مضت عشرة أعوام على اندلاع ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد الاستبدادي الإجرامي، جرت خلالها تحوّلات على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، أدّت إلى تغيّر كبير في مسار العمليات العسكرية لصالح الطاغية بشار الأسد، وإلى ازدياد سوء الحالة المعيشية للناس في المخيمات وفي جميع المناطق والمدن السورية، وتفاقمت أوضاع المعتقلات والمعتقلين في السجون ومراكز الاحتجاز السرّية والعلنية، ولا سيّما في معتقلات وسجون الأسد، ففي كل يوم يمضي على احتجازهم، نفقد واحدًا أو أكثر منهم قتلًا تحت التعذيب.
لم يسبق في التاريخ الحديث أن شهدت سجون أي بلدٍ في العالم هذه الأعداد الهائلة من المعتقلين، فعلى امتداد السنوات العشر الماضية، تعرّض ملايين من السوريات والسوريين للاعتقال من قبل نظام الأسد وأيضًا من قبل الميلشيات المسلحة المناوئة له، وكثير منهم اعتُقل أكثر من مرة، بينما قُتل عشرات الآلاف تحت التعذيب، أكثرهم قُتل في مراكز الاعتقال التابعة للأسد. وما يزال عشرات الآلاف من المعتقلين مخفيين قسريًا، وفقًا لأحدث التقارير الصادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي وثقت مقتل ما لا يقلّ عن 14391 تحت التعذيب، واختفاء قسري لأكثر من مئة ألف معتقل، لدى مختلف الأطراف، ولا سيما في سجون وأقبية المخابرات السورية التي تخفي وحدها أكثر من ثمانين ألفًا من المعتقلات والمعتقلين.
وبالرغم من مأساوية قضية المعتقلين، فإنها لم تحظ بالاهتمام الكافي في جميع المؤتمرات والمحادثات الدولية المتعلقة بسورية، طوال السنوات العشر الماضية، وفشلت جميع المحاولات العربية والدولية في الإفراج عن المعتقلات والمعتقلين، التي بدأت مع عمل بعثة المراقبين العرب المرسلة من الجامعة العربية إلى سورية عام 2011، وكان من بين مهماتها العمل على الإفراج عن جميع المعتقلين، إلا أن اللجنة فشلت في ذلك كليًا، وانسحبت من سورية. وفي 16 شباط/ فبراير 2012، طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم (66/253) بالإفراج عن جميع المحتجزين تعسفًا بسبب الأحداث التي تشهدها سورية، وصدر بيان جنيف، ثم تلاه صدور العديد من البيانات والنداءات والقرارات الدولية، وفي مقدمها بيان جنيف والقرار 2254، وقد شددت جميعها على ضرورة إطلاق سراح المحتجزين لدى الأطراف كافة، إلا أن الأطراف المتنازعة وخاصة “نظام الأسد” لم تكتف بعدم إطلاق سراح المحتجزين لديها وحسب، بل استمرت في حملات الاعتقال حتى ضاقت بهم أماكن الاحتجاز.
وفي العام 2014، تم تسريب 55 ألف صورة تعود لـ 11 ألف معتقل، قُتلوا “تحت التعذيب” في سجون ومعتقلات نظام الأسد، في ما بات يُعرف بملف قيصر 2014، وقد أحدثت تلك الصور ضجة كبيرة في العالم، واعتقدنا أنها ستؤدي إلى حلحلة في قضية الاعتقال والمعتقلين أو حتى التخفيف من آلامهم على الأقل، إلا أنّ الأمر انقضى كالعادة بإصدار بيانات إدانة واستنكار، لا تُسمن ولا تغني من جوع، بينما واصلت أطراف النزاع حملات الاعتقال والتعذيب والقتل تحت التعذيب، في مختلف أنحاء سورية.
وفي العام 2015، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا بعنوان “المسلخ البشري”، تحدثت فيه عن تصفية أكثر من 13000 معتقل حرقًا، في محارق بشرية أقامها الأسد خصيصًا لذلك في سجن صيدنايا. وعلى الرغم من وحشية ما جرى ويجري في هذا “المسلخ البشري”، فقد اكتفى المجتمع الدولي بإصدار بيانات إدانة واستنكار من دون أي تحرّك ملموس لإنقاذ المعتقلين من جحيم الأسد.
هكذا كان الأمر على الصعيد الدولي، أما على الصعيد المحلّي، فكانت الأوضاع أكثر سوءًا، حيث لم تلق قضية المعتقلين الاهتمام اللازم من أصحاب الدار والقضية، إلا ما ندر من بعض المحامين والناشطين اللذين أخذوا على عاتقهم موضوع الدفاع عن آلاف المعتقلين الذين تمت إحالتهم إلى المحاكم، ولا سيما أمام محكمة الإرهاب، فيما لم يتمكنوا من مساعدة المعتقلين المختفين في سجون الأسد وأقبيته، وهم الذين يعدون بعشرات الألوف. وكان المُفترض من الهيئات السياسية والعسكرية التي تشكلت، كالمجلس الوطني وائتلاف قوى الثورة والهيئة العليا للمفاوضات، أن تولي اهتمامًا أكبر بقضية المعتقلين، كإنشاء مؤسسة خاصة تُعنى بقضية المعتقلين وتقدّم الدعم للمنظمات السورية التي تعمل في هذا المجال، لكن لم يحصل شيء من هذا، وتساءل كثيرٌ من أهالي المعتقلين: أين ذهبت تلك المبالغ الطائلة المخصصة للدفاع عن المعتقلات والمعتقلين، وتلك المخصصة للدعم المادي والنفسي للناجين منهم؟ وأما الفصائل المسلّحة التي ادّعت وما زالت تدّعي أنها قامت وتشكّلت لحماية ثورة الشعب السوري، فلم تهتم بقضية المعتقلين، حيث كان اهتمامها منصبًا في الغالب حول الإفراج عن مقاتليها، وفرض الإتاوات على الأهالي ومصادرة الممتلكات واعتقال كل من يخالفها وربما قتلهم.
وبعد ظهور ما سمّي مسار آستانا، وما جرى تحت هذا العنوان من عقد اتفاقات سياسية وهدن عسكرية، أدت إلى تهجير متبادل للسكان من مناطق سكناهم، كما حصل في اتفاقية إخلاء كفريّا والفوعة، واتفاقية المدن الأربعة (الزبداني – مضايا، كفريا – الفوعة)، واستدراج المعارضة المسلّحة، وتشليحها معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها.
وبعد أن أتمّت روسيا سيطرتها على الأرض، اتفقت مع تركيا وإيران على سحب ملفّ المعتقلين من التداول في اجتماعات جنيف، ونقله إلى آستانا، وساعدها في ذلك المبعوث السابق “ديمستورا” الذي سبق أن حذّرنا -في أحد الاجتماعات في جنيف- من الحديث عن المعتقلين، مدّعيًا “أن المطالبة بهم قد تعرّض حياتهم للخطر”. وفي نهاية 2017، أعلنت روسيا مع شركائها الضامنين في آستانا تشكيل “مجموعة عمل خاصة للإفراج عن المحتجزين رغم إرادتهم”، كما سمتهم، ولم نعرف شيئًا عن طريقة عمل هذه اللجنة ولا عن آلية تشكيلها، وكل ما أنجزته هذه اللجنة كان عملية تبادل يتيمة، أسفرت عن إطلاق سراح حوالي 20 معتقلًا في سجون الأسد، مقابل الإفراج عن 20 عسكريًا أسيرًا للنظام، كانوا محتجزين لدى الفصائل المسلحة، من أصل عشرات الآلاف المختفين قسريًا في سجون الأسد.
ومع انتقال مسار آستانا إلى سوتشي، وابتداع ما سمّي “اللجنة الدستورية”، كمدخل للحلّ السياسي في سورية، هرولت المعارضة السورية -بشقيها السياسي والعسكري- وأعضاء من المجتمع المدني، للدخول في عضوية تلك اللجنة، حيث جاءت مشاركتهم في اجتماعات هذه اللجنة، لتعطي مشروعية للخطة الروسية ولتسهّل الطريق أمامها لتجاوز ما نصت عليه القرارات الدولية، وفي مقدمها بيان جنيف والقرار 2254 اللذان نصّا بالترتيب على وقف إطلاق النار وإطلاق سراح كل المحتجزين لدى أطراف النزاع، كخطوة ضرورية لبناء إجراءات الثقة بين الأطراف المتنازعة، ثم تليها مفاوضات لتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية، تشرف على عملية الإصلاح الدستوري وتُعرض نتائجها على الشعب، ومن بعدها تجري انتخابات برلمانية ورئاسية على أساس قانون انتخابي لا يُقصي أحدًا.
لقد أخطأت المعارضة السياسية والعسكرية التي تدعي تمثيل الشعب السوري، عندما هرولت إلى اجتماعات آستانا، وأخطأت أيضًا عندما أعطت موافقتها المجانية على مخرجات سوتشي، هذه الموافقة التي سهلت الطريق أمام روسيا للسير بخطتها للحلّ في سورية، والالتفاف على ما نصت عليه القرارات الدولية بقصد استبعادها لإعادة تدوير نظام الأسد من جديد.
وعلى الرغم من أهمية ما تحقق، على صعيد الملاحقات القضائية ضد المسؤولين عن التعذيب والقتل في نظام الأسد الإجرامي، فإننا -أفرادًا ومنظمات- ما زلنا مقصّرين بهذا الشكل أو ذاك، تجاه قضية المعتقلين، إذْ لم نستطع الاستفادة من وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في أوروبا، بحشدهم لمناصرة قضية المعتقلين، ولم نستطع الخروج من آفة الشللية والفردية في العمل، التي نشأنا عليها على امتداد أكثر من ستين عامًا، منذ حكم الوحدة مع مصر، مرورًا باستيلاء عسكريي البعث على السلطة وصولًا إلى حكم الأسد الذي جعل سورية مزرعةً له، وحوّل السوريات والسوريين فيها إلى مجرد عبيد له.
عشر سنوات مرّت على اندلاع انتفاضة السوريات والسوريين ضد نظام الاستبداد والإجرام، تحمّلوا خلالها آلامًا لا تتحمّلها الجبال، وقدّموا تضحيات هائلة في سبيل نيل حرّيتهم وكرامتهم، ولم يعد بمقدورهم اليوم تحمّل مزيد من الآلام والتشرذم والانقسام، ولم يعد مقبولًا استمرار هذا الشكل من العمل الفردي والشللية، في أحزاب وكتل صغيرة وتجمعات (واتساب) متناثرة هنا وهناك، وبات الأمر يوجب علينا توحيد هذه الجهود والأشكال المتناثرة في تجمّع كبير، يستطيع فرض رؤيته على القوى المتدخلة في الشأن السوري، ويكون قادرًا على سحب البساط ممن ربط نفسه بأجندات خارجية ويدّعي تمثيلنا.
لقد طفح الكيل كثيرًا، وباتت قضيتنا اليوم بأمس الحاجة إلى قيام ذلك التجمع الكبير، الذي يتمتع بثقل وطنيّ، ويمثل جميع السوريات والسوريين، وينقل صوتهم، ويفرض نفسه متحدثًا باسمهم أمام جميع العالم.