السويداء جزء من الجنوب السوري، حيث الصراع على درعا تارةً، وعلى السويداء تارة أخرى، وتجليات هذا الصراع تبدو متباينة، وإن كانت في جوهرها متشابهة إلى درجة كبيرة.
وللسويداء خصوصية، من حيث موقعها على الحدود الأردنية، ومحاذاتها للبادية السورية الممتدة من مثلث الحدود مع الأردن والعراق حتى البوكمال والجزيرة السورية، وهي تقع بمحاذاة الحدود مع الجولان السوري المحتل أي أنها ضمن خطوط الجبهة السورية الإسرائيلية.
إنها منطقة تاريخية أثرية مهمة، أكثرية سكانها من الموحّدين الدروز، وعلى الرغم من قلة نسبتهم إلى سكان سورية، فإنهم يتمتعون بهيبة واحترام نابعين من تاريخهم الوطني الإنساني المعروف في عدم تقبّل الضيم والخضوع لأيّ معتد أو ظالم، وهم يتميزون بقوة الرابطة العصبية التي تجمعهم وتوحّدهم، وتبدو على صورة تضامن وتعاضد قويين في وجه العدوان على أهلها. إن وحدة مواقف أهل السويداء وانضباطهم وتماسكهم هي إحدى ميزات أهل الجبل “السويداء”.
أيّدَ معظم الدروز سقوط الدولة العثمانية، ولكنهم لم يؤيدوا الاستعمار الأوروبي. وثاروا على تقسيمات سايكس بيكو، ورفضوا تقسيم سورية إلى دويلات طائفية، فكانت الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من جبل العرب، بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925، والتي مهّدت لاستقلال سورية، وهدفت إلى دولة موحدة ديمقراطية، على أساس “الدين لله والوطن للجميع”؛ تلك المبادىء السامية التي عجزت حكومات ما بعد الاستقلال عن تنفيذها حتى يومنا هذا.
مع انطلاق الحراك الشعبي السلمي في آذار 2011، بطابعه السلمي، ضدّ الاستبداد والفساد، شاركت السويداء في فعاليات الانتفاضة، منذ أيامها الأولى، من الاعتصامات والاحتجاجات إلى الفعاليات المختلفة والمعبرة عن التضامن مع بقية المناطق السورية، رافعة الشعارات والأهداف نفسها: الحرية والعدالة والكرامة والخلاص من الاستبداد والقمع والفساد، إضافة إلى شعارات مطلبية مرتبطة بالغلاء وسوء الأوضاع المعيشية والخدمات. وتعرّض المحتجون للقمع والاعتقال، كغيرهم من المحتجين في بقية المناطق السورية، ولكن بعد أن بدأت الفعاليات ترتدي طابعًا دينيًا وطائفيًا واضحًا، أصبح هناك بعض التحفظ والحذر، وخاصة بعد انتشار السلاح والتسلّح والعسكرة والصراع المسلح والتدخلات الخارجية.
ومع ذلك، لم تتوقف التظاهرات والفعاليات الشعبية السلمية ذات المحتوى الوطني الإنساني البعيد عن كل الأشكال الطائفية، وكان لأهالي الجبل مواقف واضحة في استقبال عشرات آلاف المُهجرين والنازحين من المناطق السورية المختلفة، ومساعدتهم في تدبير أمور حياتهم اليومية، وأكثريتهم من ريف دمشق ودرعا وريف حلب وحماة والحسكة ودير الزور، وقد أسهم الأهالي في السويداء -بكل إمكاناتهم- في توفير سبل عيش النازحين من السكن والمتطلبات الضرورية، عبر مبادرات فردية وجمعيات تم تشكيلها لهذا الغرض، وفتحت لهم البيوت وبعض المنشآت والمباني العامة، ونجحت السويداء في أن تثبت أنها سويداء سورية، مع الحرص على تحييد كثير من المحاولات لإثارة المشكلات والفتن التي سعت جهات مُسيطره لإثارتها.
وكذلك كان لهم موقف جماعي برفض التحاق أبنائهم بالخدمة العسكرية لقتال أهلهم في بقية المناطق السورية. وهذه المواقف التي لم تزل مستمرة إلى اليوم أغضبت السلطة الحاكمة التي كانت تستثمر في اللعب على الأوتار الطائفية، وتصوّر نفسها حامية للأقليات، ومنها طائفة الموحدون الدروز. ولاقى هذا الموقف غضبًا عنيفًا من جانب النظام، ولحسابات تتصل بخوف أجهزته من انكشاف مقولته “حماية الأقليات”، وكذا لخوفه من مجابهة واسعة مع أهالي المحافظة، فقد خطط للمجابهة غير المباشرة مسددًا على أهمّ عناصر قوتهم: وحدتهم وتضامنهم، عبر اتباع أساليب شتى علّها تؤدبهم وتثنيهم عن مواقفهم الوطنية المتماسكة التي اعتبرها تسير باتجاه تمرد شامل على سلطته ومخططاته[1]، ونذكر من تلك الأساليب:
*دعم العناصر الفاسدة، وأصحاب سوابق السرقات وارتكابات الجريمة، وغض النظر عن أعمالهم من خلال تعطيل القانون والقضاء، ووقف تدخل مؤسسات السلطة في كل ما يحصل إلا في شؤون تتعلق بمصالحها المباشرة، وتهميش دور الفعاليات الشعبية ذات السمعة الطيبة وتعطيلها، ما جعل قطّاع الطرق والمجرمين الذين يعملون باسم القانون أو خارج القانون شركاء، ومع سيادة قانون العصابات، باتت الفوضى الأمنية ذات الطابع الدموي الموجهة هي السائدة، يجري ذلك وسط أوضاع تتسم بانهيار اقتصادي وتضخم نقدي وغلاء فاحش.
* تسهيل إنشاء مكاتب مرتبطة بالأجهزة الأمنية للسمسرة والوساطة، مهمّتها جذب الشباب وإغراؤهم وتجنيدهم، لتتولى جهات عسكرية روسية إرسالهم إلى الخدمة العسكرية، في دول أخرى (ليبيا وبلدان أخرى …) برواتب مغرية، بالنسبة إلى وضعهم المعاشي الكارثي.
* تشكيل أحزاب ومجموعات مسلحة في داخل المحافظة، بتمويل خارجي وبإشراف وتوجيه الأجهزة الأمنية، والتشارك معها بالمنافع، وتدفع للمنتسبين إليها رواتب مغرية.
* التلاعب بمخصصات المحافظة من المساعدات الإنسانية القادمة من المنظمات الدولية، فلا يُوزّع منها إلا نسبة ضئيلة مختارة.
* وكان أبشع ما تعرّض له أهل الجبل المسالمون، بغدر مخطط جاء تحت عنوان تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، حيث حصلت هجمات وتفجيرات، في مدينة السويداء وريفهاالشمالي الشرقي، الأربعاء (25 يوليو/ تموز 2018) مخلفة أكبر حصيلة ضحايا في المحافظة الجنوبية، وصلت إلى ما يزيد على 221 قتيلًا. ولكن بشجاعة أهل الجبل وتضامنهم ووصول الفزعات من الأهالي ومجموعات محلية مسلحة، تمكّن أهل الجبل من صدهم وهزيمتهم وملاحقتهم حتى البادية، تاركين خلفهم عددًا كبيرًا من القتلى.
* محاولة زرع الفتن للإيقاع بين سكان الجبل، وفيما بين أهل الجبل وضيوفهم من النازحين “الضيوف”، كما يسميهم أهل الجبل، وبينهم وبين جيرانهم سكان محافظة درعا، فقد أقدمت عصابات الزعران المدعومة بخطف بعض “الضيوف”، وأفراد من العشائر المحلية أو من أهالي درعا الضيوف، وتوزيع أشرطة فيديو يظهر فيها عمليات التعذيب وطلب الفدية الماليه للإفراج عنهم.
* استخدام كل أشكال الضغط والتضييق والتهديد لرجال حركة الكرامة، مع اتهامهم بالإرهاب، وخاصة بعد معارضتهم الشديدة لتجنيد شبان السويداء في صفوف جيش النظام للقتال في مناطق سورية أخرى، وبعد أن توضحت قوتهم وتوجهاتهم في الدفاع عن الأرض والكرامة، ولذلك تم تدبير عملية تفجير موكب يضمّ مؤسس الحركة أبو فهد وحيد البلعوس، في ضهر الجبل، أمام المشفى الوطني، في أيلول/ سبتمبر 2015، أدّت إلى استشهاده مع عددٍ من رفاقه وبعض الموجودين في أماكن التفجيرات.
* إغراق مدينة السويداء بأكشاك الباعة/ الشبيحة المسلحين؛ وبمهربي البنزين والمازوت والغاز والمخدرات، وخاطفي التجار وأصحاب المصالح القادمين إلى السويداء، وبسارقي السيارات، فضلًا عن تعطيل المصالح العامة لأهل الجبل من خلال كثرة الاشتراطات على الموافقات.
*جعل السويداء مركزًا لتوزيع المخدّرات ومعبرًا لتصديرها للخارج عبر الحدود الأردنية.
لن تتوقف الضغوط على أهالي جبل العرب؛ فالسويداء ليست خارج ميدان الصراع المحليّ والإقليمي، فعمليات إحداث الفوضى الدموية ونشر الفتن، وإثارة المشاعر لخلق نزاعات تؤدي إلى تفكيك أواصر الوحدة الوطنية ووحدة أهل الجبل، وصولًا إلى الدعوات إلى أن يكون للسويداء، مع منطقة جنوب سورية أو بدونها، استقلالٌ ذاتي أو إدارة ذاتية أو… كلّها تندرج ضمن مجريات وتفاعلات الصراع.
السويداء لم تكن يومًا تابعةً لأي سلطة أو جهة حاكمة أو غير حاكمة، سواء أكانت داخلية أم خارجية، إنما تبعيتها فقط لتاريخها وتقاليدها الوطنية الإنسانية، تاريخ وتقاليد الدفاع عن الأرض والكرامة، وهذه هي الخصائص التي تشكل عناصر قوتها. وأهلها واعون بأن لا حياة ولا وجود لهم إلا من خلال حفاظهم على مقومات قوتهم، ولا بديل عن التضامن والتعاون وتوحيد الجهود والتمسّك بالوحدة الوطنية، ومواجهة كل الفتن ومحاولات افتعال النزاعات والاقتتال فيما بينهم.
[1] يقدر عدد الشبان المتخلفين عن الالتحاق بالجيش في السويداء نحو 50.000 شاب.