بعض الذين ما زالوا يُصرّون على تصدّر المشهد السوري المعارض، يسارعون إلى توجيه الانتقادات، قُبيل كلّ جولة من اجتماعات اللجنة الدستورية وعقبها، إلى كلّ من يهاجم مسار “اللجنة الدستورية”، من دون أن ينتقدوا أنفسهم على قبول السير بها، وهم يعلمون علم اليقين أن قبولهم بهذا المسار قد سهّل الطريق أمام روسيا، لتطبيق رؤيتها لحلّ القضية السورية، واستبعاد تطبيق القرار الدولي 2254، بما نصّ عليه وخصوصًا عملية إجراء انتقال سياسي حقيقي تُختتم بإجراء إصلاح دستوري وإجراء انتخابات تحت إشراف دولي، واعتبار اللجنة الدستورية بديلًا عن عملية الانتقال السياسي التي نصّ عليها القرار الدولي المذكور.

وعلى الرغم من إقرار هؤلاء بأن اللجنة الدستورية “غير مخوّلة بالتوقيع على أي حلول سياسية أو تسويات، وأن ما سوف ينتج عنها لن يكون ملزمًا”، فإنهم يصرّون على استمرار التورط في اجتماعات هذه اللجنة، بحجّة “إذا لم أقبل أنا، فسيقبل غيري”، وكان عليهم أن لا يتورطوا في مساعدة روسيا في إعادة تثبيت الأسد.

الأنكى من ذلك كلّه أن بعض المتمسكين بعضوية هذا اللجنة يرون القشّة في عيون الآخرين ولا يرون الجذع في عيونهم، فهم يعيبون على وفد اللجنة الدستورية الممثل للحكومة بأنه مرتهن لنظام الأسد، ويصمتون عن ارتهانهم لدول عدة، فإذا كان ارتهان وفد السلطة في اللجنة الدستورية للنظام أمرًا عاديًا، ويجب أن يكون كذلك، فمن غير المنطقي ولا المقبول إطلاقًا، ممّن يدّعي تمثيل الثورة، أن يكون مرتهنًا لغير إرادة الشعب السوري الذي انتفض لنيل حرّيته وكرامته.

ولمزيد من ذرّ الرماد في العيون وقلب الحقائق، يُروّج بعض المشاركين في هذا اللجنة أن مجرّد وجودهم فيها يُبقي المسار السياسي حيًّا، ويسلّط الضوء على القضية السورية ومعاناة الشعب السوري! وهذا غير صحيح، فما يُبقي القضية السورية حيّة ليس مشاركة هؤلاء في اجتماعات اللجنة الدستورية، بل صرخات الناس وآلامهم في مخيمات لبنان والأردن وشمال سورية، وكذلك في الداخل السوري، وأصوات الشرفاء من السوريات والسوريين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، وإن تسويقهم لمثل هذا الكلام إنما هو لتبرير مشاركتهم والادعاء أنهم يمثلون مطالب الشعب السوري، هذا الشعب الذي بُحّ صوته وهو يطالبهم بالكفّ عن التحدث باسمهم.

والأمر المثير للشفقة أنهم يعتبرون أن قبول الأسد بأن يكون “للمعارضة” نصيب في هذه اللجنة، وجلوس وفده على طاولة واحدة مع ما يُسمّى وفد المعارضة، هو انتصار ونقض لشرعيته، لكنّه انتصار زائف، وعندما تسألهم عن الجهة التي ستراقب عملية الاستفتاء على الدستور، إن استطاعت اللجنة الدستورية إنجازه، ومراقبة الانتخابات أيضًا؛ يجيبون، باطمئنان: الأمم المتحدة هي من ستراقب تلك العملية، وفقًا لنص القرار 2254، أمّا كيف ستراقب فذلك لا جواب لديهم عنه!

وعلى فرض أنّ الأمم المتحدة هي من ستراقب الاستفتاء على الدستور والانتخابات، فهل هذا يكفي لضمان عدم تأثير الأسد والقوى الأخرى في سير عملية الاستفتاء والانتخابات؟ ولنفترض أيضًا أن الأمم المتحدة لم تكتفِ بالمراقبة، بل تولّت بنفسها إدارة عملية الاستفتاء والانتخابات، من بدايتها حتى نهايتها، فكيف ستُعِدّ قوائم الناخبات والناخبين الذين يحقّ لهم التصويت؟ أليس نظام الأسد هو من يمتلك جميع البيانات المتعلقة بالسوريات والسوريين؟ ثم ماذا عن ملايين اللاجئين، في مخيمات لبنان والأردن والشمال السوري، وأولئك المنتشرين في أنحاء العالم والمهجرين والنازحين في الداخل السوري؟ وماذا عن أكثر من مئة ألف معتقل في سجون الأسد والقوى المسلحة الأخرى، وكذلك مئات الآلاف من المفقودين والمغيبين قسرًا؟ وماذا أيضًا عن عشرات الآلاف من السوريين الذين لا يملكون وثائق؟!

ثم كيف ستتمكن الأمم المتحدة من تأمين إجراء استفتاء وانتخابات حرة ونزيهة، وفقًا للمعايير الدولية، في ظلّ التقسيم القائم ووجود جيوش محتلة، فضلًا عن انتشار السلاح والمسلحين وقطاع الطرق والميليشيات المسلّحة على امتداد الأراضي السورية؟ وهل ستكون الأمم المتحدة قادرة على أن يكون الاستفتاء والانتخاب معبّرًا فعلًا عن إرادة السوريين؟ بمعنى آخر: هل ستستطيع الأمم المتحدة أن تُلزم الأجهزة الأمنية التابعة للأسد، وتلك التابعة للميليشيات المسلحة الأخرى، بالوقوف على الحياد، وترك السوريات والسوريين يعبّرون عن إرادتهم بحرّية دون أي ضغط وإكراه وترهيب؟

باختصار، التسويق لمسار اللجنة الدستورية والدفاع عنه يخدم المشروع الروسي في إعادة تعويم نظام بشار الأسد، فإذا لم يحدث انتقال سياسي، وينكفئ السلاح والمسلّحون، ولم يُعَد النظر بالآليات والبنى القانونية والأمنية التي اتكأ عليها نظام الأسد في السيطرة على مقاليد الحكم في سورية، ويحاكم من أجرم بحق الشعب السوري؛ فسيبقى الأمل ضعيفًا، إن لم يكن معدومًا، في اجتراح حلّ سياسي ينتشل البلاد من ظلمتها ويلملم جراحها.

لذلك، يجب على السوريين الكفّ عن التناحر والاقتتال فيما بينهم، والكفّ أيضًا عن التعويل على الخارج والارتهان لغير مطالب الشعب السوري في الحرّية والكرامة، والعمل على الاستفادة من وجود اللاجئين السوريين، خاصة في الدول الأوروبية، وتشكيل مجموعات ضغط للتأثير على الرأي العام والحكومات في إعادة الاعتبار للحل الأممي، وفقًا لمسار جنيف، ولا سيما القرار الدولي 2254 لعام 2015. فلا يحكّ جلدهم إلا ظفرهم.