يؤدي تداخل التخوم، بين الخاص والعام، إلى التغطية على الخاص، بادعاء أنه شأن عام، ويعتدي على العام باعتباره شأنًا خاصًا؛ فالحزب، أي حزب كان، هو شأنٌ خاص، يهمُّ أعضاءه المنتسبين إليه، وبهذه الحال، تصبح مرجعيته الفكرية والأيديولوجية شأنًا خاصًا، بينما برنامجه السياسي شأنٌ عام، ما دام يجيب عن أسئلة الواقع، ويتناول الشأن العام، ويتقدّم إلى الآخرين بهذا البرنامج السياسي، لكن أيديولوجية الحزب ومرجعيته النظرية هي شأنٌ خاص، ومحاولة فرضها على الآخرين هي تعدٍ على حريتهم وحقوقهم، وتعدٍ على الحق العام وعلى الدولة، في آن واحد.
عندما يحوز الحزب الأغلبية البرلمانية، يشكّل الحكومة، ويتقدم ببيان حكومته إلى البرلمان لكسب الثقة، ويحاول تنفيذ برنامجه الانتخابي.. لكن هذا الحزب، ومن تحالف معه، يشتغل على المتغير في الدولة، وليس بما هو ثابت كشأن عام، فالحكومة متغيرة في الدولة وتتنافس عليها الأحزاب، أما البرلمان فهو مؤسسة حيادية ومستقلة، وكذلك القضاء والجيش والجامعات…
إن الدولة شأنٌ عام أعلى، يعني كل مواطنيها، والبحث في شؤونها من حق أي مواطن فيها، انطلاقًا من المصلحة العامة المشتركة، ومن تشارك كلّ المواطنين في تقرير شؤونها، ولا يحق لأي مواطن -ولا لأي حزب أو فئة اجتماعية أو إثنية أو دينية أو طائفية- أن يفرض قناعته وخياراته الخاصة، وأن يدّعي حق تمثيل الآخرين، فهذا يتعارض مع مفهوم الدولة وحقيقة أنها شأن عام لمواطنيها كافة.
لا يستقرّ الأمر في هذا العصر للدولة، إلا بالفصل التام بين ما هو خاص وما هو عام، وعندما يتحقق الفصل، يسهم الخاص في تقدّم العام، ويصبُّ العام في تحسين شروط الخاص، وإذا كان الفصل يجعل العام يتنامى ويسمو، فإن العامّ باحتضانه الخاص وتمثله يدفع العناصر العامة الموجودة في الخاص إلى السعي لمزيد من تنامي ما فيه من عام، وعندئذ تتحقق الجدلية بين الخاص وبين العام، وتتعزز حيادية الدولة واستقلالها.
يؤدي الفصل بين الخاص والعام إلى حيادية الدولة واستقلالها، فلا تحابي الدولة الديمقراطية الحديثة أحدًا، ولا تنحاز إلى أحد آخر، سواء أكان فئة أو طائفة أو منطقة جغرافية أو حزبًا أو عقيدة فكرية أو دينية أو إثنية، وتتيح حيادية الدولة حق المكونات كافة بممارسة نشاطها وشؤونها الخاصة كما ترتأيه.
يترتب على حيادية الدولة واستقلالها الفصل بين السلطات، وأن يُمنع الجيش والقضاء من العمل السياسي، وهذا حفاظًا على استقلالية الدولة وحياديتها من جهة، ومنعًا للجيش والأمن من الهيمنة على الدولة والتغول عليها، وتحقيقًا لاستقلالية السلطة التشريعية والقضائية من جهة ثانية.
تعبيرات المجتمع المدني في الدولة الحديثة، من نقابات وجمعيات حقوق الإنسان والإعلام والأحزاب السياسية.. عززت الفصلَ بين الخاص والعام، وحمت حيادية الدولة واستقلالها، ومنعت هيمنة الدولة وتغولها على المجتمع، وجعلت الجيش والأمن مؤسسةً تتبع للحكومة المدنية، وتقودها السلطة السياسية المدنية، خارج إطار التنافس السياسي، ومتفرغة لمهامها الخاصة، أسوةً بالقضاء.