“يصعب على الشخص الذي عاش في ثورة أن يرجع إلى أيام ما قبل الثورة، لكن لا يصعب على شخص العيش في أيام ما قبل الثورة طوال حياته” جورج أورويل (مزرعة الحيوانات).

في واقع الصراع السوري المستمر منذ عشر سنوات، وتحوّل الدولة السورية إلى ركام، تأتي مسألة الانتخابات الرئاسية (المقرر إجراؤها في 26 أيار/ مايو) كجزء من مسيرة العرس الانتخابي “الاستفتاء” التي عايشها السوريون في “الدولة – المزرعة”، واستكمالًا للدمار والقتل بمشاركة نظام الأسد، لتجعل فكرة الانتخابات الرئاسية فكرة مبتذلة، تمثل مباركة لاستمرار “مجرم حرب” في قيادة دولة أو ما تبقى من الدولة.

انتخابات في مزرعة الدكتاتورية

في الأنظمة الدكتاتورية التي تقوم على استخفافها بأشكال الديمقراطية، وبحق البشر الشرعي في اختيار من يُمثّلهم سياسيًا، وبأصوات الناخبين، لا يمكن الحديث عن انتخابات نزيهة وناخبين أو مرشَّحين منافسين، فغالبًا لا يجد الدكتاتور من ينافسه، وليس مضطرًا إلى تقديم برنامج انتخابي، ليكون إجراء الانتخابات مجرد تذكير للشعوب بمسألة “البيعة”، تحت مسمّى الاستحقاق الرئاسي، والفوز فيه، وتُصرّ كذلك على إعلان نتائجها على الملأ، لقطع الشك باليقين، بأنه “مُنتخب” بنسبة تصل إلى 99 %، غالبًا، لتأكيد حقه في قيادة الدولة والمجتمع، وتسلّم أمور البلد والعباد لدورات لا يوقف عدادها سوى الموت.

ما حدث ويحدث في سورية، في “إعادة الانتخاب” لبشار الأسد لولاية أخرى مدتها سبع سنوات، ليس أكثر من توطيد المهزلة في فكرة الانتخابات وممارستها، كاستكمال لمسيرة العرس الانتخابي “الاستفتاء” التي عايشها السوريون، منذ تسلّم الأسد الأب ثم الابن للحكم تحت مسمى “الاستحقاق الوطني”، ففي “الدولة – المزرعة”، تتأسس الانتخابات على نتائج محسومة سلفًا لرئيس “حصري-سيد المزرعة”، وإن شارك فيها مُرشّحون آخرون.

انتخابات لا شرعية لنظام لا شرعي

في الواقع الدموي السوري الذي تأسس قبل عقدٍ من الزمن على رفض النظام وشرعيته “الدكتاتورية”، المُستمدّة من الصلاحيات الدستورية والسيطرة على السلطات الثلاث “التنفيذية والتشريعية والقضائية”، واستمرارها بعد صياغة دستور في العام 2012 عقب الحراك الشعبي، وتفصيله على قياس النظام السائد، والتمهيد لاستمراره دورتين متتاليتين إضافيتين وفقًا للمادة (88) من دون أي تعديل يحدّ من التحكم الرئاسي في الوضع السياسي، أو يجري الاستفتاء على مواده كلّها من قبل السوريين أو ممثلين منتخبين لهم، ليجعل منه دستورًا للنظام وليس للشعب، فالدستور ليس منحة من الحكومة للشعب، أو ضمانة لها، بل هو تفويض يمنحه الشعب لحكومة يشكلها، وضمانة للشعب ضد الحكومة.

وبغياب هذا التفويض والضمانة، فإن مهزلة الانتخابات التي يمارسها النظام، وفقًا لدستوره، تتحول إلى حالة من الابتذال، فُرِض على السوريين أن يشهدوها للمرة الثانية، حيث جرت في العام 2014 في جوّ من العنف والردع بمختلف أشكاله مارسه النظام ضد الشعب الرافض له، ولردع المطالبة الداخلية برحيله عن موقع الرئاسة في سورية. وتجري الآن بعد أن غرق السوريون في مطحنة حربٍ، كان النظام سببًا في إشعالها، أودت بحياة نصف مليون سوري، وخلّفت مليون مصاب، وشردت 13 مليون سوري، بين نزوح ولجوء، وكانت سببًا في استمراره.

الانتخابات وساحة الحرب

بالرغم من تواصل النزاع العسكري في البلاد، وفقدان الأسد سيطرته على 40 % من الأراضي السورية، فإن قرار إجراء الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 26 أيار/ مايو، وخوض نظام الأسد فيها مرة أخرى بدعم روسي قوي، ما هو إلا جزء من تثبيت الوضع على ما هو عليه، واستجابة لما تفرضه المعطيات المُعقّدة لمشهد الصراع المتداخل دوليًا وإقليميًا، وتعثّر المسار السياسي الهادف إلى التوصل إلى اتفاق سلام سوري، والمختزل بصياغة دستور لم يتمّ التوافق عليه حتى الآن؛ فالمجتمع الدولي الذي عجز عن إزاحة الأسد، ووضع حدّ للمأساة السورية سابقًا، يستمر في عجزه عن إزاحة الأسد حاليًا، وإن كان مذنبًا بارتكاب إبادة جماعية ضد شعبه، ويعجز عن منع إجراء انتخابات رئاسية، ويكتفي بالتنديد وعدم الاعتراف بنتائجها.

أما الأسد، الذي لم يُقم وزنًا لأيّ معارضة أو مفاوضات أو لجان دستورية أو قرارات أممية حول الانتقال السياسي وتشكيل هيئة حكم، فإن هذه الانتخابات هي تنفيذ لإرادة الداعمين له “روسيا وإيران”، ولصفقات الترويض “التأهيل” وحسابات الأمن الإقليمي والدولي، نتيجة حسابات مختلفة تمتدّ من أزمة اللاجئين، إلى إبعاد الأسد عن الخط الإيراني المتحكم، وخلخلة الوجود الروسي، وغيرها من تعقيدات تعني تعزيز سلطة الأسد وبقاء سورية ساحة حربفي المستقبل القريب.

لا أهمية للشعب في الانتخابات

في الوضع السوري السابق والحالي، نجد صعوبة في استخدام مقولة جورج أورويل: “إن الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة، لا يعتبر ضحية، بل شريكًا في الجريمة”، بالرغم من أنها تُمثّل وجهًا من الحقيقة، فللنظام كثير من الشركاء الداعمين المؤيدين له، يمارسون ضجيجهم وتعلو أصواتهم في حملات التأييد لانتخابات الأسد وتجديد بيعته، ويتعامون عن الدمار الذي أحاق بسورية وعن مصاير السوريين بين معتقل ومشرد ولاجئ وجائع.

أما الوجه الآخر، فهو لا يخصّ المعارضة التي تحاول الحشد لتجميع المشاريع السياسية، للوقوف في وجه الانتخابات ومعارضتها، واتخاذ قرار المقاطعة، فهذا لا يشكّل حدثًا يُعوّل عليه. إنما يخصّ شعبًا لا يَنتخب، بل تُجمع أصواته قسرًا أو استجابة لدعاية طال تأسيسها، بأن رحيله سيدفع سورية إلى مزيد من التفكك والفوضى، نتيجة حالة الاستلاب التي عايشها السوريون، بعد أن حلموا بإسقاط النظام فوجدوا أنفسهم مجندين لخدمة مشاريع مختلفة يقاتلون ويُقتلون لأجل المستفيدين وتجار الحرب. وعلى ذلك فإن الانتخابات أو عدمها لن تقدّم لهم شيئًا.

في الحالة السورية، لا أهمية للمؤيدين ولا للمعارضين ولا للشعب، خصوصًا أن النظام طوال الفترة الماضية صار جزءًا من منظومة الحرب، فهذا النظام الذي عجز السوريون عن إيقاف بطشه، بات شريكًا لقوى مختلفة بنت قواعدها العسكرية واستقدمت ميليشياتها، وتدير القصر بمن فيه، وتمثل ضامنًا لنظام دكتاتوري قاتل، وتُكسبه شرعية وجوده رغمًا عن السوريين وإرادتهم المسلوبة.

رئيس للركام

بعد مرور عشر أعوام من الحرب والتدمير المنهجي، وتهجير الملايين وخلخلة المجتمع، وانهيار الاقتصاد إذ إن أكثر من 80 % من السوريين تحت خط الفقر؛ تحولت الدولة السورية إلى “ركام دولة”، وصارت السيادة -بالنسبة إلى النظام- خلطة لها استعمالات خاصة في استعادة السيطرة على الأرض -المناطق الخارجة عن سيطرته- والسكان “المعارضة”؛ فالسنوات الماضية كانت كفيلة بإسقاط مقومات الدولة العامة (الأرض، الشعب، السلطة)، فمن الناحية السياسية، الحكومة المركزية لم تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار أراضيها. ومجموعة الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ما عادوا يخضعون لسلطة معينة. وهذا الكيان الإقليمي لم يعد يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ولكنه يحتكر قوى وأدوات الإكراه التي تمارسها السلطة على من تبقى من السوريين. أما بشأن حقوق وواجبات الدول، بحسب “اتفاقية مونتيفيديو في عام 1933″، وتأكيدها على جوهر السيادة وارتباطها المباشر باستقلال الدولة وأهليّتها في إدارة الحكم والتعامل الندّي مع بقية الدول، فإن هذه المقولة لم تسقط عن سورية فحسب، بل صار ينطبق عليها مفهوم المستعمرة الشبيه بمناطق أفريقيا وأميركا اللاتينية. فما نفع إعادة انتخابه رئيسًا (أو عدمه) لقيادة المستعمرة أو ركام الدولة بالنسبة إلى السوريين؟!