برزت خلال السنوات الماضية تحالفات بين بعض رجال الدين المسيحي، من ناحية، وجماعات وناشطات في مجال حقوق المرأة، من ناحية أخرى. وتسعى هذه الأطراف إلى تحقيق مطالب متشابهة، لا سيّما في مجال تعديل قوانين الأحوال الشخصية ذات الصبغة الإسلامية الظالمة لكلّ من النساء والمسيحيين في المشرق[1]. حيث تتجه -على سبيل المثال- القوانين الكنسية إلى إعمال المساواة في مسألة الميراث بين الرجل والمرأة، وذلك إذا أتاحت دول المشرق للطوائف المسيحية الفصل في ذلك، غير أنّ القوانين الإسلامية العامة في مجال الأحوال الشخصية تتوسع لتُطبّق على المسيحيين في مسائل متعددة، منها الإرث وأحيانًا التبنّي، وتُستبعد بنود القوانين المسيحية المتعارضة مع قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية العامة، كما في الولاية والوصاية والقوامة، وغير ذلك من أمور تتعارض والنظام العام الذي يرتكز بشكل أساسي على التفسيرات التقليدية للشريعة الإسلامية. وفي إطار ذلك، كان الإرث يُوزّع بالتساوي عند المسيحيين، بين الرجال والنساء في سورية، وذلك بمقتضى وثيقـة عثمانيـة صـادرة عـام 1913، غير أنّ قـانون الأحـوال الشخصـية العام لسنة 1953 قد فـرضَ أحكام الشريعة على المسيحيين في مسألة الإرث، وأدّى ذلك إلى أن ترث المرأة أقلّ من الرجل[2]. وفي ما يخصّ الإرث، يقول الكاردينال العراقي الكلداني لويس روفائيل ساكو: “في المسيحية، يقسم بالتساوي بين الذكر والأنثى، وليس نصفَ ما يحق للذكر. وفي حالة وفاة الزوج ترث المرأة وأولادها كلَّ شيء. ولكون المرأة، في المسيحية، وضمن عموم قوانين حقوق الإنسان، متساويةَ الحقوق مع الرجل، فإنّ النساء المسيحيات، في ظل الأحوال الشخصية في بلادنا، يُظلمْن بوضوح في قضية الميراث. نحن لا ننتقص هنا من حرية المرأة المسلمة، في قبول نصف ما يرثه الرجل، لكننا نرغب في أن يطبّق شرعنا الكنسي علينا”.[3]

وبرزَ التحالف واضحًا بين بعض الكنائس المشرقية وتيارات نسوية عام 2009، وذلك لسحب مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري المعلّق[4]. فقد كرّس هذا المشروع انتهاكاتٍ تشملُ غير المسلمين والنساء، حيث عدّ في مادته 38 أنّ شهادة مسيحيَين أو امرأتَين معادلة لشهادة رجل مسلم واحد، لصحّة عقد الزواج. وحرَمَ الكنيسة، بمقتضى مادته 627، من الإشراف على إبرام عقد الزواج بين المسيحيين، وشرّع تعدد الزوجات للرجل المسيحي، بحسب نصّ مادتيه 639 و 640، وألزمَ المرأة المسيحية بالعدّة، بمقتضى مادته 626. وقد تضمّن مشروع هذا القانون بعض المصطلحات الماسة بمواطنة المسيحيين، “كالذمّي” و “دار الإسلام”. وقد أبقى في مادته 63 على الحظر الوارد في المادة 48 من قانون الأحوال الشخصية السوري الحالي التي تنصّ على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم، وفي هذا انتهاكٌ لحقوق المرأة في اختيار شريك حياتها والاقتران به، من ناحية، وتمييزٌ ضدّ المسيحي الذي ليس له غير تغيير دينه إلى الإسلام، لإمكانية عقد زواج كهذا، فضلًا عن السماح للمسلمين بالزواج بمسيحيات، من ناحية أخرى.  

إنّ هذا التقارب بين الكنائس المشرقية والتيارات النسوية، في بعض مطالبهم، لا يعني أنّ علاقتهم خالية من الخلافات النابعة بشكل أساسي من التمييز الجندري الذي تطبّقه هذه الكنائس، بمقتضى قوانين الأحوال الشخصية الكنسية؛ حيث تتجه هذه القوانين إلى إعطاء الولاية للرجل على أولاده القصّر، بما يشمل إدارة أموالهم واختيار توجههم التربوي ومسكنهم وتزويجهم، وذلك قبل زوجته. وتُلزم القوانين الكنسية النساء المسيحيات بالطاعة والخضوع لأزواجهن. وفي إطار ذلك نصّت المادة 34 من قانون الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية الإنجيلية في سورية ولبنان[5] على أنّ “الزوجة مديرة شؤون المنزل الداخلية”، وأنّ “لها بعدَ الزوج الحقّ الأول في الولاية والوصاية على الأولاد”. أمّا المادة 33 من هذا القانون، فتنصّ على أنّ “الزوج رأس العائلة وممثلها الشرعي، وله الحق في تعيين طريقة المعيشة العائلية العمومية، بحسب مقدرته وضمن المألوف المعقول، وله الحق الأول في الولاية والوصاية على الأولاد”[6].

وقد تكرر ذكر مصطلح “الطاعة” في العديد من قرارات المجالس والمحاكم المسيحية، وفي القوانين الكنسية المعمول بها في المشرق. حيث نصّت الـمادة 33 من قانون الأحوال الشخصية للسريان الارثوذكس[7] على أنّ “الزوجة ملزمة بمطاوعة زوجها بعد العقد، وعليها مرافقته إلى أيّ محل كان، وإن نأى، إلا عند الاضطرار واقتناع المحكمة الكنسية بأعذارها”. وبالمثل، ينصّ قانون الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية الإنجيلية في سورية ولبنان، في مادته 32، على أنّ “الزواج يوجب على الزوجة اتخاذ اسم عائلة زوجها، وإطاعته في الأمور المباحة، والإقامة في المسكن الشرعي الذي يختاره، ما لم يكن لها عذر مشروع تفصل المحكمة في صحته”. ويبدو أنّ واجب الرجل في النفقة للزوجة مرهونٌ بأنّ تلتزم بالطاعة له. وفي هذا الإطار، جاءَ في قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية في سورية رقم 31 لعام 2006، في مادته 127، أنّ “الزوجة الناشز لا نفقة لها، وإن كان لها نفقة مفروضة متجمدة تسقط أيضًا بنشوزها”. وتضيف الفقرة الثانية من هذه المادة أنّ “المرأة تعتبر ناشزًا، إذا تركت بيت زوجها، أو كانت في بيتها ومنعت زوجها من الدخول إليه، أو أبت السفر معه إلى محل إقامته الجديد، بلا سبب شرعي”. ونرى أنّ الكنائس المسيحية المشرقية تعطي الأدوار القيادية في السلك الديني للرجال، ويشمل ذلك كلًّا من منصب البابا والبطريرك والأسقف.

لن تتحقق المساواة بين المواطنين في المشرق، لا سيّما بين المسلمين وغيرهم، والنساء والرجال، دون علمنة قوانين الأحوال الشخصية ذات الصبغة الدينية، وإقرار الزواج المدني الذي تُطالب به اليوم غالبية المنظمات النسوية الناشطة في المشرق. في المقابل، تسعى الكنائس المشرقية إلى الحدّ من التوسع في هيمنة الشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية على قوانينها الكنسية ومحاكمها الروحية، دون مطالبات صريحة بعلمانية الدولة التي ستُفقدها بالتأكيد مزاياها، في مجال التشريع وفي القضاء بين “رعاياها” المسيحيين.


[1]  نستثني الوضع في لبنان الذي لا يسمو فيه الإسلام قانونيًا على أتباع الديانات الأخرى.

[2] انظر رابطة النساء السوريات، التمييز في قوانين الأحوال الشخصية في سورية، 2009-2010 ، ص 35، متوفر على الموقع : http://afakneswiah.org

[3] لويس روفائيل ساكو، مراعاة حقوق المسيحيين في خصوصيتهم بموضوع الأحوال الشخصية، بطريركية بابل للكلدان، 15 تموز/ يوليو 2020، متوفر على الرابط: https://bit.ly/3qRXI6M

[4] أعدّته اللجنة المشكّلة بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم /2437/ تاريخ 7 حزيران/ يونيو 2007.

[5] للاطلاع على النصّ الكامل، انظر: https://bit.ly/3opbqwD

[6] النصّ الكامل متوفر غلى الرابط التالي: http://bit.ly/2NGxXbw

[7] يسري، كما تنصّ مادته الثانية، على كافة الاشخاص التابعين للكنيسة السريانية الارثوذكسية، وقد أقرّه المجمع الأنطاكي المقدس بتاريخ 10 أيلول/سبتمبر 2003، وهو متوفر على أكثر من موقع ألكتروني منها البوابة القبطية” ، وذك على الرابط التالي : https://albawabhnews.com/2689434