لا يمكن للمرء أن يعثر على أيّ نقدٍ بيني داخل الأحزاب والتنظيمات الإسلامية، بمختلف تياراتهم ومذاهبهم وطوائفهم، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. لا يوجد نقد حقيقي متبادل، يتناول مواقفهم التي تتعلق بالانغلاق الديني أو التشدد تجاه الحريات وحقوق الإنسان أو النزعة التسلطية. ولعلّ هذا ما يفسّر أنّهم، على الرغم من اختلافاتهم المذهبية (سنّة، شيعة)، أو اختلافاتهم السياسية (سلميّون يؤمنون بالعمل السياسي، مسلحون يؤمنون بالعمل العسكري)، أو موقفهم من السلطة (معارضة، في سدة السلطة)، على مستوى الكوادر والقيادات من جهة، وعلى مستوى المنظور الأيديولوجي من جهة ثانية، يؤمنون بأنهم مفيدون لبعضهم في النهاية، ويمكن أن يتعاونوا مع بعضهم، ويكونوا سندًا لبعضهم البعض، مهما كان حجم الخلاف المذهبي والسياسي والأيديولوجي كبيرًا.
وصفت إيران ثورة 25 يناير المصرية بأنها “ثورة إسلامية”، وكانت قد أطلقت اسم “خالد الإسلامبولي” (الإسلامي) العقل المدبر لعملية اغتيال أنور السادات، على أحد شوارع طهران، (ردّ السادات على ذلك باستقبال الشاه الإيراني المعزول محمد رضا بهلوي). وقام الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، فور وصوله إلى السلطة، بزيارة طهران، وإعادة العلاقات المقطوعة بين إيران ومصر منذ عام 1979، كما أعاد فتح السفارة المصرية في طهران.
الرئيس الإيراني المتشدد أحمدي نجاد قام بدوره بزيارة مصر، في شباط/ فبراير 2013، في أول زيارة لرئيس إيراني لمصر منذ 34 عامًا، وتحدث خلال زيارته عن “تطوير التعاون” بين البلدين، علمًا أن مستوى القمع والعنف في سورية، آنذاك، وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وأن الدور الإيراني المساند لبشار الأسد، ودعمه ميدانيًا، بات واضحًا للخبراء السياسيين آنذاك. بعد زيارته للأزهر وسماعه لطلبات شيخه أحمد الطيب، بأن ينال السنّة الإيرانيون حقوقهم الدينية بالتساوي مع الشيعة، أنهى أحمدي نجاد مؤتمره الصحفي متكلمًا بالعربية، بقوله: “اتفقنا على الوحدة”، وسط شائعات تقول إن محمد مرسي كان يريد استنساخ التجربة الإيرانية بعد الثورة، ولا سيما منصب “مرشد الثورة”.
في مطلع عام 2019، صرّح الناطق الرسمي باسم حركة طالبان، بأن إيران هي البيت الثاني للأفغان. وفي أواخر 2020، نصح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حركة طالبان، بأن تستفيد من المقاتلين الأفغان من ميليشيا فاطميون (الشيعية) في مواجهة تنظيم الدولة في أفغانستان. يُذكر أن ميليشيا (فاطميون) تتألف من لاجئين أفغان من الشيعة، استغلت إيران ظروفهم، وجنّدتهم للقتال إلى جانب النظام الأسدي في سورية. إيران الشيعية، بدورها، تريد طالبان السلفية السنّية في سدة الحكم في أفغانستان، بالرغم من الاختلاف المذهبي. أولًا لأن طالبان هي البديل الأقوى لنظام ديمقراطي علماني يمكن أن يظهر في أفغانستان، ويقضّ مضجع الإيرانيين الذين يسجنون الآلاف من دعاة الديمقراطية الإيرانيين. وثانيًا لأن طالبان هي عدوة لأميركا، العدو التقليدي لإيران. هذه العداوة المشتركة هي التي دفعت طالبان إلى إدانة عملية اغتيال أميركا لقاسم سليماني في العراق. ويُذكر أن حركة (حماس) أيضًا نددت بمقتل سليماني ورفعت صوره في شوارع غزة.
في سورية، على الرغم من انقسام الكيانات الإسلامية السنّية، منذ اندلاع الثورة السورية 2011، إلى طرفين نقيضين، بين مؤيد ومعارض للنظام الأسدي، فإننا لا نكاد نعثر على أي نقد، من أي نوع كان، يوجهه أحد الطرفين إلى الآخر. إذا كانت الحالات السابقة (مصر وإيران، إيران وطالبان) تبيّن أن الخلاف الطائفي لا يفسد للمصالح السياسية قضية، فإن حالة الكيانات الإسلامية السنّية في سورية تبيّن أن الخلافات السياسية، أيضًا، لا تفسد للود قضية بين الإسلاميين.
يوجّه صقور المجلس الإسلامي السوري، وهو كيان معارض للنظام السوري، نقدًا صارمًا للنظام الأسدي وكل من يتعاون معه، من كل أنحاء المعمورة. الجهة الوحيدة المستثناة من النقد هي المشايخ الذين يقفون مع النظام، وينتشرون في مؤسسات الإفتاء والأوقاف. هنا، يصمت المجلس الإسلامي السوري صمتًا رهيبًا ومريبًا تجاه المشايخ المؤيدين. ويزيد في ريبة هذا الصمت صمتٌ مقابل من المشايخ المؤيدين أيضًا. وإذا كان الصمت من علامة الرضا، في الأمثال الشعبية، فإنّ الصمت هنا من باب وجود إمكانية للتعاون في المستقبل، على الرغم من الخلافات السياسية. وضع يُشبه وضع الأخوين اللذين أُجبِرا على القتال ضد بعضهما في جيشين يتقاتلان مع بعضهم، كما يحدث في الأفلام السينمائية، فيحاولان أن يتجنبا بعضهما قدر المستطاع. وهذا يعني أن الموقف من النظام الأسدي ليس مربط الفرس، بالنسبة إلى الإسلاميين السنة في سورية، موالين ومعارضين. إنما مربط الفرس هو السلطة وحساباتها المستقبلية. ولعل هذا ما يفسر كثرة المشايخ الذين يغيّرون مواقفهم من الثورة السورية والنظام الأسدي، من حين لآخر.
ما يجمع الإسلاميين أكثر بكثير من ذلك الذي يفرقهم، ولذلك تجدهم يفتحون الأبواب والشبابيك بين بعضهم، مهما كانت العداوات عميقة: تجمعهم المواقف الموحدة المعادية للديمقراطية، الحريات الفردية، حقوق المرأة، العلوم الوضعية، الغرب، العلمانية، الحداثة السياسية التي جعلت السلطة السياسية بيد الشعوب.. والقائمة تطول. أُفقهم السياسي يقوم على النظر في كيفية السيطرة على الناس، والتوسع في مناهجها وتكتيكاتها، السيطرة التي بدونها سيفقد الإسلاميون مزاياهم وثرواتهم، والأبهة التي ينعمون بها.
ما نريد قوله في النهاية أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بين الإسلاميين، مهما بلغت درجة الاختلافات بينهم في المذاهب والمصالح السياسية والأيديولوجيات. ثمة ثلاثة عوامل تتحكم في صداقاتهم وعداواتهم، من ألفها إلى يائها: السلطة، النفوذ والشعبوية.
عندما تُقدَّم النفعية على الأيديولوجية، فهذا يعني أن الأيديولوجية تصبح عاملًا ثانويًا، لا مُحركًا رئيسًا. إسلامية الإسلاميين -بهذا المعنى- هي إسلامية من الدرجة الثانية. أما صدر المجلس فتتربع عليه، بلا نزاع، السلطةُ. وهذا يعني أيضًا أن السلطة هي المحرك الذي يحرك بوصلة الإسلاميين، ولو استدعى الأمرُ تصفير الخلافات المذهبية، التي تبقى مجرد وسيلة لجلب الشعبوية. وهذا هو مصدر خيانة الإسلاميين لأتباعهم وتضليلهم لجمهورهم.