قد تكون الثورة أهمَّ فعل سياسي قام به السوريون خلال نصف القرن الماضي، لكن بالمقابل كان أكثر ما افتقدته الثورة خلال السنوات التسع الماضية هو السياسة! فكيف يصحّ هذان القولان المتناقضان؟ لكي نفهم هذا التناقض؛ لا بدّ من إعادة تعريف السياسة، والتمييز بين معنيين، عام وخاص، للمفهوم.

السياسة، بالمعنى العام، تعيدنا إلى الفهم الأرسطي الذي يرى أن الإنسان هو “حيوان سياسي”، يسعى لتحقيق رغباته ومصالحه وحاجاته عبر التعاون والتفاوض والتنازل والتفاضل والقوة، وبالتالي؛ يكون كلُّ فعل عام يؤثر سلبًا أو إيجابًا، ويندرج ضمن علاقات السلطة بين الأفراد أو بين الفرد والمجتمع أو بين الحاكم والمحكوم، فعلًا سياسيًا، والسياسة بهذا المعنى العام قد تشمل كل فعل اجتماعي تقريبًا، بحيث يصبح حتى العزوف عن السياسة سياسةً وموقفًا سياسيًا.

مع ميشيل فوكو الذي أقام فلسفته استنادًا إلى الفهم النيتشوي للعالم؛ تغيّر معنى السلطة التي هي حجر الأساس في السياسة، حيث باتت السلطة منتشرة في كل علاقة فردية أو اجتماعية، والأفراد في أي مجتمع يمارسون السلطة ويعيدون إنتاجها في كل فعل واع، أو غير واع، ضمن الإيبستيم السائد، فعلاقات مثل الأب/ الابن، المرأة/ الرجل، الطبيب/ المريض، المدرّس/ الطالب، الكاهن أو الشيخ/ التلميذ.. إلخ، كلها علاقات سلطة، وإعادة تمثيل للسلطة. وليس ذلك فحسب، بل إنه حتى الاقتراحات أو التوقعات، ما تقبله وما ترفضه، أو من تأخذ كلامه على نحو جديّ، ومن لا تعيره اهتمامًا، حتى اللايكات على فيسبوك وتويتر.. جميعها علاقات سلطة، وتندرج ضمن ما يسميه فوكو repressive hypothesis. وعلى اعتبار أن جميع العلاقات الافتراضية أو الواقعية هي علاقات سلطوية، فهي إذًا علاقات سياسية، وتدخل ضمن التعريف العام للسياسة. 

أما السياسة، بالمعنى الخاص، فيمكن تعريفها بأنها فنّ إدارة الشأن العام، أو هي فنّ إدارة علاقات السلطة في المجتمع، وعلى ذلك؛ فإن أي عمل سياسي فردي أو جماعي “الثورة ضمن سياقنا” هو عملٌ يحتاج إلى إدارة سياسية وتأطير نظري، ينطلق من عمومية الفعل السياسي، ويقوم بتخصيصه ضمن قيم سياسية، ليُعاد طرح تلك القيم على العموم ضمن برامج عمل، وذلك بهدف مأسستها وتحويلها إلى مبادئ أو قوانين تؤطر العمل السياسي وتحكم معاييره، وبحسب ديفيد إيستون، السياسة هي “تخصيص سلطوي للقيم”.

إن تأطير الثورة -بوصفها عملًا سياسيًا عامًا- بالسياسة التي تدير العمل العام، يمنعُ أولًا “التشبيح” الثوري الذي يُبنى على قاعدة “ثوار الخنادق وثوار الفنادق”، أو تقسيمات الداخل والخارج، مع التفضيل المعياري السائد دائمًا للأول على الثاني. ويمنع ثانيًا تحوّل الفعل الثوري والسلطة التي ترافقه إلى نسخة مقلوبة عن السلطة التي يحاربها، فكثيرًا ما تحول “الثوار” إلى مجرمي حرب، وكثيرًا ما تحولت مقولة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” إلى أداة سياسية بيد الدكتاتوريات الثورية وأنظمتها التي أعقبت الثورات. ويؤسس ثالثًا للقيم التي قامت عليها الثورة وأفرزتها ضمن سياقها وتجربتها الفريدة، عبر تحويل تلك القيم إلى أسس عمل وسلطة بديلة تمثيلية دون أن تكون متعالية.

في الثورة السورية، أدت مستويات القتل والعنف والتعذيب والتهجير والاقتلاع التي مارسها النظام السوري، ضد الأفراد والبنى الاجتماعية الثائرة، إلى صعود العمل الثوري إلى الواجهة، باعتباره الفعل السياسي الأعلى والأسمى، لكن “العمل الثوري” الذي انخرط تدريجيًا -بقوة الأمر الواقع- في السلاح ثم الأسلمة، وجد نفسه في النهاية، نتيجة أولويته ذاتها، أمام تمثيل سياسي شعبوي وهزيل، يفاوض باسمه محمد علوش، وأمثاله من “حاملي همّ الأمّة” وسُرّاق المعونات الإنسانية للمحاصرين.

تلك العملية التي أدت إلى صعود الشعبوية الثورية (ويمكن تسميتها بالانتخاب الطبيعي المعكوس، حيث البقاء للأسوأ والأكثر رداءة) ساهم فيها عدد من العوامل ومنها:

أولًا، مثقفون يعيشون على الرفض الذاتي والشعور بالذنب، نتيجة عدم انخراطهم في الساحات ثم في ميادين القتال، وربما فقط لنجاتهم؛ فيبدؤون بتبجيل الثائر المقاتل، وإعطائه الأولوية والأهمية العليا، وتلك العملية بدأت منذ البداية، مع انتشار فكرة إعطاء الأولوية للشارع ولصوت الشارع، وجعل السياسة مجرد انعكاس ميكانيكي له، وأوصلتنا إلى أن يرفض “الناشط الثوري” خالد أبو صلاح، وخلفه كتلة التمثيل الثوري، بيان جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012 الذي يقرّ هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة، مطالبًا بمنطقة آمنة لحماية المدنيين. ثم انتقال قيادة الجيش الحر، الذي كان عماده العساكر والضباط المنشقين، إلى “أبو البراء” و”أبو محمد”، ثم إلى الفصائل الإسلامية و”محاكم التفتيش الإسلامية”، وصولًا إلى الأمير الجولاني، والخليفة البغدادي.

ثانيًا، سياسيون قدماء، معظمهم يعامل السياسة كثقافة، أي جملة مبادئ وطنية متعالية أخلاقيًا، بعد أن حولوا الثقافة سابقًا إلى سياسة وأيديولوجيا، أما الجزء الآخر من المدرسة ذاتها، فهم “إخوان مسلمون” ممن اجترحوا سياسة يمكن وصفها بـ “الميكافيلية الإسلامية”، ويعاملون السياسة كاللصّ الذي يسلّم عليك بيد، ويسرقك باليد الأخرى.

ثالثًا، الشارع السوري الشاب الذي لا يثق بالمعارضة، ولا يُكنّ لها الاحترام. وذلك الموقف العام، على الرغم من أحقيته، موقفٌ مؤسَّس بفعل رجعي يعود لنظام الأسد الذي قلّل من شأن المعارضة وأهميتها، وأنكر حتى وجودها. وجديرٌ بالملاحظة أن الشارع السوري الشاب الذي لا يُكنّ الاحترام للمعارضة السياسية، كان وما يزال، يرفض هو ذاته الانتماء السياسي، ويجزع من الجماعات والأحزاب والحركات السياسية، وتلك المشكلة جعلت الجميع يدور في حلقة عدمية مفرغة، فلا الجيل القديم معترف به من الشارع، ولا الجيل الجديد قابل للانتظام السياسي الفاعل.

ربما كان كل ما سبق ذكره، من مشكلات وإشكالات، يعود في أصله وفصله إلى نظام الأسد الذي أفرغ سورية من السياسة والحياة السياسية، خلال نصف قرن من حكمه، ولكن لا بديل أمامنا من صناعة السياسة، لتأسيس المستقبل المشترك للمختلفين، فالثورة بلا سياسة تكون عمياء، مثلما كانت السياسة بلا ثورة -دائمًا في سوريا الأسد- جوفاء.