ما إن أتذكّر جدلية الصوت والصمت في سجن تدمر، حتى أتذكر صوت صديقنا المسؤول عن ضبط الصوت، الذي كان مضطرًا، في بعض الظروف الصعبة، إلى أن يمنع الكلام منعًا تامًا ساعات عدة، لأنَّ الصوت الهادر الصادر عن مئتي معتقلٍ، في حيّز مكاني ضيق، يجلب غضب الجلادين، ويعرّضنا لخطر الجلد ساعات طويلة، وكان يبرر بعبارته: “أنصتوا إلى صوت الصمت”.
تتحول مسألة الصمت والكلام، في عالم المعتقلات، من المجاز إلى الحقيقة؛ فنظام الأسد كان يكمّ الأفواه عن التحدّث في شؤون الحكم والسياسة، وانتقاد السلطة، على مدى خمسين سنة، ولم يتهاون قطّ مع أدنى خرق لهذا الجدار، أما في سجن تدمر، على سبيل المثال، فإن ضبط معتقلَين يتحدثان مع بعضهما حديثًا عاديًا أمرٌ موجبٌ للجلد والتعذيب.
في البدء، ما إن يمسك بك عناصر الأمن، حتى يكون الأمر الذي تتلقاه أن تلزم الصمت ولا تنبس ببنت شفة، وفي أقبية التحقيق المعتمة، يكون الصوت الوحيد المسموح به هو صوت إجاباتك واعترافاتك، لكنك تخرق هذه الحدود لتطلق العنان لصرخاتك المستمرة، وأنت تُسحَق بسياط التعذيب وبالأكبال الفولاذية.
في الأسابيع الأولى في السجن، حيث يكون المعتقل في أقبية التحقيق والتعذيب، تستقيلُ حاسة البصر أو تتضاءل إلى الحدود الدنيا، بفعل الظلام الطاغي في تلك الأقبية، وحين يُنقل المتهم من زنزانته إلى حجرات التعذيب والتحقيق، يكون معصوب العينين بعصابة مطاطية سوداء، وفي هذا النفق المظلم، تنهض باقي الحواس، لترمم النقص الحاد الحاصل، فتنشط حاسّتا السمع والشمّ، لتكونا نافذة المعتقل على هذا العالم، فيميُّز بين روائح وأصوات المعتقلين الجدد والمعتقلين السابقين، وبين الرجال والنساء، في صرخاتهم أثناء التعذيب، وفي نوع الأداة المستخدمة للتعذيب؛ حيث إن صوت من يُعذَّب بالجَلد يختلف عن صوت من يُعذّب بالعصا الغليظة، أو بالكهرباء أو بالماء المغلي، وكذلك صوت الأبواب التي تُفتح وتُغلق باستمرار، إذ يُميز أبوابَ الزنازين من أبواب حجرات التحقيق وغيرها.
وحين يقلب المعتقل الطاولة على معذبيه، ويفرض عليهم تبادل المواقع، فيبادرهم بالكلام ليؤكد براءته أو اعتلال مزاعمهم في اتهامه، أو يسأل المحققَ النظرَ بمنطق عقليٍّ إلى قضيته؛ تُربك هذه المبادرة المحققين والجلادين، فلا يملكون إلا أن يبالغوا في صراخهم وقمعهم، ويُمعنوا في تعذيبهم له، لكونه يذكّرهم -بكلامه وصوته- أنه إنسان، وأنَّ التعامل معه بهذه الوحشية أمرٌ ينافي الطبيعة البشرية السوية.
ما إن يستقر المعتقلون في سجن تدمر، حتى يتحول نمط الكلام ونبرته، من صوت المتحدث الطبيعي الذي يمارسه كلُّ أحد، إلى التحدث همسًا، وهذا فعلٌ رقابي يمارسه الشخص على ذاته، لإحساسه بالخطر، والواقع أن الهمس في الحياة السورية أمرٌ شديد الشيوع، فآذانُ الأمن في كلّ مكان، ويمكن لكل الأشياء حتى الجدران أن تكون آذانًا.
في سجن تدمر، يعدُّ التحدث إلى الجلاد جريمةً قد تصل عقوبتها إلى حدّ الموت، لأنَّ حديث المعتقلين، مع هؤلاء الجلادين، يمكن له أن يزعزع إيمانهم بما يفعلون، ويفسد فعل الشيطنة الطويل الذي غرسه أسيادهم في نفوسهم، وهو الذي يمكّنهم من ممارسة ذلك النمط الوحشي من التعذيب الطويل، من دون أن يهتز لهم شعور.
حين تمَّ نقلُنا إلى سجن صيدنايا عام 1988، كان من مزاياه الفريدة أننا كنا نستطيع التحدث فيه بملء أفواهنا، وأن نضحك ونغني كما نشاء، ومع هذا، فقد بقي هناك كثيرون يتحدثون همسًا، ولازمهم هذا الهمس حتى بعد خروجهم من السجن، وحتى بعد خروجهم من سورية مملكة الرعب الصامت.
يحرص الجلاد الحاكم وأجهزته الأمنية على خنق البلاد وكمّ الأفواه، وحين يخرج المعتقلون من سجنهم، يحذّرهم الجلادُ من عاقبة البوح بأيّ صوتٍ يفضح عالم المعتقلات التي عاشوا فيها، ليس لخشيته أن تتسرب تلك الحقائق المخزية، بل ليكون هو من يسرّبها بطريقته، وعبر مسامات الخوف التي يسيطر عليها، ليس للمعتقلين الناجين أن يتحدثوا، ففي حديثهم تعبيرٌ عن الحرية التي يحرص الجلاد على ألا تلامس أحلامهم، وفي حكاياتهم أيضًا استدعاء لصدى تلك الحكايات لدى السامعين، من تعاطف وتأثر، وتكوين موقفٍ مدينٍ لتلك الجرائم، الأمر الذي يرعب الجلاد.
وحين يخرج المعتقلون من السجون، ستكون بمواجهتهم أنماط مختلفة عما عاشوه، فالمتكلم يحتاج إلى سامع متفاعلٍ، كي يتمَّ حديثه أو يسهب فيه، أو ينتقل عبره من مقدمةٍ إلى أخرى، خاصة أنَّ بعض الكلام هدفه التوطئة للدخول إلى مستوًى أعمق في الحديث، وهو بيت القصيد، وهذا كان أمرًا مألوفًا في حياة السجن، فمن اليسر بمكان أن تجد آذانًا مصغيةً، وأنفسًا متلهفة للاستماع والمحاورة، ويكاد هذا الأمر يستغرق حياة السجين كلها، فليس يملك في تلك الصحراء إلا أن يتكلّم فيسمع، أو يستمع ويناقش، لكنه خارج السجن سيكون من العسير عليه أن يجد من يقبل الإصغاء لحديثه، أو أن يتحدث كما يشاء، بمنجاة من قبضة الأمن وآذانه التي تتابع كل حركة وسكنة يقترفها، وما أكثر الحالات التي أُعيد فيها اعتقال من نجا ثانيةً، لأنه كان يحكي قصة السجن في مجالسه!
من المؤلم الإقرارُ بفداحة الهزيمة التي نالت أحلامَنا بسقوط هذا النظام الذي لا يفتر عن القتل، لكن في المقابل، وجد ملايين السوريين الذين هاجروا مكرهين، أخيرًا، الفضاءَ الرحب، ليتنفسوا بحرية، ولتنطلق تلك الصرخات والأنّات التي حُبست في صدورهم عقودًا، وليتحدثوا إلى بعضهم وإلى العالم، وينقلوا تلك الحكايات التي تنبئ عن فظاعة الجريمة التي عاشوها، في ظل ذلك النظام المجرم، ولتبدأ قطرات الكلمات والأصوات في خلق الطوفان الذي سيطهّر بلدنا سورية، كما نحلم جميعًا.