لم تنتهِ قضية درعا البلد بعد، فلا أهالي درعا استطاعوا فرض شروطهم، ولا الفرقة الرابعة والميليشيات الطائفية التي تساندها استطاعت ذلك! هنا يبرز القول الذي مفاده أن روسيا لم تتدخل جويًا، ما أظهر ضعف وعجز القوات البرية المهاجمة. ويبدو أن هذا صحيح بالمبدأ، حسب التاريخ السابق في مجريات الحدث السوري وتاريخ تهجير مدنه في السنوات الأخيرة.

لم تتدخل روسيا هذه المرة لسببين: أولهما أنها تريد فرض حواجز الفيلق الخامس ولوائه الثامن، بقيادة أحمد العودة المتمركز في بصرى، والتابعة قيادته لها مباشرة بعد مصالحات 2018، وهو ما رفضه أهالي درعا البلد بدايةً، والسبب الثاني أنها لا تريد أن تسمح للفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية بالسيطرة على الخط الدولي الذي يُفتح باتجاه الحدود الأردنية والمعبر الحدودي بنصيب، من دون أن تظهر أنها ضدهم بشكل مباشر، وذلك تنفيذًا لالتزاماتها مع الأميركان عبر الوسيط الأردني.

روسيا تريد السيطرة على الخطوط البرية، بدءًا من الشمال امتدادًا إلى الجنوب، من دون منافس لها، وتريد الاستغناء في الوقت نفسه عن مساندة الميليشيات البرية التابعة لإيران، وهي التي تعوز وجود قوات برية لها على الأرض، وتحتاج إلى قوات بديلة عنها، تحاول فرضها عن طريق المصالحات وتقوية حضورها في الواقع السوري، بوضع الناس أمام خيارين: إما المصالحة وفق شروطها وتبعيتها، وإما إيران! لتظهر بالنتيجة كراعي سلام، أمام سكان المناطق السورية والمجتمع الدولي، ينفذ مقررات مجلس الأمن 2254. حتى تؤهل نفسها للاستفراد بالحل السوري على طريقتها وتحت وصايتها المفردة، فهل ستنجح خططها الجيوبوليتيكية هذه التي عملت عليها منذ معركة حلب الكبرى نهاية 2016؟ هذا مرهون بالتوازنات الدولية ومصير الملف السوري في أروقة الأمم المتحدة، والأمم المتحدة لم تُبدِ “قلقًا” تجاه ما يجري بدرعا البلد! فإن كان ما تريده روسيا مفهومًا نسبيًا، وما تريده الميليشيات الإيرانية متضحًا كليًا! فماذا تريد الأمم المتحدة؟

لا يخفى على أحد من متتبعي السياسات الدولية أنّ الأمم المتحدة أسيرةُ سياسات الدول الرئيسة فيها، وأن مواثيقها الدولية والإنسانية ليست للتطبيق في مجتمعات ودول هامشية فيها تُعدّ بمنزلة حقول تجارب ومناطق نزاع ونفوذ لها. يرعى كل طرف فيها أدوات هيمنته في هذه الدول، ويغذيه بغية تحقيق مصالحها وأمنها القومي وإستراتيجيتها. فمنذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تشكلت هيئة الأمم المتحدة على خلفية عصبتها (عصبة الأمم المتحدة) التي رعت ونفذت سياسة الوصاية الدولية على دول المنطقة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهل انتهى الدور المناط بمنظمة الأمم المتحدة في الحفاظ على السلام العالمي واستقراره، وانتقلت إلى مرحلة جديدة لإعادة رسم خارطة العالم الذي نعيشه شرق المتوسط تحت وصاية متعددة الأطراف على مرأى من “عينها”!؟

الأممُ المتحدة التي وضعت في مواثيقها وأعرافها الدولية صيانةَ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها وحمايتها، وجعلته أولوية في استقرار الأمن والسلام العالمي، لدرجة التدخل تحت الفصل السابع لمجلس الأمن، عند تهديد المدنيين في دولةٍ ما أو أي رقعة من العالم! وهو الأمن والسلام العالمي الذي دأبت كل الشرائع والمنظمات الحقوقية تسعى لترسيخها ثقافة وسلوكًا عالميًا، بغية تجاوز عقبات وويلات الحروب، خاصة بعد الحربين العالميتين في مطلع القرن العشرين، هي ذاتها اليوم تقف مكتوفة الأيدي “طوعًا”، بل إنها ساهمت في اقتلاع سكان المدن السورية من جذورها، مدينة تلو الأخرى، ووقفت شاهدة فعلية على التغيير الديموغرافي فيها، من داريَّا، إلى حلب، إلى الغوطتين… وعموم درعا سابقًا، وصولًا اليوم إلى درعا البلد!

منذ العام 2012 حتى الآن، تتالت البعثات الدولية الأممية إلى سورية، بدءًا من بعثة الفريق الدابي، إلى كوفي عنان، فالأخضر الإبراهيمي، فديمستورا، وصولًا إلى غير بيدرسون اليوم. وأيضًا البعثات الدولية للتحقيق في استخدام الأسلحة الكيمياوية والمحظورة دوليًا، وكلّها دأبت “حسب ما تدّعي علنًا” على البحث والتقصي عن حل سلمي سياسي في سورية! الأمم المتحدة ذاتها التي صرّحت، مرارًا وتكرارًا، بعجزها عن تنفيذ البنود الأولى لاتفاق جنيف 1، ومن خلفه القرار 2245/2015 القاضي بالتغيير السياسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية تتقاسمها مثالثة النظام والمعارضة والمجتمع المدني. حتى تلك القرارات الخاصة بإيصال المساعدات الغذائية والطبية والإنسانية، إلى المدن المحاصرة في حينها، كبوادر حسن نية للتفاوض المزمع بغية إيجاد الحل السياسي “السحري”، تحولت إلى قرارات تنفذ سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي، لا بل باتت ترعاه! وهي ذاتها شاهدت وراقبت عن كثب نزوح وتهجير الملايين السوريين عبر قوارب الموت البحرية إلى كل شتات العالم وأرضه، بحثًا عن ملجأ آمن من الموت المحكم في سورية!

هذا ليس نقدًا بالعمق لهيئة الأمم المتحدة، ولا لمعاييرها المزدوجة، ولا لسياسات الغرف المقفلة، لكنه تساؤل علني يؤرق يومنا: هل استنفدت هيئة الأمم المتحدة وسائلها وأهدافها الأولى، وانتقلت إلى مرحلة جديدة أو تسمية جديدة ستُفصح عن نفسها قريبًا؟ فكلّ من عصبة وهيئة الأمم تشكلت عقب حرب عالمية كبرى، فهل الحرب السورية حرب عالمية تتستر قواها العظمى خلف الستارة، لتفتح هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها عينًا وتغمض أخرى عن واقع ودمار المدن السورية المدينة تلو الأخرى؟ وهل سننتقل قريبًا إلى نموذج الوصاية المشتركة على أرض وواقع وحطام المدن السورية، ونصحو على مسمى جديد، للاتحاد الدولي المتناقض هويةً، والمتفق مصلحةً، على الدمار السوري وتغيير ديموغرافيته ووأد الربيع العربي فيه؟

قدّم أهالي درعا البلد اليوم نموذجًا مميزًا في فرادة التعاطي مع المرحلة ومتغيراتها والأمم المتحدة في الوقت ذاته، فقد طالبوا بداية بتهجيرهم كلّهم! فقد أنفت نفوسهم شرور الموت والخذلان، واتفاقات ما تحت الطاولة. ولكنهم غفلوا حقيقة عما تريده روسيا، بفرض حواجز اللواء الثامن داخلها، ما يفسّر الطريقة التي تعاملت بها روسيا أمام ما يجري إلى اليوم، سواء بعدم تدخلها الجوي كما هو معهود، أو لعبها دور الوسيط في المفاوضات. وأظن، وبعض الظن إثم، فأهل مكة أدرى بشعابها، أن هذا أفضل الحلول الممكنة في هذه المرحلة. ولربّما يطرح شكل تفاهم جديد بين أهالي درعا عامة، بعد عمق الخلافات التي شابتها بعد مجريات 2018 التي تقسمت على إثرها درعا لثلاث مناطق: بصرى والقرى الشرقية تحت الوصاية الروسية وبقيادة اللواء الثامن؛ طفس وبلدات المنطقة الغربية المحاذية للقنيطرة التي تدخل باتفاقات عدم وجود قوات النظام فيها؛ ودرعا المدينة والبلدات الشمالية، مختلطة التركيبة وأقلّ تلك المناطق استقرارًا.

ما زال أبناء درعا يرددون ما كان يقال على سبيل الطرفة، في أوائل 2011، عن لسان أوباما، حين تُذكر أمامه تظاهرات درعا، فيسأل: درعا البلد أو المحطة! بينما كان “بان-كي مون” في الأمم المتحدة دائم التعبير عن قلقه المستمر! أما اليوم فلا غوتيرس يشعر بالقلق، ولا بايدن يظهر مواقفه، وإن كانت على سبيل الطرفة! وتبقى المدن السورية إلى اليوم شاهدًا على عيبٍ في تركيبة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، والمبنية أساسًا على سياسة المنتصر في حربها العالمية، ويبدو أنها لن ترعى سوى هذه السياسة! وعلى السوريين، كل السوريين، وخاصة أبناء درعا اليوم، ومثلهم أبناء السويداء، استعادة طرق الحوار بينهم، واسترجاع أواسط الثقة والأسس الوطنية التي كانوا عليها وما زالوا، مهما عبثت فيهم أدوات الموت والحرب من كل جهة؛ فالمدن وإن هجرناها تبقى هي التي تسكننا، نحملها ولا نتركها، وهذا تاريخ لن يغيره أبدًا عيوب المرحلة وضيق حلولها المقيتة، فما لليوم لليوم، وما للغد لناظره قريب.