مع استمرار التظاهرات الاحتجاجية في مختلف أنحاء سورية، ومطالبتها بالإصلاح والتغيير على مدى أشهر عام 2011، بالرغم من تصاعد وتيرة قمع النظام عبر شبيحته وميليشياته ومخابراته وقواته العسكرية؛ تأكدنا أننا في طريقنا نحو الثورة المنتظرة على تراكمات الاستبداد والفساد التي عاناها الشعب السوري بكل مكوناته، على مدى عقود من الحكم البعثي، خاصة في مرحلته الأسدية الطويلة المستمرة منذ أكثر من خمسين عامًا.

ولكن الهاجس الذي كان يؤرق باستمرار هو غياب القيادة المؤهلة القادرة على توجيه فعاليات الثورة، وإبعادها عن المتربصين، سواء من جانب القوى المتطرفة بأسمائها وألوانها المختلفة (التي عادة ما تكون بيادق ضمن المشاريع الإقليمية والدولية)، أم من جانب النظام نفسه، وهو الخبير بالتعامل مع المجموعات الإرهابية، بل المعتاد على تصنيعها وتسويقها، ليقدّم نفسه لاحقًا على أنه يواجهها، و”يحمي السوريين والمنطقة والعالم من شرورها”.

مع الأسف، لم تكن الأحزاب الموجودة، بفعل خلافاتها وضعفها وترهّل قياداتها، في مستوى المسؤولية، ولم يكن الشباب الذين يقودون التظاهرات، بكل حماس وقدرة على مواجهة المخاطر، يمتلكون الخبرات السياسية المطلوبة للبناء على الثورة التي شهدت في أشهرها الأولى مشاركة لافتة من شباب جميع المكونات المجتمعية الوطنية السورية. وذلك لتحويل ثمارها إلى نتائج سياسية، تتمثل في تغيير حقيقي في النظام السياسي، تغيير يضع حدًا لسلطة الاستبداد والفساد، ويفتح الآفاق أمام الشعب السوري المبدع ليستفيد من موارد بلده وينميها، ويعيش حرًا كريمًا، ويُسهم في استقرار المنطقة وأمنها وتنميتها عبر تواصل وتمازج ثقافي حضاري مع شعوبها، وبناء أفضل العلاقات مع دولها، على أساس مراعاة الحقوق والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

عُقدت مؤتمرات شعبية عدة، في أماكن مختلفة، لدعم الثورة، وكان هناك سعي حثيث لإظهار قيادة مؤهلة للقيام بالمهمة الملحة المنتظرة. ولكن مع غياب التمهيد، في ظل عدم وجود أحزاب ومنظمات مهنية وطنية ناضجة مستقبلية التوجه، فضلًا عن عدم معرفة السوريين بعضهم بعضًا، نتيجة عقود من الحكم القمعي المخابراتي الذي كان يمنع التواصل ويزرع الشكوك ويلعب على وتر إثارة النعرات الطائفية والدينية والقومية، والجهوية المناطقية؛ لم تكن نتائج المؤتمرات المعنية مقبولة، وظلّت المحاولات ضمن إطار عملية البحث عن قيادةٍ للثورة التي كانت تتفاعل وتتصاعد سريعًا؛ بينما كان النظام من ناحيته يتمادى في استخدام العنف، ويعتمد إستراتيجية تضليل السوريين والمجتمع الدولي في الوقت ذاته، وذلك عبر التسويق لأكذوبة أن ما يجري لا يخرج عن نطاق “مؤامرة” تستهدف النظام “العلماني، حامي الإقليات” من الإرهاب الذي تمارسه “مجموعات إسلاموية سنية متشددة، متطرفة”.

وكانت إستراتيجية النظام تقوم على إبعاد سائر المكونات السورية، عدا المكون العربي السني، عن الثورة، وبأي ثمن، وإغراق المناطق التي اضطر إلى الانسحاب منها بالعناصر المتطرفة التي دخل قسم منها بالتنسيق معه ومع رعاته، بل إنه نفسه من أطلق سراح العديد منهم؛ وقد ادعى حليفه المالكي في العراق بأن كثيرًا من المتطرفين قد هربوا من سجونه. ولمواجهة هذه الإستراتيجية، كنا في حاجة ماسّة إلى قيادة متوازنة، تمتلك القدرات المطلوبة لحماية الثورة ودعمها.

وفي لقاء على هامش مؤتمر الإنقاذ في إسطنبول صيف 2011، بعد إخفاقه، كان الرأي الذي توافقنا عليه، مع بعض الأصدقاء، هو ضرورة عقد لقاء مطول بين مجموعة محدودة العدد من الأكاديميين والناشطين السوريين، من مختلف التوجهات والانتماءات، ممن وقفوا مع الثورة بصورة علنية وصريحة.  وتم عقد اللقاء المقترح في إسطنبول، صيف العام نفسه، وبعد سلسلة من اللقاءات، وحوارات ومناقشات كثيرة، توصلنا إلى فكرة تأسيس المجلس الوطني السوري. ولكن المشكلة أننا كنا مجموعة من أفراد مستقلين، نشعر بمسؤوليتنا الوطنية تجاه شعبنا. لم تكن هناك أحزاب قوية قادرة على قيادة الثورة. الأحزاب الموجودة كانت توزعت بين أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” المدجنة، التي كانت في واقع الحال جزءًا تابعًا من السلطة، وأحزاب أخرى معارضة، لكنها كانت منهكة مترهلة نتيجة ظروف الملاحقة والقمع والنفي، ولم تكن قد تمكنت من تجديد نفسها بالمعنى الواسع للكلمة، ولهذا لم تكن قادرة في الواقع العملي على مواكبة التطورات والمتغيرات اليومية المتلاحقة.

ومع ذلك، كان القرار هو ضرورة التواصل مع القوى السياسية السورية الموجودة على الساحة، من تلك التي كانت مؤيدة للثورة، وإن مع بعض الحذر. وتم التواصل مع “إعلان دمشق”، وجماعة الإخوان المسلمين، والأحزاب الكردية التي كانت موزعة بين “إعلان دمشق” و”هيئة التنسيق”، وكانت هناك نية للتواصل مع هيئة التنسيق أيضًا.

وفي المراحل شبه النهائية للإعلان عن المجلس الوطني؛ تواصل بعض الإخوة السوريين، وتمنوا علينا التريث، والعمل على إنضاج مشروع متكامل، إذ كانت هناك أكثر من محاولة، وفي أكثر من مكان.

وعقد لقاء في الدوحة، بمساعدة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي لم يتدخل في المناقشات السورية السورية، وإنما اكتفى بدور تسهيل اللقاء، وتوفير الأجواء لتكون المناقشات جادة وصريحة، وترتقي إلى مستوى المسؤولية، خاصة بين أشخاص ربّما كانوا يلتقون معًا لأول مرة. كانت الفكرة تشكيل قيادة من خمسة عشر شخصًا، ممن يمتلكون الصدقية والمؤهلات، ويمثلون التنوع السوري المجتمعي والسياسي. ولكننا لم نوافق -نحن الذين كنا قد توافقنا على مشروع تشكيل المجلس الوطني السوري- على الفكرة. وقد ساهمت شخصيًا في مناقشات عدة، لبيان وجهة نظرنا، والدفاع عنها. فقد كنا نرى أننا لسنا منتخبين، وأن ظروف الثورة تستوجب وجود قيادة؛ ولذلك كنا نرى في المجلس إطارًا تمثيليًا أوسع، يضم القوى السياسية والمجتمعية، وطرحنا فكرة شرعية الإنجاز للتخفيف من وطأة غياب الشرعية الديمقراطية. وتشكّل المجلس بجهود سوريّة في المقام الأول، وحصل له ما حصل، كما نعرف جميعًا. ثم جاء تشكيل الائتلاف والمآل الذي وصل إليه، كما نرى جميعًا.

في يومنا الراهن، نرى جهودًا سورية حثيثة في مختلف الاتجاهات، ترمي إلى لملمة شمل المعارضين السوريين المناهضين لسلطة الاستبداد والفساد. كما نسمع أخبارًا عن تشكيل الأحزاب والتيارات؛ وهذه حركة طبيعية ومطلوبة، ولكنها -بكل أسف- لم تؤد حتى الآن إلى النتيجة المرجوة، بل إنها تُسهم، في كثير من الأحيان، في توليد الخلافات وتبعيد المسافات بين من يُفترض أن يكونوا معًا، خاصة أن النقاط المشتركة الجامعة بينهم هي أكثر بكثير من بعض البنود الخلافية التي يمكن أن يؤجل البتّ فيها إلى حين تدوير الزوايا، والوصول إلى حلول إبداعية لمصلحة الجميع.

الإشكال الكبير الذي يعانيه السوريون، بعد مرور عشرة أعوام على ثورتهم، يتمثل في واقع نظام متهالك فاسد حتى النخاع، لم تعد إمكانية استمراره ممكنة، بالرغم من كل جهود رعاته من الروس والإيرانيين من جهة، وعدم قدرة المناهضين لهذا النظام، من جهة أخرى، وهم يمثلون غالبية السوريين، بكل مكوناتهم، على تقديم بديل ناضج مقنع، يحظى بثقة السوريين أولًا، ويفرض احترامه على الأشقاء والأصدقاء في المحيطين الإقليمي والدولي.

ما نحتاج إليه اليوم أكثر من أي شيء آخر هو قيادة وطنية متماسكة، تؤمن بوحدة الشعب والوطن السوريين، قيادة بعيدة -بالأقوال والأفعال- عن التعصب الديني والقومي والمذهبي الطائفي، قيادة تخاطب جميع السوريين من دون استثناء، تطمئنهم جميعًا، تحترم الخصوصيات والحقوق ضمن إطار وحدة الشعب والوطن. قيادة مستعدة للتواصل والتفاعل مع الجميع، وتضع على رأس أولوياتها الاهتمام بترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، عبر تجاوز آثار عشرة أعوام من القتل والتهجير والتدمير، تسبب فيها بالدرجة الأولى النظامُ المستبد الفاسد الذي فتح البلاد أمام الميليشيات المذهبية، وأصحاب المشاريع العابرة للحدود الذين لا يقيمون أصلًا أي اعتبار لتطلعات السوريين وتضحياتهم، بل استخدموا، ويستخدمون، السوريين وقودًا في مشاريعهم المتطرفة المتشددة الوظيفية والإرهابية، وهي المشاريع التي تثير كثيرًا من التساؤلات.

إذا تأملنا في واقعنا الراهن، بناءً على المحاولات التي كانت حتى الآن في إطار توحيد المعارضة وتقديم القيادة المطلوبة، وبعد أن أصبحت ورقة الأجوبة النموذجية في اليد، كما يقول المثل السويدي؛ فإننا نرى أن العودة إلى فكرة القيادة محدودة العدد، النواة الصلبة، إذا صح التعبير، التي تجمع بين أفرادٍ سوريين، لم يفقدوا صدقيتهم، وأثبتوا نزاهتهم وحرصهم على شعبهم والوقوف إلى جانبه على مدى السنوات العشر الماضية، ويتميزون بالاعتدال، ولم تبدر منهم مواقف تسيء إلى وحدة النسيج المجتمعي السوري المتعدد، ولم يستخدموا اللغة الطائفية المقيتة ولا اللغة القوموية التي تؤدي إلى التشنجات والتوترات، وإنما حرصوا دائمًا على البحث عن الطرق التي تؤدي إلى توحيد السوريين، كل السوريين من دون أي استثناء، نرى أن هذه الفكرة جديرة بالتمعن، والتفكير فيها مجددًا.

 نحن في حاجة إلى قيادة تستقوي بالسوريين أولًا، ولكنها تدرك أن سورية ليست جزيرة في محيط أو واحة في صحراء خالية، بل هي دولة مفتاحية في المنطقة. لذلك تحرص على بناء أفضل العلاقات مع المحيطين الإقليمي والدولي بصورة متوازنة، وبما يحقق الأمن والاستقرار للجميع، ويجعل من سورية جسرًا للتواصل والحوار الحضاريين بين شعوب المنطقة كلها؛ الأمر الذي يفتح المجال أمام تنمية مستدامة، تفتح الآفاق أمام شعوب المنطقة ودولها لتجاوز واقع الصراع، والتخندقات والحروب، هذا الواقع الذي وصلنا إليه بفعل مشاريع ماضوية طوباوية، بددت الموارد البشرية والطبيعية، ورسخت الأحقاد التي لا تبني الأوطان، ولا تضمن المستقبل لشعوبها.

ما نعتقده في هذا المجال هو أن هذه المجموعة موجودة، ولكن ما نحتاج إليه هو الخروج من العوالم الذاتية، والتركيز على مصير الشعب والوطن، وتحمّل المسؤولية الوطنية بكل أمانة وإخلاص.