في الرسالة التي أرسلها الإمامُ عليّ بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، عبارةٌ تكثف مفهومًا ناضجًا للمواطنة وتكريس التعددية، إذ يقول للأشتر: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”. ولا شكّ في أن مفردة “نظير” مستخدمة بوعي كامل من طرف رجل يُعدّ من أعرف الناس بدلالات الألفاظ على معانيها. فالنظير هو الشبيه أو المساوي في الأهمية، وفي هذا التوجيه من الإمام عليّ لواليه، ما يؤكد ضرورة معاملة الناس من أديان أخرى معاملة متساوية؛ لأنهم متساوون في الخلق.

وهو فهمٌ مشتقّ من القرآن الذي ينصّ على تكريم الله بني آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، (سورة النساء، آية 70)، وعلى خلقه الناس من نفس واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. (سورة النساء، آية 1).

وهو مشتق أيضًا من سيرة النبيّ الذي أسّس في المدينة المنورة دولة يتساوى فيها المواطنون، كما هو واضح في دستورها، ولا يعوق تبنّي القائمين على الحكم فيها عقيدة التوحيد عن التوفيق بين الكونية الإنسانية، وبين العلاقات الأفقية في المجتمع. فقد جاء في صحيفة المدينة مثلًا: “وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ[1] إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ”؛ “وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف”؛ “وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ”؛ “وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ”؛ “وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ”؛ “وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف”؛ “وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نفسه وأهل بيته”. وواضح أن الصحيفة تنصّ على مفهوم للمواطنة، يمكن أن يكون أساسًا لبلورة مفهوم مواطنة عصريّ.

الأخوة عابرة للأديان في الإسلام

ما يفهمه البعض من الآية الكريمة: {إنما المؤمنونَ إخوةٌ} على أنها تقصر الأخوّة على المؤمنين فحسب، يعبر عن قصور في فهم معاني اللغة العربية؛ فأسلوب القصر في الآية إنما يقصر المؤمنين على الأخوّة، لا العكس، بمعنى أن العلاقة بين المؤمنين علاقة أخوّة، وهي أحكم وأقوى أنواع العلاقات. فالمقصور عليه هو الأخوة، ولا تعني الآية قصر الأخوة على المؤمنين، بحيث تخرج من دائرة الأخوة غير المؤمنين، وتُقصي -من ثمّ- من علاقة الأخوة، من لم يدينوا بدين الإسلام. ويمكن بناءً على هذا أن تكون الأخوة علاقة بين مسلمين وغيرهم في الإنسانية.

فالناس أمة واحدة، كما يؤكد القرآن الكريم: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. (البقرة، 213).

والفعل “كان” في الآية لا يعبّر عن زمن ماض، وإنما عن واقع قائم؛ لأن الفعل “كان” في العربية لا يحمل دائمًا مدلولًا زمانيًا، وإنما يعبّر أحيانًا عن مجرد رابطة بين مسند ومسند إليه. أما الفهم الشائع عن أن الخلاص مقصور على المسلمين، فهو مخالف -بحسب وجهة نظر مفكرين إسلاميين معاصرين- لنصوص قرآنية صريحة مثل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. (البقرة، 62).

ويشير المفكر عبد العزيز ساخدينيا[2]، في كتابه: (الجذور الإسلامية للتعددية الديموقراطية) إلى أن هذه الآية تدل على أن الناس يحاسبون على أدائهم الأخلاقي، وليس على انتمائهم الديني.

ولا ينفع في نقض هذا الفهم استدلال البعض بالآية: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران، آية 85). لأن لفظة الإسلام في الآية لا يقصد بها الدين المحدد، وإنما تعني الخضوع لله، ويؤكد ذلك الآيتان السابقتان لهذه الآية اللتان تتحدثان عن الإسلام بهذا المعنى، كما يؤكد ساخدينيا. وهو رفض لحصر الخلاص بأتباع دين واحد يؤكده من المحدثين الطباطبائي[3] الذي يرى أن أي شخص يتبنّى اعتقادًا ما، ويسلك سلوكًا موافقًا لاعتقاده، مستحقّ رحمة الله، وحمايته من عقابه.

ولكن كل ما ذكر سابقًا يؤسس لحالة جنينية للمواطنة المتساوية وللتعددية المطلوبتين من منظور معاصر، هذا المنظور الذي يمكن أن تكون الراولزية (نسبة إلى المفكر الليبرالي الأميركي المعاصر جون راولز) أهم تجلياته، فمفهوم الإجماع المتشابك الذي يقع في بؤرة نظرية راولز عن العدالة يمثل استجابة لواقع منطوٍ على عقائد مختلفة وشاملة ولكل منها أتباعه، وهو ما يستدعي تأييد هذه العقائد لمفهوم سياسي واحد. بكلمات أخرى، تنطوي فكرة الإجماع المتشابك على صفة الضرورة المنبثقة من كون مفهوم العدالة يتطلب قبولًا من عقائد كلية ومتغايرة لا يمكنها -بحكم شموليتها- أن تتصالح، وقد تفضي النزاعات بين مؤيديها إلى تدمير النظام السياسي، وهو ما يمكن تجنبه عن طريق تأييد أبتاع هذه العقائد لمفهوم سياسي واحد متجسد في نظام دستوري. وقد يفهم خطأ أن المطلوب من مفهوم الإجماع المتشابك إقامة توازن بين العقائد الشاملة، على حين أن المقصود ليس التوفيق بين هذه العقائد، وإنما رسم مفهوم للعدالة في نظام دستوري يمكن المصادقة عليه من الجميع على اختلاف انتماءاتهم العقدية[4].

ومفهوم التعارف الإسلامي لا يستجيب لما تتطلبه العدالة المسوغة في نظام دستوري من عمى لغوي وعرقي وإثني. كما أن محاولة عبد العزيز ساخدينيا (المشار إليها آنفًا) لا تعدو أن تكون محاولة قاصرة؛ لأنها لا تجيب عن سؤال المواطنة المتساوية الشاملة لغير الكتابيين المتحدرين من العائلة الإبراهيمية نفسها.
ثمة محاولة جريئة لمحمود محمد طه، المفكر السوداني الذي أعدمته السلطات السودانية بتهمة الردة، تقوم على إعادة تشكيل الرؤية الإسلامية بالاستناد إلى السور المكية المعبرة عن حياة معاشة من طرف المسلمين، وهم في وضع أقلية، والتي تختلف عن السور المدنية في كون الأخيرة تعترف بعلاقات بين المسلمين والكتابيين، بينما توضح الأولى (المكية) طريقة تعامل المسلمين مع المشركين الذين لا تربطهم بهم رابطة دينية من أي نوع[5]. وهو عين ما يؤكده القرضاوي الذي يقول إن القرآن المكي يحوي العبارة الأنقى للطموح الكوني والانفتاح على الجميع، فهو يقول إن الآية 118 من سورة النساء: {ولو شاءَ ربُّك لجعلَ الناسَ أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين}، تدلّ على أن توحيد البشر في طائفة واحدة أو دين واحد يعارض الإرادة الإلهية، وأن الإسلام يأخذ حصة في كلّ الناس، بدون النظر إلى دين أي منهم. وبناء على هذه المقدمة، يخلص القرضاوي إلى أن كل الأرواح تنتمي إلى الله، وهي موضع احترام، والمسلم يريد لكل الأرواح أن تنجو، ولكن الحكم النهائي في هذا لله وحده[6].

نقول إن هذه المحاولة الجريئة الجادة التي لا نبخسها حقّها لا تجيب عن السؤال المركزي، وهو: هل حقيقة التعددية، كقضاء إلهي، كافية لاستنتاج عقيدة المساواة الليبرالية في مجتمعات أكثريتها مسلمة؟ والجواب أنها غير كافية، في نظرنا يستند إلى قصور مفهوم التعددية كقضاء إلهي عن الاستجابة لواقع التعددية المعقولة التي تتوخى إنجاز أمرين: الأول معقولية الاختلاف الديني والأخلاقي وشرح أسبابه والقبول به كشكل دائم للمجتمعات الحرة، وليس النظر إليه كواقع مؤقت يختفي عند تحقق ظروف مثالية؛ والثاني أن هذا الواقع ينبغي أن يقدّم أساسًا لنظام سياسي متبنّى من طرف الجميع بالإرادة الحرة.

ومن هنا، يتضح أن التعددية كقضاء إلهي ليست كفيلة بخلق عقيدة مواطنة ناضجة، كما هو الحال في النظام الفلسفي الليبرالي؛ لأنها حين تصرّح بقبول هذا الواقع المتنوع، تطمح إلى تعميم أحكام الله وإلى ترقية الأخلاق، لكي يتمثل كل الناس ما توجبه هذه الأحكام.

إن الليبرالية المعاصرة تشتق التزاماتها من الاعتراف بشخصيات الآخرين الأخلاقية، وهي لا تكتفي بما تقدمه المنظومة الإسلامية من عبارات التسامح والاعتراف، لأنها لا توصل إلى الغاية النهائية، وهي الالتزام المتساوي بالحيادية. إن قيم الاعتراف والتسامح والاحترام هي عناصر حاسمة في عقيدة المواطنة، لكنّ ملأها بطريقة مرضية يتطلب أكثر من فكرة أساسية عن “التعددية كقضاء إلهي”، إنها تحتاج إلى قيم أخرى والتزامات أخلاقية أخرى.

يمكننا أن نؤسس مفهوم مواطنة غير مستورد مشتقًا من تراثنا، مع محاولات إغنائه بمفاهيم معاصرة، وليس في هذا تعصب للتراث ولا انتقاص منه، وإنما إدراك أن المفاهيم نتاج سياقاتها التاريخية، وهي لا تُستنبت في تربةٍ غير تربتها، ما لم يُعمد إلى جدل الصلة بينها وبين المحليّ من جهة، وإدراك جوانب القصور في هذا المحلي من جهة أخرى.


[1] يوتغ: يهلك

[2] أستاذ في الدراسات الإسلامية في جامعة جورج ماسون فير فاكس في فيرجينيا، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة تورنتو، له عدد من الأبحاث في التشريع الإسلامي، والأخلاق الإسلامية، وعلم الكلام الإسلامي.

[3] أحد أكبر فقهاء الشيعة في القرن العشرين، ألف كتاب تفسير مشهورًا يدعى “تفسير الميزان”.

[4] جون راولز، العدالة كإنصاف، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 132.

[5] See Mohamed Mahmoud, “Mahmud Muhammad Taha’s Second Message of Islam,” in Islam and Modernity: Muslim Intellectuals Respond, ed. John Cooper, Ronald L. Nettler, and Mohamed Mahmoud (London: I. B. Tauris, 1998), pp. 105–28.

[6] انظر يوسف القرضاوي، الانفتاح على الغرب مقتضيات وشروط، القاهرة، مكتبة وهبة، 2011، ص. 8.