لا يوجد في تاريخ الفتوى أشأم من فتوى “التين والزيتون”، حيث قدّمَ المفتي الأخير قراءته للقرآن الكريم، في قَسَم الله تعالى بـ {التين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين}، بلغةٍ “الجبهة الوطنية التقدمية”، فقال: “إنّ الناس خُلقوا في سوريا في أحسن تقويم (في المقاومة والممانعة) أما أولئك الذين خرجوا من سوريا (لاجئين ونازحين) فقد رددناهم أسفل سافلين، ولن يجدوا من يصلّي عليهم، أليس الله بأحكم الحاكمين؟”!!
ستُكتب هذه الفتوى في التاريخ كواحدة من أسوا أشكال التزلّف والتقرّب من السلطة الغاشمة التي مارست تهجير نصف السكان من بيوتهم، تحت عناوين “المقاومة والممانعة ومواجهة المؤامرة الكونية”، وفي سبيل تبرير الفشل والجريمة، يتمّ تأويل القرآن الكريم بلغةِ الشماتة والتشفي والانتقام من الشعب الثائر، في خدمة الاستبداد ومشروعه المتوحش لتهجير الشعب السوري.
في لحظةٍ صاخبة طالب فيها الجميع بمحاسبة المفتي العاثر؛ قام النظام بإلغاء المنصب كله، وإنهاء خمسمئة عام من التقاليد الدينية في ولاية الشام (سورية حاليًا)، وتمّ تحويل صلاحياته إلى “المجلس الفقهي” الذي تأسس عام 2018، وتم تحديد أفراده وصلاحياته بنحو أربعين شخصًا، من المذاهب المختلفة، يتم تعيينهم بالكامل من قبل السلطة!!
كان يمكن القول إن هذا التحوّل يُعدّ تطورًا نحو العمل الجماعي، وتقليلًا من الفردية والأخطاء والشخصانية، فرأي الجماعة خيرٌ من رأي الفرد، والتحوّل نحو الديمقراطية يقتضي استبدال الأشخاص بالمجالس، ولكن هذه الأوهام الديمقراطية الموعودة تم تدميرها بالكامل، بالتصريح الحكومي الرسمي الذي نقلته صحيفة (الثورة) الحكومية الرسمية، في عددها الصادر 20/11/2019، وفيه أن هذا المجلس قادم ليسحق “فكر أعداء الأمّة، من الصهاينة والمتطرفين والتكفيريين وأتباع الإسلام السياسي وإخوان الشياطين والوهابية…. وكذلك الذين يعترضون على صلاحية الإسلام لكلّ زمان ومكان”!!
ولا نحتاج إلى أي تكلّف لندرك أن هذا المجلس مصممٌ ليستهدف كل معارض للنظام الحاكم، وأنه جاهز لمحاكمة نصف الشعب السوري، وأنه يحمل في نص تأسيسه مشروعًا قميئًا في تأييد السلطة الغاشمة وتبرير سلوكياتها المدمرة تجاه الناس.
فهل تحتاج سورية بالفعل إلى مجلس فقهي شرعي، مهمّته قتال الوهابية والسلفية والإسلام السياسي، وفي الوقت نفسه إثبات صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؟!
في الحقيقة، إن العمل الجماعي في البحث العلمي هو أوضح صورة من صور نجاح الحضارة الحديثة، ويمكننا أن نقيس تطور الأمم بمدى فعالية مراكز أبحاثها، ولكننا نكفر بعقولنا، إذا افترضنا أن مجالس كهذه تمثل مراكز أبحاث، حيث تقتصر مهمتها في توفير البطش الديني الحازم ضد كل أشكال المعارضة السياسية أو الدينية، وتكريس لغة الجيزوليت والهيجونوت المدمّرة التي طبعت العصور الوسطى بالدماء، نتيجة الصراع بين المفكرين الأحرار وبين السلطات الكنسية المتغولة على الناس.
المجلس الجديد لا يشبه منصب المفتي في شيء، فقد كان منصب المفتي شرفيًا رمزيًا، بلا مخالب ولا أظافر، ولكنه اليوم مجلس حقيقي يمتلك سلطات قانونية مرعبة، وإذا مضى في تحقيق أهدافه، كما صرّح بها، فنحن ذاهبون -بكل تأكيد- إلى محاكمات دينية لاهوتية على أساس الولاء والبراء، تستخدم سطور الدين وناره وسعيره في التخلص من المخالفين، وستقوم إلى جانب محكمة أمن الدولة ومحكمة الإرهاب محكمة أمن الدين!
قناعتي أن كل جهد تبذله الدولة في تقنين الفتوى وفرض شروطها وقيودها هو تغول على الحريات، وخروج بالدين من ساحته في السلام الداخلي وطمأنينة الروح إلى فضاء آخر، يكون فيه الدين سلطانًا مسلطًا على رقاب الناس يُحصي عليهم كلماتهم وهمساتهم ومشاعرهم وأفكارهم، ثم يزجهم في محاكمات مظلمة، ينتقم بها من خصومه تحت عنوان ضبط الفتوى ومنع الفوضى.
الفتوى جهد معرفي مناقض بالكامل لثقافة الجبر، وعلينا أن نفرق بين القضاء والفتوى، فالقضاء هو شأن حكومي خالص تقوم به الدولة لتنظيم مقاطع الحقوق بين الأفراد، في نصوص حاسمة وصارمة وواضحة لا تحتمل اللبس ولا التأويل، بينما تكون الفتوى جهدًا يقوم به الفقهاء لتفسير النص الديني الذي نزل حمّال أوجه متعدد التأويلات، حيث يقوم كلّ فقيهٍ بإبداء رأيه، ولا يفرض أحد على أحد رأيًا، ولا يلزم أحد أحدًا بما يعتقده ويراه، وهي حقيقة بيّنها القرآن الكريم بالنصّ المبين، في حقّ الرسول الكريم نفسه، حين قال: {فذكّرْ إنّما أنتَ مُذكّر، لستَ عليهم بمصيطر}، و{إنْ عليكَ إلا البلاغ}، و{ما أرسلناك عليهم وكيلًا}، و{ما أرسلناك عليهم حفيظًا}، و{ما أنت عليهم بجبّار}.. في نحو أربعين آية أخرى تؤكد كلها أن التفسير الديني متاح للجميع، وأن القانون الإلهي في التعامل مع الاجتهاد ليس البطش بقوة الدولة، ولا الجبر بسيف السلطان، وإنما تفاعل الفكر في الإقناع والبرهان، وفق القاعدة القرآنية: {فأمّا الزّبدُ فيذهبُ جفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض}.
الفتوى شأن الناس لا شأن الحكومات، شأن البرهان لا شأن السيف، شأن الفقيه لا شأن القاضي، ولعل أسوا بدعة في الإسلام هي المناصب الكهنوتية التراتبية التي لم يعرفها السلف الصالح، في كثير ولا قليل. ولكن هل المطلوب أن يغرق الناس في فوضى الفتاوى؟ وكيف يمكن أن يستقيم مجتمع بدون قواعد ثابتة؟ في الواقع، لا بدّ للناس من قانون دقيق يحكم أمورهم ويُنصف حقوقهم، ويتم إعداد القانون في كل دول العالم بما يحقق مصالح الناس، بعيدًا عن توجهاتهم الفكرية والاعتقادية والمعرفية.
الفتوى شأن الفقهاء، والقضاء شأن الدولة؛ والفتوى تتعدد، والقضاء لا يتعدد؛ والفتوى غير ملزمة، والقضاء ملزم؛ والفتوى تمثل صاحبها والقضاء يمثل الدولة؛ والفتوى تتحدث في العبادات والعقائد، والقضاء يتحدث عن الحقوق؛ والفتوى تتناول شؤون الآخرة أما القضاء فيتناول شؤون الدنيا، وليس من شأن القانون أن يحدد الإيمان والكفر والهرطقة والزندقة والصواب والخطأ والجنة والنار، هذه مسائل لاهوتية بُنيت على الجدل، و{لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا}، و{لو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناسَ أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين}، وإنّ كلّ محاولة لتنظيم فكر الناس واجتهادهم، وإرغامهم على تأويل واحد وتصور واحد ووصفه بأنه أمر الله وقراره وحكمه، هي ممارسة قمع وقهر ضد الحرية وضد حقوق الإنسان.
اللهم اجر سوريا مما ينتظرها واكتب الخلاص من هذا البلاء