لم يكن قرار فرض تصريف مئة دولار أو ما يعادلها بالعملات الصعبة، بالسعر الرسمي، على المواطنين السوريين الراغبين في الدخول إلى سورية، مفاجئًا قط، فهؤلاء الذين تناوب عليهم الظلم والقهر والاستعباد، منذ ستة عقود ونيّف، لم يعد يفاجئهم أي شيء، فمن فتح عينيه على الأرض المحكومة بالنظام الأكثر توحّشًا في العالم، يفقد القدرة على الدهشة أو الخوف أو حتى الاكتراث. هكذا بكلّ بساطة، يدفع السوريّ ثمن الوثيقة المسمّاة “جواز السفر” ما بين 350 و800 دولار أميركي، وعليه في الوقت نفسه أن يدفع لحكومة بلده ضريبة دخول بالدولار الأميركي أو باليورو أو بالجنيه الإسترليني.

كمقارنة سريعة، نورد تكلفة استصدار جواز السفر الألماني الذي يكلّف حامله 60 يورو فقط لا غير، والتكلفة تنخفض إلى النصف عند الأطفال، ونورد أيضًا قوّة هذا الجواز. فاستنادًا إلى بيانات الاتحاد الدولي للنقل الجوي، الذي يحتفظ بأكبر قاعدة بيانات في العالم وأكثرها شمولًا لمعلومات السفر، يأتي هذا الجواز في المرتبة الأولى عالميًا، من حيث قدرة حامله على الدخول إلى 177 دولة بدون تأشيرة دخول “فيزا”[1]، بينما لا يتمكّن حامل جواز السفر السوري من دخول أي دولة في العالم، بدون تأشيرة دخول مسبقة، حتى السودان الشقيق، وماليزيا التي فرضت نهاية آب/ أغسطس الماضي على السوريين شرط الحصول عليها.

تُعرّف تأشيرة الدخول أو الفيزا بأنّها: “قيود الدخول الإداري التي تفرضها سلطات الدول على الرعايا الأجانب من غير مواطنيها”[2]،وهذه التأشيرة من متطلبات الأمن القومي للدول، وغالبًا تعتمد الدول مبدأ المعاملة بالمثل فيما بينها، فتضع شرط الحصول على تأشيرة الدخول على رعايا الدول الأخرى التي لا تربطها معها علاقات إعفاء من هذا النوع. لكن ثمّة دول تحظى وثائقها باحترام كبير، بحيث لا توضع في وجه حاملها تدابير أو قيود الدخول الإداري المسمّاة “فيزا”، والأسباب في ذلك كثيرة، منها قوّة الدولة المعنية سياسيًا واقتصاديًا، ومكانتها واحترامها لمواطنيها، إضافة إلى عوامل أخرى، منها على سبيل المثال الرغبة في جذب السيّاح من الدول الغنيّة.

لم يحدث أن فرضت دولة في العالم -بحسب علم كاتب هذه السطور- رسومًا على مواطنيها للدخول إلى بلدهم. لكنّ “حكومة” الجمهورية العربيّة السورية قد فرضت هذا الرسم أخيرًا. وإذا عدنا إلى السجلات والتاريخ قليلًا، وجدنا أنّ ما كان يدفعه السوري، ولا يزال، كضرائب أو رسوم على اعتباره مواطنًا سوريًا، لا يمكن العثور عليه في أي نظام أو لدى أي حكومة تحترم ذاتها أو مواطنيها. والأمثلة كثيرة، منها ضريبة الاغتراب، وضريبة “فوات منفعة خدمة العَلَم”!!

يدفع السوري ضريبة مالية لحكومة بلده، لأنه اغترب عن أرضه، لأنه لم يجد في بلده مورد رزقٍ، فراح يبحث عنه في أرض الله الواسعة، وبالرغم من أنه عانى الويلات في الغربة عن الوطن، عليه أن يدفع ضريبة ماليّة على ذلك!!

ينصّ الدستور السوري الصادر (على مقاس بشّار الأسد) عام 2012 على:

المادة 38

  • لا يجوز إبعاد المواطن عن الوطن، أو منعه من العودة إليه.
  • لا يجوز تسليم المواطن الى أي جهة أجنبية.
  • لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة أو مغادرتها، إلا إذا منع من ذلك بقرار من القضاء المختص أو من النيابة العامة أو تنفيذًا لقوانين الصحة والسلامة العامة.

وفي مخالفة سافرة لهذا الدستور، أصدر مجلس الوزراء السوري، تعليمات تقول: “يتوجب على المواطنين السوريين ومن في حكمهم تصريف مبلغ 100 دولار أميركي أو ما يعادلها بإحدى العملات الأجنبية التي يقبل بها مصرف سوريا المركزي حصرًا، إلى الليرات السورية بحسب نشرة أسعار صرف الجمارك والطيران، عند دخولهم لأراضي الجمهورية العربية السورية”[3].

الأشد نكايةً من ذلك كله أن يدلي اللواء ناجي النمير (مدير إدارة الهجرة والجوازات) بتصريح للتلفزيون، يشرح فيه مصير السوري الذي لا يستطيع تصريف هذا المبلغ. فقد أفاد بكلّ بساطة بأنّ “من لا يملك مئة دولار أو ما يعادلها من عملات صعبة من القادمين، لن يستطيع دخول البلد، وسيكون عليه العودة من حيث أتى، أو أن يتصل بأحدٍ من عائلته أو أقاربه أو أصدقائه ليأتي إلى الحدود ويدفع له هذا المبلغ” وأردف قائلًا: “هؤلاء يطلق عليهم صفة العالقين على الحدود، وهم أحرار في أن يفعلوا ما يشاؤون، فهم يستطيعون المبيت على الحدود، وتناول الطعام والشراب”!!![4]

لا شيء يعدل هذا التصريح سخفًا واستهتارًا، سوى إصدار مثل هذا القرار من مجلس الوزراء السوري. وقد علّق أحد السوريين على الخبر، على حسابه في منصّة (فيسبوك) بالقول ساخرًا: “يجب أن نشكر السيد اللواء على هذا الكرم، لأنّ نظامه في العادة يمارس مع السوريين شتى أنواع القتل والتعذيب والاضطهاد، وهو الآن يترك لهم رفاهية النوم في العراء، دون أن يعتقلهم أو يطلق عليهم النار!”. لكن ماذا ينتظر العالم من حكومة نظام قصف الناس بالبراميل والصواريخ والسلاح الكيمياوي، وهل ثمّة عتب أو لوم بعد ذلك؟

لم يحظَ السوريون بفرصة بناء دولتهم، وأغلب الظنّ أنّ هذا الوصف ينطبق على كثير من إخوتهم في البلاد العربيّة. الدولة ليست مجرّد جهاز للقمع ولا لتحصيل الضرائب ولا لفرض إرادة الحكّام بالعنف، الدولة وعاءُ بناء الهويّة الوطنية، هي الشرط الرئيس لتشكّلها والعامل الحاسم في إنضاجها. فإذا كانت هذه الدولة عدوًّا للمحكومين بأجهزتها، فستصبح بالضرورة عامل تفتيت للهويّة، إن كانت ناجزة، أو عامل إعاقة لنشوئها. وفي أغلب بلدان الاستبداد، تماهت الدولة مع أنظمة الحكم، فأصبح الحاكم، فردًا كان أم مجموعة من العسكر، هو الدولة، وهذا يعني بالنتيجة أنّ البيئة المناسبة لبناء الأساطير المؤسسة للهويّة الوطنية مفقودة من الأصل. التأسيس يكون هنا لفئة ضئيلة جدًا هي المتحكّمة في موارد الدولة، هنا يمكن أن تصبح الدولة كما هي الآن في “سوريا الأسد”، أو كما كانت سابقًا في ليبيا القذافي، لكنها لا يمكن أن تصبح وطنًا لأبنائها.

هنا يصحّ القول إنّ المواطن في هذه الدول، سواءٌ أكان عالقًا على حدود بلده من الداخل أم من الخارج، هو المواطن الحقيقي الوحيد، الإنسان المعرّف بأنه غير قادرٍ على الدخول إلى بلده ولا على الخروج منها، إنّه المواطن غير المرئي وغير المحسوس، المواطن الذي يفقد صفة المواطنة، ويصبح أحد رعايا الحاكم الإله، إنّه دافع الضرائب الملزمُ بواجبات بلا حقوق تقابلها، إنّه المواطن الوحيد المسموح له بالوجود وبالعيش هنا، المواطن ذو البعد الثالث.


[1] موقع ألمانيا بالعربي 24 – تقرير محمد أبو العينين 7/2/2020-

[2]– المرجع السابق

[3]– موقع “ارفع صوتك” الإلكتروني- نشرة 9/9/2020

[4] وكالة زيتون الإعلامية – نشرة- 31/8/2020-