في الشرق، حيث البؤس وجبة الحاضر، والقهرُ فقه تاريخي متوارث؛ تترنح اللغة والثقافة، ويغدو الفقر والظلم وقوة بلطجة السلاح عنوانًا يوميًا يتكرر بألف طريقة.
في بيروت، واجهة مدن الشرق وباريس الصغرى، ومنذ قرر شبابها في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 الخروج عن مشهدها السياسي والاقتصادي المعطل عنوة، تزداد مشاهد البؤس وتتكدس المظالم، وكأنها تستعيد ذكريات باريس في الفوضى والظلم وهيمنة القوة العسكرية، وموروث القوانين والعادات الوضعية التسلطية، قبل قرنين من الزمن! فهل هي مجرد مصادفة تاريخية أم ثمة قول آخر لم تقله بيروت بعد؟
شرقنا اليوم، وبيروت عاصمة شرقنا ودرّته، هو بيروت التي خرجت من حربها الأهلية أواخر الثمانينيات رافضة الانكسار والهزيمة، لتصبح عاصمة الثقافة العربية، وملجأ كلّ الفارين من سلط الاستبداد الشرقي، كتّابًا وأدباء وسياسيين ومفكرين. بيروت تاريخ الصحافة الحرة، وقِبلة الشعراء والأدباء والكتّاب العرب.. بيروت التنوع الثقافي والتاريخ المدني عميق الجذور.. بيروت حاضنة الحريات والتعدد والاختلاف وقبول الآخر، بأعلى درجاته العصرية في الحرية الفردية، وقد أضافت إليها نكهتها الشرقية الإبداعية، في تخليق الجديد فنًا وأدبًا وشعرًا وثقافةً، رعايةً وتنميةً. لتخط لحنها الشرقي الفريد خلال عقدين من الزمن بين 1990 و2010.
لكن بيروت اليوم في موقع مختلف كليًّا، بيروت خلاصة البؤس الشرقي ودلالته الأعمق!
لم تتوقف بوكي موكو، ممثلة اليونسيف في لبنان، عن تصريحاتها المتتالية المحذرة من سوء الأوضاع المعاشية والتعليمية في لبنان في الأيام الماضية. والتي أعقبت صدور تقرير اليونسيف للعام 2020 حول الأوضاع في لبنان، والذي أتى تحت عنوان “العيش على الحافة في لبنان”، فأكثر من نصف السكان أصبحوا تحت خط الفقر، والأوضاع باتت الأسوأ، على كثير من اللبنانيين، حتى إنها أسوأ من ظروف الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، وأكثر من ثلث طلاب المدارس وخاصة الشهادات لم يلتحقوا بمدارسهم، وسكان بيروت في حيرة وتردد! حيث لم تكتفِ بيروت بجائحة كوفيد 19، كباقي عواصم الكوكب، فأتى تفجير مرفئها، العام الفائت، تتويجًا لسلسلة أزماتها الاقتصادية والسياسية المتتالية، ليرخي البؤس بدلالته المتعددة، ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، على عاصمة الحريات والثقافة في هذا الشرق البائس. فإن كانت دلالات تقرير يونيسيف لا تخطئها العين البشرية في الأزمة السياسية وانعكاساتها الاقتصادية التي تعيشها لبنان، فإن الدلالة الأعمق له تتجلى في نموذج البؤس الذي يخيم على الشرق وكثافته في بيروت، حيث لم تنحل عقده وحلقاته المتداخلة.
هوية الشرق ومدنه هي هوية الاستبداد بكل صنوفه:
- – استبداد النص الديني وتنازع فِرقه الدموي، وكلّ فرقة تدعي أنها الوحيدة الناجية، تأويلًا أو تفسيرًا أو شبهةً نصية، تكفّر وتجرّم البقية، وتعيد إنتاج حرب صفين في مقتلةٍ عامةٍ لفتوى النص المقدّس والموت دونه.
- – استبداد سلطات العسكر والأخذ بالقوة الإكراهية والقمع والعنف المفرط، وما الهيمنة والبلطجة لميليشيات “حزب الله” وأشباهها اليوم، سوى النتاج الأوضح لتعدد حكم الميليشيات وغياب الدور الوطني لما كان يسمى بالجيش الوطني، الذي يتحول مع الزمن إلى ميليشيا مثل غيره.
- – استبداد الموروث من عادات وتقاليد متعددة الأطياف يحرّم الحريات بكلّ صنوفها: حرية المرأة، حرية الشباب وتطلعاتهم المدنية والعصرية والعلمية، ويقيم استبداد العرف والتقليد وثقافة محو الذات الفردية، مقابل الـ “نحن” القَبْلية أو الأسرية أو الطائفية أو الدينية، وتنامي نزاعاتها الفئوية حتى باتت وكأنها سمة عصرية!
- – استبداد الأداليج الشمولية، سواء كانت القوموية أو الماركسوية، وأسرها للفكر الشرقي بمجموعات من المسلّمات والبديهيات، يختلط فيها الفكر وأدوات التحليل السياسي للواقع، مع الأماني والرغبات والمشاعر، لدرجة تفقد معها الحدود الفاصلة بين الوهم ومعطيات الواقع. وما لم تتجه بيروت للأخذ بطرق العلوم والمعرفة، أكاديميًا ومنهجيًا، في دراستها وتحليلاتها واستخلاص نتائجها، فسيبقى الواقع خلطة من البؤس والخذلان والرغبات الموءودة.
لست بوارد التعميم، ولا ممارسة فكر النفي المطلق ذاته الذي تمارسه حلقات البؤس الشرقي المتعددة والمتداخلة هذه، سواء أكانت دينية أم سياسية أم ثقافية، لكنها محاولة نقدية، وهذه الـ “لكن” أكررها مرارًا وتكرارًا، فاتحة ألم دفين مرة، وشهية رغبة في الحياة استدراكًا في مرة أخرى. وإلا فكيف يمكن لبيروت التي خرجت من حرب أهلية استمرت 15 عامًا، منتصرة على كل قيود الاستبداد أعلاه، أن تعود ثانية مدينة للبؤس والبؤساء مرة أخرى؟ بيروت التي غنت للحب والسلام، بيروت التي احتضنت بدر شاكر السياب العراقي، ومحمود درويش الفلسطيني، ومحمد الماغوط السوري والعشرات غيرهم.. بيروت التي أنتجت مدرسة الرحابنة في الفن المحدث والكلمة البسيطة التي تجتاح النفوس، فتوقظ معالم الجمال والحياة فيها.. بيروت ويكفي أن نقول إن فيروز في بيروت، حتى تستحضر قصة الحداثة والحرية والروح الشرقية في لحن فريد ومتفرد، كيف لها أن تستعيد قصة البؤس، ويصبح ناسها وفنّها وثقافتها ينازعون مصير البؤساء! ويستعيدون ذكريات البؤساء التي كتبها قبل قرنين من الزمن فكتور هوجو عن باريس.
في رواية (البؤساء) لفكتور هوجو، تلك التي أرّخت أدبيًا لعصر الظلم الاجتماعي في فرنسا، بين عهدي نهاية الإمبراطورية العسكرية البونابرتية 1815، وفشل الثورة ضد الملكية العائدة للحكم بعهد لويس فيليب 1832؛ يروي هوجو صراع الخير والشر، عادات الفرنسيين الأسرية، صراع الوضعية القانونية مع رغبة الحياة وفلسفتها. صراع الأخلاق والفلسفة، العدالة والحبّ مع الفوضى والظلم والسحق السياسي والاجتماعي اليومي. ويقول هوجو في مقدمة الرواية: “تخلق العادات في فرنسا ظرفًا اجتماعيًا هو من نوع جحيم بشري، فطالما توجد لا مبالاة وفقر على الأرض، فإن كتبًا كهذا الكتاب ستكون ضرورية دائمًا”. هذا ما جعل الفرنسيين في تلك الرواية حدَثًا مفصليًا في الثقافة والحداثة والعصرية، يحتفى به إلى اليوم، مسرحيًا وسينمائيًا، كحدث ذي دلالة على ضرورة تحقيق العدالة والحرية والتعاقد المجتمعي الرضائي على سيادة الدولة. وذلك حين قرر الفرنسيون دخول عصر الحريات والتعاقد الرضائي والطوعي على آلية للحكم، باستبعاد سلطتي الدين والعسكر من شؤون الحكم والسياسة، لتصبح الحريات الفردية والقانون العام والعدالة الاجتماعية وتكافؤ فرص العمل والمنافسة الشرعية والحياة الكريمة تسير في مركب واحد يسمى مركب الدولة العصرية.
صراع جان فالجان، المسجون بتهمة سرقة رغيف الخبز، ومغالبته تحقيق الخير والعدالة مجتمعيًا، مع الشرطي فرانسوا فيدوك الذي يمثل الهيمنة الوضعية بطقوسها السلطوية في رواية (البؤساء)، هو صراع الشرق اليوم، وكثافته في بيروت. صراع رغبة الحياة والانفكاك من أسر المظالم ومن عصر الطوائف وحكومات الطوائف وأمراء مالها واقتصادها وسياسييها.. صراع القوى المدنية وجيل الشباب العربي واللبناني ووجدانه المتقد بالحرية والكفاءة والقدرة، مع ميليشيات العسكر، وكذبتها المنكشفة أمام حركة الواقع والتاريخ في أكذوبة الممانعة وتحرير القدس، وهي التي عملت، بكل الطرق الاستخباراتية والميليشياوية، على اغتيال كلّ صاحب رأي حرّ وثقافة وفكر، كأمثال سمير قصير، وجورج حاوي، وكمال جنبلاط، والقائمة تطول.. هو الصراع الذي يتكرر اليوم في مسيرة مدن الشرق عامة، وبيروت في عين عاصفته اليوم، لتلتحق بدمشق والقاهرة وتونس وغالبية مدن العرب التي تعيش ذلك البؤس وبأشكال متعددة.
قبل 30 عامًا، كنت أتردد إلى بيروت للعمل كنجار بيتون، كأي طالب جامعي سوري يبحث عن فرصة مثمرة للعمل تُعينه على استكمال دراسته. في العام 1997، زرت بيروت لآخر مرة، واحتفظت بـ “شاكوش” النجار معي كتذكار. اليوم، أكرر الفعل ذاته باستخدامه للطرق على بقايا الخشب، كلما أظلمت الدنيا في وجهنا في دمشق، وكأنني أستعير قصة الدكتور مانيت في رواية قصة (مدينتين) الشهيرة لشارلز ديكنز، الذي كان كلما أحاق القهر والظلم به، بعد خروجه من سجن الباستيل، يعود لممارسة هوايته كحذاء. وأخشى ما أخشاه أن يكرر جيل الشباب، في غالبية عواصم الشرق هذا، فعل الطرق ذاته، بعد عقود مثل معظم جيلنا البائس اليوم! ما لم يُقدم اللبنانيون على تفادي تكرار تجربة البؤساء مرة أخرى، والاتجاه لنفي لغة العسكر والميليشيات والمحاصصة الطائفية، والتوجّه السريع لمدنية سلطة الدولة وعصرية قوانينها واستعادة رمزية حضورها الثقافي والفني والأدبي، وهذا رهنٌ بقواها المدنية والسياسية والثقافية والفكرية وقدرتها على عدم الاستسلام لسياسات الأمر الواقع الوضعية، كما فعلتها باريس ذات يوم، حتى إذا ما كتبنا عن هذه المرحلة قلنا: استعرنا البؤس الباريسي عنوةً، وسنستعير عصر الحريات والقانون رضائيًا وطوعًا..
ننتظر وعين البؤس والقهر تردد خلف فيروز: من قلبي سلام لبيروت…