مع بداية الثورة السورية، وعلى امتداد أشهرها السلمية الأولى، كانت هناك معلومات أولية حول سعي النظام لإدخال عناصر من “حزب الله”، وميليشيات عراقية مذهبية بقيادة الحرس الثوري الإيراني؛ لمواجهة اتساع نطاق التظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي كانت تنتشر بسرعة في معظم المدن والبلدات السورية. وكانت هناك معلومات أخرى مفادها أنه لن يكتفي بذلك فحسب؛ بل سيعتمد على بعض الفصائل الفلسطينية واللبنانية، والميليشيات المحلية التي أوجدها النظام أصلًا في مرحلتي الأب والابن وباتت مع الوقت جزءًا من الأداة الأمنية القمعية للنظام نفسه؛ وتمّ التوافق مع “حزب العمال الكردستاني” ليدخل إلى المناطق الكردية تحت اسم فرعه السوري: “حزب الاتحاد الديمقراطي”.
سُئلنا أكثر مرة عن دور “حزب الله”، وكان موقفنا المعلن هو الذي كنا نؤمن به في ذلك الحين، وما زلنا نتطلع إليه؛ وهو أن يتحوّل هذا الحزب إلى قوة لبنانية، تُسهم في بناء لبنان قوي يكون بجميع ولجميع أبنائه، الأمر الذي كان سيكون في مصلحة اللبنانيين والسوريين على السواء.
ومع الوقت، تزايد وجود “حزب الله، في سورية، حتى أعلن حسن نصر الله على الملأ أن “الواجب الشرعي” يُلزمه بأن يكون حيث “يجب أن يكون”. ولم يتوان عن شرح خططه، وخارطة تحركاته، بالتعاون مع الإيرانيين وقوات النظام في مناطق حلب والقصير، وحتى في المناطق الشرقية. والأمر الواضح البيّن هو أن كلّ ذلك التدخل ما كان له أن يتم لولا القبول الإسرائيلي؛ فإسرائيل كانت قد اتخذت قرارها بالمحافظة على نظام الأسد الذي كان، وما زال، يُعد بالنسبة إليها ضمانًا للاستقرار والأمن بالنسبة إلى حساباتها، لذلك اعتمدت سياسة التعامل مع المعلوم المضمون، وعدم المخاطرة بالمراهنة على مجهول يطالب بالديمقراطية، وبمستقبل أفضل لجميع السوريين، الأمر الذي كان يثير بالنسبة إليها كثيرًا من الهواجس والتساؤلات.
كان الموقف في ذلك بالنسبة إلى حركة (حماس) مُحرجًا، ويبدو أن قادتها الذين كانوا على علاقة متميزة وطيدة مع النظام، خاصة مع أجهزته الأمنية، كانوا على اطلاع تفصيلي بما كان يجري وما يخطط له، وكانوا على معرفة بما يحصل في المخيّمات الفلسطينية، لذلك اتخذوا قرارهم بالخروج، واعتماد سياسة “النأي بالنفس”، إذا صحّ التعبير. وقد سُجل هذا الموقف من قبل السوريين الثائرين على النظام لصالحهم. ومن جهتنا، كنا نتمنى باستمرار أن يتم توحيد الموقف الفلسطيني، ويتم تجاوز الخلافات البينية؛ لأن تلك الخلافات، في ظل الوضعية البالغة التعقيد التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال وسياسات الاستيطان والفصل العنصري، كانت تسدّ الآفاق أمام أي بصيص أمل.
وكانت التوقعات في ذلك الحين تتمحور حول سقوط وشيك للنظام، على الرغم من القرار الإيراني الحازم بمنعه من السقوط. وما كان يؤكد هذا التوجه هو اتساع نطاق الثورة السورية وتجذرها، وتشكل المجموعة الدولية الكبيرة التي عُرفت بمجموعة “أصدقاء الشعب السوري”. ولكن تبيّن لاحقًا أن هذه القراءة لم تكن دقيقة كما ينبغي، ولم تأخذ في اعتبارها واقع التناغم بين الموقفين الإيراني والإسرائيلي، على الرغم من العكس الذي كان يُعلن.
تراجعت احتمالات السقوط، خاصة بعد الدخول العسكري الروسي القوي الداعم للنظام، بالتوافق مع الأميركان بطبيعة الحال، وذلك بحجة محاربة الجماعات الإرهابية التي أدخلت هي الأخرى عبر الأجهزة الأمنية المتعددة الجنسيات، لتشكّل عبئًا إضافيًا على الثورة السورية، وتعطي انطباعًا زائفًا للرأي العام العالمي بأن بديل النظام هو التطرف والإرهاب الإسلاموي. والغريب في الأمر هو أن القوى الإسلاموية السورية التي كانت مع الثورة ابتلعت الطعم، ولم تحدد الموقف المناسب في الوقت المناسب من تلك الجماعات، حتى “وقع الفأس في الرأس”، كما يقال، وهذا حديث آخر له شجونه، يطول البحث فيه، لذلك نتركه إلى الوقت المناسب.
ومع انطلاقة مسار آستانا الذي جمع بين كل من روسيا وتركيا وإيران، والتركيز على بند الإرهاب، وقطع الطريق أمام موضوع الانتقال السياسي عبر تهميش موضوع هيئة الحكم الانتقالي، وتكاثر الحديث حول مشاريع إعادة تدوير النظام بناء على جهود دولية؛ يبدو أن المنافسات البينية ضمن (حماس) ، وحسابات التنافس مع السلطة الفلسطينية، على الرغم من الإعلانات المتكررة عن قرب الوصول إلى تفاهمات وتوافقات وطنية فلسطينية، يبدو أن كل ذلك أوصل القوى المتحكمة في القرار ضمن (حماس) إلى قناعة بضرورة العودة إلى الحلف القديم، أو ربما بتعبير أدق، إلى تفعليه من جديد، وتجاوز حالة البرود التي كانت بفعل تدخل “محور المقاومة والممانعة” بقيادة الحرس الثوري الإيراني، للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، وإسهامه المباشر في تهجير وتجويع وقتل السوريين، وتدمير بلادهم، والعمل بكل الأساليب لإحداث تغييرات في بنية وطبيعة المجتمع السوري.
وليس سرًا أن ورقة القدس كانت، وما زالت، بالنسبة إلى النظام الإيراني هي ورقة التسويق والتعبئة على المستويين الداخلي والإقليمي، منذ بدايات “الجمهورية الإسلامية” حتى يومنا هذا، وأن وجود (حماس) في المشهد يضفي أهمية استثنائية عليه، كونها تمثل “حركة إسلامية سنية”، وهذا ما يمنح النظام الإيراني ورقة قوية، تخفف من حدة الانتقادات الخاصة باستغلاله للورقة المذهبية، واستغلال “المظلومية الشيعية” في تنفيذ مشاريع التوسع في دول ومجتمعات المنطقة.
ومع تحرك الشباب الفلسطيني المقدسي، من أجل حماية ملكيات المواطنين الفلسطينيين والهوية الفلسطينية في حي الشيخ جرّاح وباب العمود، ومن أجل الدفاع عن الأقصى أمام انتهاكات مجموعات من اليهود المتطرفين؛ كان من اللافت التضامن العالمي مع الحق الفلسطيني. وقد تجلى ذلك في الإعلام الغربي، والمواقف الشعبية في العديد من الدول الغربية، حتى على المستوى الرسمي في كثير من الدول، ومنها الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وضمن الكونغرس الأميركي نفسه، والحزب الديمقراطي الحاكم تحديدًا. هذه المؤشرات كانت نقلة نوعية، تمهّد لظهور حركة احتجاج مدنية فلسطينية، تتجاوز حالة الاستقطاب العقيمة بين (حماس) والسلطة الفلسطينية (فتح)؛ وكانت مرشحة للحصول على المزيد من الدعم والتضامن على المستوى العالمي، خاصة بعد أن تبيّن للجميع مدى انتهازية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وحرصه على البقاء في السلطة وبأي ثمن، ولو أدى ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية نتيجة الانتخابات المتكررة، وذلك على أمل الفوز، وتأجيل موضوع البت في ملفات الفساد التي تنتظره.
ويبدو أن المصالح قد التقت على تفجير الوضع، ودفعه نحو الحرب، ليتم التوافق لاحقًا على هدنة، يستثمرها كلّ طرف في مشروعه الخاص، وباسم المصلحة العامة. أما المتضرّر فهو، كما كان دائمًا، المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره، سواء في قطاع غزة أم في الضفة أم في القدس وبقية المناطق الفلسطينية.
لقد جاءت صواريخ (حماس) الإعلامية، لتذكرنا بصواريخ صدام حسين على إسرائيل، أيام حرب الكويت عام 1991، فكانت أفضل هدية لنتنياهو الذي استغلها ليسوّق نفسه بوصفه الحريص على ضمان أمن وسلام إسرائيل، عبر القضاء على مخاطر الإرهاب الذي يهدد المواطنين الإسرائيليين.
وتحركت مختلف الجهات الدولية لتسجيل النقاط عبر إظهار الحرص على الفلسطينيين. وكان اللافت هو الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار في غزة، بينما كان التدمير هو سيّد الموقف، الأمر الذي يؤكد أن الوصفات القديمة ما زالت هي التي تستخدم لتخدير الناس، وأن الأضواء تسلط على الأعراض الهوامش، في حين يجري التعتيم على الجذور والأسباب الحقيقية للقضية بأبعادها المختلفة. وعلى الرغم من التصريحات الإيجابية التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، في جولته الشرق أوسطية الأخيرة، فإنها في المحصلة النهائية لم تخرج عن الكلام العام العمومي، القابل للتأويل، والتفسير، وحتى التنصّل.
ومع الإعلان عن الهدنة، بادر كل طرف إلى تسويق نتيجة الحرب على غزة لصالحه، بوصفها انتصارًا استراتيجيًا استثنائيًا، وذلك في محاولة لتسجيل النقاط في مواجهة الخصوم الداخليين في المقام الأول، وتضليل الناس.
على الصعيد الإسرائيلي، من المتوقع أن ترتفع نسبة التطرف والتشدد، وأن يتم قطع الطريق على جهود السلام، وهي الجهود التي كانت أصلًا قد أضعفت، إلى أبعد الحدود. أما على الصعيد الفلسطيني، فمن الواضح أن حركة (حماس) قد بددت سريعًا بوادر التحول النوعي في الرأي العام العالمي الذي كان يبشر بالمزيد.
وإذا أمعنا النظر في طريق التدخل، وأسلوب الخطاب، والاعتراف الممجوج بفضل النظام الإيراني، بل بفضل نظام بشار الأسد نفسه بما حققوه؛ فإننا نصل إلى نتيجة فحواها أن القرار الاستراتيجي للحركة هو الاندماج مع “محور المقاومة والممانعة”؛ وطبيعي في مثل هذه الحالة أن تكون القوة المهيمنة في هذا المحور هي المستفيدة في المحصلة النهائية. وهذا بصريح العبارة معناه أن الحرب الأخيرة، بغض النظر عن مقدماتها وعن المآسي التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون، قد باتت ورقة من أوراق المساومة والبازارات في اللعبة التفاوضية الجارية حول الملف النووي الإيراني؛ وهي عملية لن تقتصر على الملف المعني وحده، بل ستشمل تفاهمات حول الدور الإيراني القادم في المنطقة، وفق حسابات تأخذ بعين الاعتبار الهواجس الأمنية الإسرائيلية.
أما التحركات الإقليمية التي نلاحظها هنا وهناك، سواء بين تركيا ومصر من جهة، أم بين تركيا والسعودية من جهة ثانية، وبين السعودية وإيران من جهة ثالثة، والسعودية ونظام بشار الأسد من جهة رابعة… إلخ، فهي كلها تدور ضمن إطار المنتظر القادم على صعيد الدور الإيراني المستقبلي، في ضوء ما ستُسفر عنه المباحثات مع الجانب الأميركي والغربي بصورة عامة.