منذ العام 2018، دخلت المسألة السورية في نموذج جيوبوليتيكي دولي خطير وسيئ. يتّسم هذا النموذج في أول مشاهده المعلنة بعدم وجود حلّ كلي للمسألة السورية، وبوجود حلول جزئية تفكيكية تتمثل في تثبيت خط نزاع عسكري ما، أو السيطرة على رقعة جغرافية محددة سوريًا. ومثال ذلك ما يجري بين خطي M4 وM5 في الشمال السوري، بين روسيا وتركيا، أو تحديد نقاط التماس والهيمنة في شرقي الفرات، وعلى الرغم من أن الهيمنة الرئيسية فيها لقوات (قسد) الكردية التي تدعمها أميركا، فإن الوجود التركي والروسي فيها يتباعد ويتقارب، حسب تلك التفاهمات الجيوبوليتيكية أيضًا.

يمكن للقارئ السياسي التعمّق في المشهد السوري لتتضح له صوره السياسية المعلنة في معظم المناطق السورية، في الساحل ووسط سورية وشرقها في جنوب الفرات، على حين أن منطقة البادية، المصنفة منطقة دولية بحسب التوجهات الأميركية، تبدو مسرحًا لعمليات محدودة بين قوى التحالف الدولي وروسيا و(داعش) ولم يحسم شكلها بعد. والمنطقة الجنوبية، وخاصة السويداء، ما تزال غير متضحة المعالم، ما خلا إشارات تطفو مرة على السطح وتخبو في أخرى، في صورة تشي بعدم اكتمال دوائر حلولها، أو اللجوء إلى عمليات “الترقيع” السياسي في إنتاج هذه الحلول، ما يجعل المنطقة عرضة للمطبّات الأمنية التي تظهر فجأة، بين الفينة والأخرى.

في السويداء، المصنّفة اليوم منطقة فوضى أمنية تابعة جزئيًا لسلطة النظام السوري، لم يتضح الدور الروسي هناك بعد. لكن الواضح أن مسلسل الفلتان الأمني، واستمرار عمليات الخطف والقتل والفوضى الأمنية، وتعدد الفصائل والميليشيات الفاعلة في أرض الواقع، مريحٌ لكلّ الأطراف المستفيدة منه! حيث تحكم مجموعة من التوازنات الدولية والمحلية هذه المنطقة، وفق خطوط عريضة أهمّها:

  • – عدم إمكانية اتهام أبناء المنطقة، من الموحّدين الدروز، بتهمة الإرهاب السيئة، كونها منطقة أقليّات دينية تخرج عن التصنيف المقيت الذي صنف به باقي السوريين الخارجين ضد سلطة النظام.
  • – على الرغم من تباين الفصائل فيها، بين أبناء المنطقة المشبعين بفكرة حماية الأرض والعرض دينيًا، وميليشيات تتبع للأجندات الأمنية والميليشيوية الإيرانية العاملة على تهريب المخدرات والاتجار بالسلاح وغيرها، فإن هذه الأخيرة لم تكشف عن نفسها علنًا، بقدر عملها من خلال قلّة من أبناء المنطقة بإدارة أمنية معروفة بعمليات الخطف والنهب العلني. ومع هذا، فإن القانون الديني المطروح في حُرمة الدم الدرزي على الدروز مكّن هذه العصابات من الانفلات من أيّ عقاب محلي أهلي، وجعل مسألة محاربتها أمرًا محفوفًا بمخاطر الاقتتال الأهلي، وهذا ما يتجنبه الجميع.
  • – لا وجود لمصلحة اقتصادية روسية مباشرة في السويداء الفقيرة بالموارد أصلًا، سوى أنها تمثل نقطة حدودية جيوبوليتيكية في الجوار الأردني، وأنها ما زالت تكتنف رصيدًا بشريًا من الشباب غير الملتحق بالخدمة العسكرية السورية، فشلت كل محاولات التسوية المعلنة في حلّها، وكان استدراج شبابها، للقتال في ليبيا أو غيرها من مناطق النزاع الروسية، محدودًا وفرديًا.

الاستقرار القلق الأمني والسياسي للسويداء تستفيد منه كلّ الأطراف، سواء سلطة النظام بحرصها على مقولة حماية الأقليات المنعشة لها دوليًا، أو الميليشيات التي تتابع أعمالها بالتخريب والتهريب دون معوقات، وحتى الفصائل المحلية التي تؤمن لنفسها اكتفاء شرور الاقتتال الداخلي أو مواجهة خاسرة مع سلطة النظام أو روسيا. ومع هذا، بقيت المنطقة عرضة لجملة من المشاريع الفئوية أو الدولية بطريقة المطبّات السياسية، سواء كانت مشروع إدارة ذاتية درزية ترعاها دول إقليمية معلنة أو خفية، أو إدارة ذاتية على مستوى الجنوب السوري كاملًا، أو بقاء الوضع تحت سيطرة النظام بكل فلتانه الأمني وأجنداته المقيتة. وبين هذه وتلك، يبقى المواطن العادي عرضةً للتهميش والعوز الاقتصادي العام، أمام الارتفاع الجنوني للأسعار وتدني قيمة الليرة السورية، حتى بات راتب الموظف لا يزيد عن 20 دولارًا، ولا يكفيه لسدّ أدنى درجات الكفاف مدة أسبوع واحد، هذا مع غيابٍ شبه كلّي للمشاريع التنموية أو الاقتصادية، والاكتفاء بالحلول “الترقيعية” منها، كما حدث في الآونة الأخيرة، قبيل عملية “الانتخابات الرئاسية”، حيث تم صرف موازنة مالية للسويداء لترميم آبار المياه، وإلى اليوم لم يكن هناك إجراء فعلي فيها، ويخشى الجميع من موجة عطش كبيرة.. ولكن المشهد الأوضح فيها هو العمل على ترقيع طرقات المحافظة بالإسفلت المدوّر من مكان لآخر، حيث باتت طرقات السويداء سلسلة من المطبات الطرقية التي نفذت لإجراءات أمنية سابقة، وبينها رقعة هنا وأخرى هناك، وكأنها إشارة إلى حالة السويداء السياسية والأمنية والاقتصادية العامة!

في هذا السياق، يبرز مشروع الإدارة الذاتية الدرزية الذي بدأت التقارير الإعلامية في الآونة الأخيرة الترويج له أو ضده. ويفترض حاملوه أنه حلّ لكل المشكلات التي أشرنا إلى بعضها أعلاه، دون النظر إلى المقومات المادية الذاتية في المحافظة، سوى تلك الوعود التي على ما يبدو يتمّ زرعها إيهامًا من قبل مروجي المشروع بالدعم الدولي له! ودون النظر أيضًا إلى إمكانية الانكماش الدرزي والتقوقع الديني، واستعدائه بالضرورة جواره السنّي طائفيًا، في موقع مختلف ومعاكس كلية لنواة الوطنية السورية في التاريخ الحديث، التي أسسها تحالف البرجوازية السنية الدمشقية ممثلة بعبد الرحمن الشهبندر، مع سلطان الأطرش، في ثورة 1925، وكان عنوانها “الدين لله والوطن للجميع”. وأيضًا من دون النظر إلى الموقع الوطني لهذه الأقلية التوحيدية، بالرغم من كلّ ما تتعرض له من تهميش اقتصادي وتلاعب سياسي، ومن كل أحابيل وألاعيب السلطة والأجهزة الأمنية في جرّها للعبة الدم السورية، وقد أفشلتها جميعًا، ولم تسعَ للدخول في المقتلة السورية بطابعها العام. وهي تحاول الحفاظ على موقع مستقر نسبيًا، يؤهلها لعدم الانجرار لأي معركة خاسرة محليًا أو وطنيًا، وتنتظر بقوامها العام كباقي السوريين الحلّ السوري العام، كونه حلًّا لكل المشكلات السورية من دون مطبات واهية وجزئية.

إذا لم يكن الحلّ السوري العام مطروحًا بقوةٍ على طاولة الدول الفاعلة في الملف السوري، فلا يجب الانسياق مع التوجهات الدولية الجيوبوليتيكية في الحلول الجزئية وتسويق وهم نجاحها. ويجب التمسك بالثوابت الوطنية في مفاصلها الرئيسية، وهذا ما يفوّت الفرصة على كلّ اللاعبين الدوليين الساعين لتنفيذ أغراضهم العامة سوريًا أو محليًا في السويداء. وإن كان بالإمكان الاستفادة من التناقضات الدولية هذه حول سورية، في منطقة كالسويداء، فهذه استفادة من مقومات المنطقة ونقاطها المضيئة. فالموحدون الدروز حرّموا الدم السوري عنهم وعليهم، وليسوا أصحاب دين تبشيري، ولا يفرضون دينهم حتى على أبناء جلدتهم، وحركات مجتمعهم المدني تتسع رقعتها وتنشط وتتجذر في الواقع، وهذا يؤهلها لأداء دور وطني مهمّ في المسألة السورية، في تعميم فكرة التسامح الديني من موقعها الجغرافي، والعمل على إمكانية إجراء حوار سوري وطني للمشاريع الوطنية الممكنة، لا دونها، وتعزيز إمكانية وفاعلية العمل المدني والسياسي الوطني. وهذا مرهون بقواها المدنية والسياسية والأهلية الحيّة، وقوى باقي السوريين المتطلعين لأدوار وطنية سورية من دون شبهة أو مطبات وحلول ترقيعية.

إن الانجرار لمشاريع دولية بصبغات محلية، المخفي منها أكثر من المعلن فيها، لن يُمثل حلًا للسويداء ومشكلاتها، بل سيجرّ العديد من شبابها، سواء أكانوا من أصحاب العازة أم من المتلاعبين بالأجندات الأمنية، لمقتلة لا تُحمد عقباها، وسيُسهم في تعزيز سياسة تقاسم النفوذ وآليات تحكم الدول الكبرى في الملفات السورية عامة وفي ملف السويداء خاصة.