تتسابق مختلف دول العالم على تصنيع منظومات الدفاع الجوي وشرائها، بدءًا من أميركا إلى روسيا إلى الصين وكوريا وصولًا إلى الخليج العربي وإيران وتركيا، وتعدّ هذه المنظومات مضادة للطائرات والأجسام الفضائية، وتدور حولها ملامح حرب قادمة، ستكون هذه المنظومات السلاح الرادع الوحيد في وجه التطور التكنولوجي الهائل الذي بدأ يتميز به سلاح القوى الجوية: طائرات وحوامات وأجهزة فضائية وطائرات مسيرة.
ظهر أول سلاح دفاع جوي في التاريخ عام 1870، عبر استخدام بروسيا لبندقية تدعى “بالون كانونه”، بهدف إسقاط بعض المناطيد الفرنسية في أثناء حصار باريس، وقد أسقطت تلك البندقية سبعة مناطيد فرنسية، ومنعت تحليق الباقي بحرية مطلقة، وكان هذا أحد الأسباب المهمة لإعلان استسلام فرنسا عام 1871. ثم استمر تطوير هذا السلاح، وكان إسقاط أول طائرة إيطالية فوق الأراضي الليبية على يد العثمانيين عام 1012، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى واستخدام الطائرات، أخذت الدول تتسابق للدفاع عن الأهداف الأرضية والبحرية والجوية؛ فامتلكت بعض الدول مدافع للطائرات ذات عيار ثقيل ومتنوعة مثل “AA GUNAAERZ” محمولة على عربات تجرها أحصنة، وكان توجيهها وإطلاقها يتمّان يدويًا وبصريًا، بالتزامن مع إطلاق صفارات الإنذار وإطلاق كشافات ضوئية في الليل، حيث لم تكن هناك محطات استطلاع لكشف الأهداف الجوية، وعلى عكس التأثير الكبير لهذا السلاح على المناطيد، كان تأثيره محدودًا جدًا على الطائرات الحربية، نتيجة المناورة العالية لهذه الطائرات، وعدم وجود طرق آلية أو نصف آلية لكشف وإطلاق وتوجيه هذه المدفعية، وكان إنجاز ألمانيا إسقاط طائرة واحدة فقط عام 1914، تطورًا ملحوظًا جرى مع سُعار الحرب، حيث حدثت مجازر حقيقية للطائرات في سماء أوروبا، إذ استطاع الألمان إسقاط 1500 طائرة عام 1917، مقابل إسقاط فرنسا في ذلك العام 500 طائرة، أما البريطانيون فقد أسقطوا قرابة 350 طائرة، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، تطورت صناعة وسائط الدفاع الجوي، حيث استخدم الألمان المدفع “كروب” عيار 88 مليمتر في الحرب الأهلية الإسبانية، وإبّان الحرب العالمية الثانية، أدخلت بريطانيا لأول مرة الرادارات لتوجيه نيران المدفعية المضادة للطيران، واستطاعت إسقاط أول طائرة يابانية فوق سنغافورة، بمدفع عيار 4.5 بوصة، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ظهرت أنواع كثيرة ومبتكرة من وسائط الدفاع الجوي، مثل الرشاش الألماني المحمول على الكتف “فلايكل فاست”، والمدفع الأميركي “M”، وبالرغم من التطور الكبير، لم تكن النتائج مرضية، فقد هُزمت وسائط الدفاع الجوي من سلاح الجو، وحققت 90% من غارات الحرب الجوية أهدافها، وإبّان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، كانت منظومات الدفاع الجوي جزءًا من سباق التسلح وحروب الوكالة، بيت القطبين العالميين، لمواجهة سلاح جديد، كالصواريخ البالستية القادرة على حمل رؤوس نووية مثل الصاروخ السوفياتي “سميوركا” الذي يصل مداه إلى 9330 كيلومتر، وصاروخ أطلس الأميركي الذي يصل مداه إلى 18000 كيلومتر، وفي هذه الفترة، قام الاتحاد السوفياتي بصناعة أول منظومة صواريخ دفاع جوي من نوع دفينا “إس75” التي تمكنت من إسقاط الطائرة الأميركية “لوكهيد يو2” خلال الأزمة الكوبية، واستمر الاتحاد السوفياتي في صناعة هذه المنظومات، حيث أصبحت عائلة “سام” من أشهر منظومات الدفاع الجوي في العالم، ومنها الصاروخ “سام7” المحمول على الكتف، والرشاش “شيلكا”، اللذان لعبا دورًا مهمًا في إسقاط الطائرات الأميركية في حرب فيتنام، وبعد حرب حزيران العربية الإسرائيلية التي خسرت فيها مصر وسورية معظم قواتهما، نتيجة عدم وجود منظومات دفاع جوي فعالة؛ استوردت الدولتان العديد من هذه المنظومات من الاتحاد السوفياتي، ولعبت هذه المنظومات دورًا مهمًا في تغيير موازين القوى لصالح العرب في حرب تشرين عام 1973، أما أشهر منظومات الدفاع الجوي الأميركية فكانت منظومة “نايك زيوس”، ونظام “الحارس” الذي يهدف إلى اعتراض أي صاروخ بالستي نووي روسي، كما صنعت أميركا منظومة الصواريخ “هوك” المتحركة وصواريخ “ستينغر” المحمولة على الكتف التي دخلت الخدمة عام 1981، وكانت هذه المنظومات سببًا رئيسيًا في مقبرة الطائرات السوفياتية في حرب أفغانستان، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
وما بين الماضي البعيد وتفاصيل اليوم، تكثر منظومات الدفاع الجوي وأنواعها وتصنيفاتها واستعمالاتها، برًا وبحرًا، وعلى الرغم من أنها مصنعة في كثير من بلدان العالم، فإن بعضها كان استثنائيًا، ويمكن تسميتها بالمنظومات الأكثر فتكًا، منها ما صُنع في الهند مثل منظومتي “بريتفي PAD” و “بريتفي AAD” القادرتين على اعتراض الصواريخ على ارتفاعات من 30 حتى 80 كيلومتر، أما الصين فتمتلك منظومة “هوتشي 9” القادرة على إسقاط تسعة أنواع من الأهداف الجوية المتنوعة في وقت واحد، بالمقابل تصنع “إسرائيل” منظومة “القبة الحديدية” المخصصة لمواجهة صواريخ مداها من 4 حتى 70 كيلومترًا، ومنظومة الشعاع الحديدي الذي يستعمل أشعة الليزر لإسقاط الأهداف ضمن مدى 70 إلى 300 كيلومتر، ومنظومة “السهم 3″ القادرة على اعتراض الصواريخ خارج الغلاف الجوي، وهناك المنظومة الفرنسية الإيطالية ASTER”” التي تستطيع إسقاط الأهداف حتى 100 كيلومتر.
وعلى الرغم من كل هذا التطور الهائل في صناعة منظومات الدفاع الجوي في هذه البلدان؛ تبقى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في صدارة مصنعي هذه المنظومات، وتعد بطاريات “باتريوت” ومنظومة “ثاد” أقوى العتاد الأميركي المضاد للطائرات، حيث تعمل منظومة “باتريوت” أوتوماتيكيًا دون تدخل بشري، كما تعمل “ثاد” ضد الأهداف داخل وخارج الغلاف الجوي، بمدى يصل إلى 200 كيلومتر، ولدى روسيا أيضًا منظومات متطورة جدًا هي “إس300” المكافئة لمنظومة باتريوت الأميركية، ومنظومة “إس400” القادرة على ضرب الأهداف على بعد 200 إلى 400 كيلومتر، وتعمل روسيا على إنتاج منظومة صواريخ جديدة “إس500” قادرة على ضرب الأهداف الجوية على مسافة 600 كيلومتر، كما تملك روسيا منظومة مرعبة يطلق عليها “تودول – أيه 235” والمجهزة لضرب الأقمار الصناعية خارج الغلاف الجوي.
يمرّ الزمن، ويستمر تطوير هذه المنظومات، على الرغم من انحسار الحروب المباشرة بين مصنعي هذه المنظومات؛ إذ يبدو سلاح الدفاع الجوي اليوم أكثر من آلة ذكية تحمي البلاد، حيث أصبح إنتاجه تجارة مربحة تستغل ذُعر الحكومات ورعبها، وانتقلت الحكاية من سباق تسلح إلى سباق بيع، تقوده أعظم دولتين في العالم، فأينما ذهبت حول القارات تجد إما منظومات روسية أو منظومات أميركية وإما المنظومتين معًا في الدولة نفسها، كما هو الحال مع السعودية وتركيا، وتبقى هذه المنظومات أسلحة ردع مخزنة باستخدامات محدودة، لكن هل هذه الأسلحة بأمان؟ ماذا لو وقعت هذه المنظومات في أيادي جماعات متطرفة؟ وماذا لو أخطأت هدفها الحقيقي، نتيجة خطأ برمجي أو نتيجة قرصنة نظامها الإلكتروني؟ وماذا لو اشتعلت حرب عالمية ثالثة أمام هذا الكم من الأسلحة الفتاكة؟ أعتقد جازمًا في هذه الحالة أن حكاية إسقاط المناطيد الفرنسية عام 1870 ستكون مجرد نكتة، وسيلحق جحيم أسود بكل شيء يطير في السماء أو يسبح في الفضاء الخارجي، حيث ستتعطل محطات التلفزيون، وتقف حركة الملاحة الدولية لمئة ألف رحلة جوية حول الأرض يوميًا. والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى أين تسير القوى العظمى في صناعات وسائط ومنظومات الدفاع الجوي؟ وما المستقبل الذي ينتظر كوكبنا مع سباق أغلب دول العالم لامتلاكها؟!