفتاكة في جسد المجتمع، وأهمها الطائفية والعشائرية والعرقية.
ثم أتى انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، الذي نفّذه الأسد وجعلَه الانقلابَ الأخير في سورية، حيث كرّس حكم العائلة الأسدية المستمر حتى اليوم، من خلال ترتيبه المريع لشبكات السلطة في سورية: المخابرات أولًا، والجيش ثانيًا، ومن بعدها المحسوبية (المال والجاه والنفوذ بمقدار الولاء لنظام المخابرات)، وعمد إلى تفكيك الروابط الأهلية في المجتمع السوري، وإعادة تشكيلها من جديد بما يخدم استمرارية حكم العائلة، فكرّس أولًا الطائفية في سلطته (الجيش والمخابرات)، مع تهميش لبقية المجتمعات، وفتح باب النفوذ لها بمدى الولاء له؛ فخلق ذلك حالة استعداء كبرى بين طائفته وبقية فئات المجتمع، وثانيًا، تشكيل ولاءات عشائرية مرتبطة أيضًا بنواة سلطته، وثالثًا، انتهاج سياسة عرقية تحت مسمى العروبة، في تهميش وقمع الأكراد كعرق، مع فتح باب الاستزلام للأحزاب الكردية.
كل تلك الشبكات المغلّفة بحزام أمني مرعب، يتدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية للناس، قضت نهائيًا على ما يُعرَف بالنسيج السوري الأهلي، وكذلك على الحياة السياسية، فحوّل الأحزاب إلى جهات لا تمارس السياسة، جلّ همّها أن تهرب من عسف أجهزة المخابرات، وخلق شبكات أمنية جديدة عابرة لكل السوريين، غايتها تخويف السوريين من بعضهم، وهو ما خلق -إضافة إلى خنق حريات السوريين وهدر كرامتهم- حالة إفقار وتهميش واسعين لهم.
هيّأت تلك التربة بذور التمرّد ضد هذا النظام، وكان عموم الناس ينتظرون الشرارة التي ستشعله. أتت ثورات الربيع العربي التي بدأت في آواخر 2010، ونجاحها في تونس ومصر، لتولع شرارة الثورة في سورية في ربيع 2011، وقد تعامل معها النظام الأسدي بطريقة وحشية منذ اللحظات الأولى، مكررًا تجربة حماة وسجن تدمر في الرعب، ومعتقدًا أن تخمد شرارة الثورة مباشرة، لكن حسابات النظام هذه المرة كانت خاطئة، فقد ردّ السوريون على عنف النظام بتوسيع نطاق التظاهر والاحتجاج ليعمّا مختلف المدن والبلدات والقرى السورية.
إضافة إلى البطش والقتل اللذين اتخذهما نظام الأسد سبيلًا للقضاء على الثورة، استقدَم النظام الميليشيات الطائفية تحت قيادة الحرس الثوري الإيراني، وصوّر الثورة، للأقليّات الدينية وخاصة الطائفة العلوية، على أنها تهديد وجودي لهم، واستحضر صورًا متخيّلة عن مذابح واضطهادات من التاريخ القديم بحقّهم، وباشر باستثمار ما زرعه من فساد وتفتيت بين السوريين، وخاصة في المجال الطائفي، وساعده كثيرًا، في ذلك، الموقف الدولي المتردد وغير الحاسم تجاه وحشية النظام، وتدفق المقاتلين الجهاديين من مختلف دول العالم بذريعة “نصرة” السوريين، من دون إذنهم، حيث باشر النظام بالترويج لمعركة بين نظام “علماني” وقوى “جهادية” متطرفة إسلامية معادية للغرب ولحقوق الأقليّات والنساء.
دعمت سيطرة داعش في العراق وسورية بقوة تصورات النظام، كقوى متوحشة معادية لحقوق الإنسان وللأقليات (المسيحيين والشيعة اليزيديين)، ولا سيما مع ظهور خطابها العدائي تجاه الغرب، وأسهمت جبهة النصرة في عمل مشابه، فضلًا عن ترويج الفصيلين لخطاب طائفي في مواجهة سلطة طائفية، وهو ما أفقد الثورة السورية عنصرًا مهمًا في توجهها (العنصر الوطني والديمقراطي) يتمثل في الشعار الذي رفعته منذ البداية: الكرامة والحرية.
من جانب آخر، دعم تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (PYD) الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، القائم بالأساس في تركيبته على نظام مخابراتي عقائدي، متذرعًا بمصالحه، نهج النظام في اتهاماته لقوى الثورة ولعموم العرب السوريين بأنهم إرهابيون ودواعش، مستغلًا أعمال داعش المتوحشة ضد السوريين، وخاصة اليزيديين، متوافقًا مع التحول الكبير في السياسة الغربية، وخاصة الأميركية، تجاه القضية السورية، التي حصرت سياستها بمحاربة “الإرهاب الإسلامي” المتمثل بداعش، والضغط السياسي من أجل تغيير سلوك النظام، وهو ما خدم موضوعيًا حملة النظام على جمهور الثورة.
أدت التدخلات الدولية والإقليمية العديدة في سورية، سواء إلى جانب النظام أو ضده، إلى تعقيد الحالة من جهة، ومن جهة أخرى إلى انحباس السوريين وقضيتهم بحالة يصعب الخروج منها، وكل ما يقال من العمل على تطبيق القرار (2254) وبيان جنيف، واللجنة الدستورية، كأحد مخرجات سوتشي في مواجهة القرار الدولي المذكور، لم يكن أكثر من تمضية الوقت بقصد تيئيس السوريين ودفعهم نحو القبول بأي حل تفرضه القوى الدولية، وخاصة روسيا، في وقت تتقدم فيه روسيا وإيران ونظامهما نحو مزيد من الأراضي وتهجير مزيد من السكان.
الأمر الأكثر سوءًا من كلّ ما جرى هو أن السوريين تخندقوا خلف هويات قاتلة: طائفية وعرقية ومذهبية، تخدم بالوكالة مصالح قوى إقليمية ودولية؛ فالنظام يصوّر لطائفته جمهور الثورة كعدو طائفي لا يمكن التصالح معه، بل يجب إخضاعه وكسره؛ وكذلك حزب الاتحاد الديمقراطي، بنزعته المخابراتية والعرقية المعادية للعرب ولكل قيم الحرية، إذ يتهم العرب بأنهم “دواعش”، ومن جهة ثانية، التنظيمات الجهادية المتطرفة التي تروج لمواجهة طائفية مع النظام وإيران، وعرقية مع الأكراد، متبادلين الصفات العدائية بحق بعض من (ملاحدة وكفار ومجوس ودواعش وإرهابيين)، وغير ذلك من التهم التي تعج بها بيانات كل طرف وصفحات جمهوره على وسائل التواصل الاجتماعي.
ترافق هذا الانحباس مع العجز الكامل لممثلي قوى الثورة، بكل صيغها (ائتلاف، لجنة مفاوضات، لجنة دستورية)، عن تمثيل الحد الأدنى من مطالب السوريين، وعدم القدرة على الدفع بمطالبهم وتقديمها بصورة صحيحة للعالم، ودخلت تلك القوى في حالة من الانسداد الكامل أمام قابلية الإصلاح والتغيير، فغدت ألعوبة أمام أعين جمهور الثورة، لا همّ لها سوى إصدار البيانات المنددة، والتقاط الصور التذكارية مع الأصدقاء.
أمام كل هذه المعطيات والوقائع؛ نسأل: ما الذي يمكن أن يُحدِث خرقًا في هذا السدّ المنيع، المتمثل بانحباس القضية السورية في قفص حديدي؟
ثمة خياران، لا ثالث لهما، الأول بقاء السوريين مرتهنين لمصالح الدول الأجنبية وتوافقاتها حول مناطق نفوذ في سورية أو حتى تقسيمها، وغالبًا وفق الطريقة الروسية التي ستوزع المغانم، بأن تكون لها الحصة الأكبر، وتكرّس حالة من الاستبداد المديد، وبالتالي تبقى جذور الكارثة قائمة بصورة أبشع، مما يدفع إلى انفجارات وحروب أكثر عنفًا وفتكًا، ربما تطول وتشمل الجميع.
والخيار الثاني، حراك شعبي من عموم مناطق سورية يستفيد من تجربة الأعوام الماضية، بخطاب وطني ديمقراطي، يرتكز أولًا على نزع تسييس البنى القائمة من طائفة وعشيرة وعرق، يكون مقدّمة للخلاص من الطائفية وغيرها، ويكون خصمه الوحيد المتسلطين من الجميع. وهذا يعني أن يكون التحرك شعبيًا سوريًا ضد الحلف غير المعلن من أصحاب السلطة والنفوذ، وفي مقدمتهم نظام الأسد الإبادي، الذي ولّد معظم أشكال التطرف والاستبداد، فالاستبداد المتمثل في النظام الأسدي والاتحاد الديمقراطي الكردي والجهادي الإسلامي متوحّد بصورة غير معلنة، في مواجهة تطلعات السوريين، ومن مصلحته زرع الشقاق والخلافات بينهم على أسس متقاتلة تتمثل بتخيلات عن تشكيلاتهم ومظالمها.
وأخيرًا، من تجارب السوريين في الماضي القريب (فترة الخمسينيات)، حيث شاركوا جميعًا في اختيار نوابهم ورئيسهم، من دون حساب لعرقه أو دينه أو مذهبه، يمكننا أن نقول إن تلك الهويات التي تقسّم السوريين وتوزعهم إلى خنادق هي هويات عابرة من صنع القوى المستبدة، أي أنها تاريخية ونتاج ممارسات سياسية تمييزية، وليست متأصلة في جوهر هذه الفئات، وبالتالي يمكن الخلاص منها، والعيش ضمن وطن واحد متنوع، لا كرقع متجاورة (فسيفساء) وإنما كنسيج وطني تحكمه قيم العدالة والحرية.