قبل آذار 2011، كان السوريون في معظمهم موالين، باستثناء فئاتٍ سياسية معارضةٍ وقلّة من المثقفين الذين قُضي على كلّ حراك ممكن لهم، طوال حكم الأسدين الأب والابن. وتعبير (موالون) هنا مشوّش غامض، كحال معظم مفردات الخطاب السياسي في سورية. فثمة سوريون يرون أن مصيرهم ومصير أحفادهم مرتبط بالولاء للرئيس وبمن سيأتي بعده من العائلة، معظم هؤلاء منسجمون مع ولائهم، لأسباب كثيرة. لكن قسمًا كبيرًا من السوريين أيضًا كانوا موالين بالقوة والإكراه، وتحت سطوة الترهيب العام والخاص الذي تمارسه الأجهزة الأمنية مطلقة الصلاحية في البلاد. هذه الأجهزة عملت ليلَ نهار على إخضاع السوريين بالعُنف الرمزي والجسدي، وجعلهم موالين صالحين للخروج في مسيرات التأييد والمشاركة في الأعراس الوطنية بمختلف مسمياتها. وعلى الرغم من أن رموز النظام والأجهزة يعرفون جيدًا أن هؤلاء السوريين موالون بالإكراه، فإنهم مقتنعون بضرورة تلك العملية وضرورة استمرارها. الكلّ يكذب على الكلّ هنا، والكلّ يعرف أنه يكذب على الطرف الآخر. ولكن عليهم تأدية أدوار اللعبة بمهارة واحتراز، وإلا فهناك اتهامات وعقوبات جاهزة بحسب الطلب.
(الولاء) موقف قد يكون لا غنى للكائن عنه، حين يكون ولاؤه جزءًا من كيانه معبّرًا عن حقيقة ذاته وطموحه. ولكي يكون كذلك فلا بد له من شروط على أرض الواقع، من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية… إلخ.
موقف (الولاء) يقابله موقف (العدم)! أي ألا يكون لدى الإنسان شيء يوليه أهمية، ولا يرى في أي شيء قيمة ومعنًى. وهذا يعني أن الولاء ينبغي أن يحقق للكائن (المعنى).
ما يجري في سورية من مسخٍ لفكرة الولاء هو أكثر من تمثيلية بهلوانية مستمرة على مدى عقود من الزمن. الناس محشورون في ولاء إجباري غير مختارين له. والمقصود الناس في مستوياتهم الطبيعية والحقيقية، لا في مستوياتهم المرسومة بهندسة السلطة وأجهزتها الإعلامية والأمنية. إذ كيف لدولةٍ (شمولية) أن تترك فكرة الولاء بلا تشويه، وبلا تفريغٍ لمعناها البنّاء؟ لقد بات مفهومًا أن الدولة الشمولية -حتى بشكلها الممسوخ سوريًّا- تبني سياستها في كل الأصعدة على تفريغ البشر من المعنى، وتحويلهم إلى أدوات استقبالٍ غريزية لا فعل لها، تتلقى وتخزّن وتجترّ فقط. فمن باب تحصيل الحاصل، ستفقد فكرة الولاء عمقها المرتبط بانتماء الفرد إلى بلدٍ وليس إلى (أسدٍ). حين يكون المواطن مواليًا لمفهوم الوطن، فسوف يدافع عن ولائه بكبرياء وبسالة، ليس من الضروري أن يكون الدفاع عملًا قتاليًا، فهذا اختزال يروق للنظام أن يكرّسه من أجل المماهاة بينه وبين الوطن، بحيث يتحوّل الدفاع عنه هو إلى دفاع عن وطن. إن الدفاع عن الولاء يكون في القاع الاجتماعي صعودًا إلى أرقى درجات سلّم القيم.
الفرد السوري مجبرٌ بـ (الصرماية) العسكرية المخابراتية على الفرح بالولاء. لكن ولاءه ليس إلا ولاء لفردٍ حاكمٍ يختصر الوطن بشخصه، ويجعل من نفسه معيارًا للوطنية.
الفرد في دولة معاصرة يسودها دستور وقانون، يسودها أيضًا فكرة الولاء! لكنه ولاء للدستور والقانون، ولاء لبلدٍ يدافع عن حقوق الفرد ويحترم كرامته، وليس لنظام يزوده بالكهرباء ساعات محدودة، من أجل مساعدة القطيع على التعبير عن ولائهم لرئيسٍ دميةٍ! ثم حين تنتهي الدبكة، بكل إهانة ومذلة واحتقار، تعود الكهرباء للانقطاع. هذا ليس ولاءً، هذا ترخيص بقيمة الإنسان ودوس لكرامته بصرامي النظام وأجهزة رعبه.
الولاء وسيلة من وسائل إثبات الإنسان الحرّ الواعي الكريم، لذاته، لهويته، لمستقبله. وهذه قضايا كبيرة لا يمكن تلخيصها في شخص رئيس أو زعيم. ليس هناك مواطن أوروبي يوالي رئيس وزرائه ولا مستشاره ولا رئيسه. هؤلاء مثلهم مثل المواطن، جميعهم (موالون) لدولةٍ حقوقية دستورية، وليس لدولة عصابات…
لا يختار السوريّ ولاءه، لا يصنعه ولا يشكّله بإرادته، حتى عملية انتخابات مجلس الشعب التي هي أكثر صلة وقرابة بالحياة اليومية للمواطن، والتي من خلالها ينبغي أن يعايش فكرة الولاء للدولة، حتى هذه الانتخابات تُرسم رسمًا وتوضع نتائجها مسبقًا، ويُحرَم المواطن من أهمّ فرصة ليشعر بأنه ينتمي إلى وطن يواليه بحبّ وشغف، وتتحول الانتخابات إلى ولاءٍ للسلطة القمعية، بجماعاتها الانتخابية التي تتلقى تعليماتها من مرجعيات أمنية أو اقتصادية حليفة للأمن.
حرمان المواطن من صناعة ولائه، يحرمه من حقيقة الفرح بهذا الولاء. فالشعور بالموالاة يخلق حالة من المتعة والانسجام والأمان الداخلي للإنسان. كيف يشعر السوريّ بهذه المتعة والانسجام، وهو مجرد مستقبلٍ للتعليمات والأوامر بالرقص والدبكة والخروج في مسيرة التأييد مثلًا؟ إن هذه التصرفات الشكلية تعكس واقعًا ممزقًا يعصف بالسوريين، يقفُ مانعًا في وجههم ليتحسسوا لذة الولاء لفكرةٍ يؤمنون بها حقًا، لبلادٍ يحبونها حقًا، بل حتى لزعماء يختارونهم بإرادتهم وحريتهم.
حرمان المواطن من نقاء الشعور بالولاء سوف يحوّله أيضًا إلى (موالٍ) بالإكراه.. موالٍ لا يتجرأ على التعبير عن قهره ومعاناته الاقتصادية أو الاجتماعية، لا يتمكن من قول الحقيقة التي تموت داخله، وقد يموت في حسرة التعبير عنها.. موالٍ مضطر إلى الظهور بالشكل الذي تختاره السلطة له، أو تجبره على الظهور به، لهذا تراه مواطنًا يكذب وينافق، بل يبالغ في الكذب والنفاق، من أجل تحقيق ذلك الشكل المطلوب، لكن هذا الكذب والنفاق لا يتركانه في أمانٍ نفسي داخليّ، ولا يرفعان من قيمته أمام نفسه، إنه على العكس يشعر باحتقار نفسه وذلّها.
كم من السوريين كانوا يرفعون صور الأسد الأب ثم الابن، في مسيرات التأييد والبيعة؟ أو في الاحتفالات بالمناسبات الوطنية؟ كم منهم من كان يفعل ذلك مجبرًا خائفًا مرعوبًا؟ هل هذا تعبير حرّ عن الولاء؟
بخسراننا -السوريين- لمفهوم الولاء الذي يبني وينتج هوية وطنية وذاتًا فاعلة، قد حلّ ما يمكن تسميته بـ (الولاء المعطِّل)، فكما أن هناك (ثلثًا معطلًا) في انتخابات بعض الدول، هناك أيضًا (ولاءات معطّلة). وإذا كان الثلث المعطل يمنع قرارًا ما، أو يستبدله بقرار آخر، فإن الولاء المعطل يمنع قرارًا ببناء الذات الوطنية، يحجب الوعيَ السياسيّ، ويستبدله بوعيٍ ناتجٍ عن تفكيرٍ مغلوطٍ وفاسدٍ منطقيًا، بالقضايا الكبرى والصغرى معًا. لقد بنى الولاء المعطل تعصبًا للرئيس السوريّ وجعله أيقونةً! وقد كانت الأيقونة حاضرة في شخص الرئيس منذ أيام حافظ الأسد، الذي نظر إليه سوريون موالون، بحكم التعصب الأعمى، على أنه واحدٌ من تجليات القداسة والإمامة! كيف يمكن أن يبني مواطنٌ وعيَه الوطنيّ، وهو يمارس مثل هذا الولاء المخرّب؟ سوف تُهدَم فكرة (الوطن) مع هيمنة الولاء المعطِّل.
إن السلطة السورية كرّست هذا الشكل العصابيّ من الولاء، عن عمدٍ وبمنهجيةٍ، لتحول أتباعها إلى قبيلة من المؤمنين بها وبرمزها الأسديّ أو بفروعه الأسدية من العائلة والمهيمنين على مراكز القرار والسوق والعسكر. والمؤمن المتعصب لا يمكنه نقاش موضوع إيمانه نقاشًا حرًا عاقلًا، كذلك الموالي ولاءً معطّلًا لا يقبل بنقاش موضوع ولائه نقاشًا حرًّا عقلانيًا حواريًا. تلك لحظة ذابت فيها الحدود بين إحساس الإيمان الضروري للإنسان، بالإحساس بالولاء المطلق الذي لم يعد إلا انجرافًا مهووسًا بشخص الرئيس والعائلة الأسدية. وكأنما هذه العائلة تحوّلت إلى مجمع آلهةٍ أسطوريةٍ، لا يقبل أتباعها أن ينظروا إليها خارج القداسة العمياء. وفي هذه الحالة، قد يفقد السوريّ ذو الولاء المعطل إحساسَه بأن هذه العائلة هي المسؤولة عن خرابه وقهره وذله وهوانه. وقد يكون وصل إلى أدنى درجات الاستلاب والفراغ، بحيث صار ممكنًا في هذا المقام الحديث عن لذة خضوع العبد للسيّد. إنها حالة نموذجية من العقل المغيّب الذي حلّ محله شعورٌ مَرضيّ بأهمية القائد ونزاهته الكاملة، في حين أن من حوله هم العاطلون المخطئون.
السوري ذو الولاء المعطل لا يملك ذاتًا واعية، لا يعرف ما هو الفارق بين الوطن وبين شخص الرئيس، لا يملك محاكمات منطقية هادفة، بل هو يسخر من المنطق، ويتهم أصحابه بأنهم معارضة ومخربون! لقد تم فرز السوريين على هذا الأساس: كلّ انتقاد للرئيس هو عمل تخريبيّ وغير وطنيّ. انتقدِ الوزراء والمديرين العامين، وبعض أداء الإعلام، انتقدِ الجوع والذل وفقدان الدواء والحليب والبنزين والراتب الشهري، انتقد الله إن شئت، كلّه مسموح، ولكن لا تقرب من الرئيس المعصوم وبقية المعصومين من عائلته الحاكمة، ما دامت حاكمةً مقتدرة، أما إذا غضب الرئيس على أحد أفراد العائلة، فلك أيضًا حرية انتقاده، ولكن بتهذيب ورومانسية حتى لا تخدش الجذر الأساسي للعصمة!
هناك شرائح كبيرة من السوريين، حتى أولئك المنتشرين في دول الشتات، محشورون في نفق الولاءات المعطلة، التي تبرز وتنمو أكثر في مثل الظروف المأساوية التي تطحننا في الداخل والخارج. نتفهم على الصعيد الاجتماعي والنفسي حاجة البشر إلى الولاءات والتجمعات في نسق فكري معين، أو في تيار يزعمون أنه يمثلهم ويعبّر عنهم ويحمل هويتهم ويعززها، لكننا أصبحنا أسرى هذه الولاءات بطريقةٍ قتَلنا فيها إمكانيات التحاور والتناقض والاختلاف والقبول. تحكمنا ولاءات عشائرية أو طائفية، ولا نعني تلك التي مصدرها (العشيرة) أو (الطائفة)، بل نعني تحوّل العشيرة والطائفة، من جماعة لها ملامح ما وظروف ما في جغرافية معينة وتقاليد معينة، إلى مفهوم معشش في الأذهان ومحرّك لكثير من المواقف والتحليلات. وإذا كانت (العشيرة والطائفة) فضاءً اجتماعيًا مرتبطًا بما قبل الدولة، فنحن ما زلنا محكومين بهذا الفضاء، وإن كنّا نرتدي بدلات وكرافيتات، ونتجول في عواصم الحداثة وما بعد الحداثة.. فضاء يأخذنا للعمى الفكري، ويقذفنا في طقس عبادة معاصرة لأيقونات ورموز، ينبغي أن تتغير مواقفنا منها، وأن نخضعها لجدل العقل والأخلاق، ونطالبها بتفسير ما ارتكبت بنا وبالبلاد.. عمى فكري مدجج بمسحة معرفية خبيثة، بهدف إقناعنا بأن الأمر إنما هو حرية انتماء وخيار وإعجاب بتلك الرموز الأيقونية.. عمى فكري يقفز فوق أبسط الاستحقاقات التي بحّت أصواتنا ونحن ننادي بها، من عقلانية وموضوعية ونقد حرّ وشجاع. ندحر كل هذه الاستحقاقات لدى أول اختبار يصادفنا، لنرجع مرة أخرى وبشكل مكرر، إلى دائرة ولاءات كنّا نتوهم أننا تحرّرنا منها. وبهذه الحالة، نعيد إنتاج مفهوم الولاء في الداخل السوريّ ونكرسه ولاءً معطّلًا.
نحن مدعوون إلى التفكير بحريّة في مفهوم الولاء، وإلى نقده وتفكيكه، في الداخل والخارج، وربما في الداخل أولًا وثانيًا، لأن السوريين في الشتات حملوا معهم هذا الولاء من الداخل، وكأنه بضاعة منقولة في حقائب السفر.. نحن مدعوون لإعادة تقييم الولاء، وإعادة بناء هذا المفهوم، ليصبح الولاءُ مفهومًا بوضوح أكثر.