منذ عشر سنوات، شكّلت جملة من “الخطوط العريضة” للمشهد السوري العام: “معارضة، نظام، عسكرة، أسلمة، تدخلات دولية وإقليمية”، وضعًا داخليًا مأسويًا: “قتلى، معتقلين، نازحين، لاجئين، فوضى، دمارًا، تشظّيًا، تجويعًا”، وغير ذلك مما يمكن أن يُضاف بحسب تطورات الوضع؛ وقد كوّنت هذه الخطوط المختلفة دليلًا إرشاديًا أو “قاموسًا” في قراءة الوضع السوري وتقويمه، وانقسام الآراء والتصورات حوله، وهي بمجملها لا تقدّم حديثًا عن الثورة، بل عن إشكاليات “حرب أو حروب” مختلفة، تضاعفت فيها المظلوميات، ورُسّخت آثارها على المستويات كافة، فارضة متغيرات مختلفة على الواقع وعلى السوريين.

وفقًا لجملة تصوّرات حول مفردة الثورة، بدءًا من ثورة العبيد (73-71 ق م) إلى ثورة الزنج، والقرامطة والثورة القانونية “البابوية” في العصور القديمة، انتقالًا إلى الثورة الصناعية والرأسمالية، والثورة الإنكليزية والأميركية الشمالية والثورة الفرنسية والروسية في العصور الحديثة، إلى الثورة الأوكرانية، وصولًا إلى ثورات الربيع العربي؛ فإن هذه الأحداث، وإن كانت بمجملها تعطي المعنى العام للثورة بأن (ما قبلها ليس كما بعدها)، لا تعطي العمق “العملي” الذي تبلور مع الثورة الفرنسية، وثورة تشرين الأول/ أكتوبر الروسية، اللتين تحتفظ بهما ذاكرة “الناس” كثورات نوعية، كونهما أسستا للانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من نظام سياسي اقتصادي اجتماعي، إلى ما هو أكثر “تطورًا” أو ما يُشكل استجابة لأهداف الثورة؛ فالثورة الفرنسية كانت انتقالًا من حكم ملكي إلى حكم جمهوري، ومن نظام ديني إلى نظام علماني، والثورة الروسية كانت انتقالًا من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكي أو حكم الأكثرية الطبقية “البروليتاريا”.

ما حصل على الأراضي السورية، بكل إرباكاته، لم يكتفِ بأن جعل ما بعد “الحراك/ الثورة” ليس كما قبلها، بل جعل مواجهة ما بعدها أشدّ هولًا مما قبلها، على المستويات كافة؛ فإن كانت الثورة نتاج الظلم والقهر والعسف والتمييز، فإن ما بعدها أضاف إليها أضعافًا، وأدّى ذلك إلى حالة “انقسام” أضيفت إلى الانقسام السوري “المعارضة والموالاة”، أو الانقسام الطائفي وخطه العريض “أكثرية وأقليات”، كظواهر موجودة أساسًا في المجتمع السوري وتأصّلت في بداية الحراك، ولم يتوقف الأمر عند الانقسامات والولاءات اللاحقة بحسب الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة، التي رسمت حدودها مع الحرب.

ففي السنوات الأخيرة، بعد أن بانت ملامح الفشل أو الانتكاسة السورية، في إطار التحرك نحو التغيير وضياع الأهداف العامة للحراك، وظهور العديد من المراجعات للوضع السوري، ومن بينها تقويم “الحراك/ الثورة”، الذي أدخل كثيرين في متاهات “الحيرة” في محاكمتها، بين “مؤيد ومعارض” ضمن طيف محسوب على الثورة نفسها؛ برز في صفوف “الثوار” طيفان متخالفان في تقويمهما للحراك، يمتدان من اليمين إلى اليسار، خرج أحدهما من “يوتوبيا” المشروع الثوري، ورأى أن ما يحدث لم يعد يَحتمل معنى “الثورة”، مقابل تمسّك طيف آخر بالثورة، واعتبارها واقعًا لم نخرج منه أو عنه، لتتحول “الثورة” إلى “بازار” تكثر فيه “المزاودات” بين فريقين:

الأول يتجه نحو اعتبار “الثورة” بداية للتغيير والإنجاز، والانتقال نحو مساحات مختلفة على صعيد السياسة والمجتمع، لم تتأصل في سورية، (لم تكن ثورة) فالاحتجاجات والثورات بحدّ ذاتها لا تؤدي إلى بناء دول حداثية قوامها مؤسسات راسخة وسيادة القانون واحترام التعددية، حيث إنّ ذلك يحتاج إلى أُطر فكرية وتنظيمية. والحراك السوري وتعثراته لم يقم على أساس فكري، ولم يُرسّخ مشروعًا ثوريًا سوريًا على قاعدة التوافق في صفوف “المعارضات”، وغياب الوعي الثوري والتوافق على الغايات والتطبيق الناجح لها أسقط معنى الثورة. والسورويون ما يزالون أبعد من الحديث عن تجربة الثورة ومناقشة ما حققته أو لم تحققه، وأكثر غرقًا في تقويم وعودها التي تحولت من أحلام إلى “أوهام”.

والثاني ينطلق من اعتبار الفعل الثوري من المصطلحات المتجددة، وفقًا لحاجة البشر الفطرية إلى الحرية والعدالة والأمان والحماية والمساواة (الثورة المستمرة)، وأن الثورات تتخذ أشكالًا عدة وتحتمل العنف، كالثورة الفرنسية والروسية، متجاهلين صعوبة إسقاط التجارب وتبنّيها على أرض الواقع في ظروف مختلفة، وأن تبرير العنف لردّ عنف النظام لا يلغي كارثية استخدام العنف، وأن صفة الاستمرارية تحتاج إلى حالة من الفعل حتى تحقق مطالبها كرؤية مستقبلية، وغياب الفعل يجعل مما يطرحه كثيرون في الفضاء الافتراضي “فيسبوك وواتساب”، عن الثورة المستمرة “حتى النصر”، أو حتى القول بأن التسلّح أو الأسلمة لا يمثل انتقاصًا من الثورة، هو “مجازفة”؛ فالخسارة التي مني بها السوريون طوال العشر سنوات لا تدلّ على أن هناك استمرارًا لأفكار ثورية أو احتجاجية، يُحكى عنها. وكلا الاتجاهين أسهم في العديد من العثرات:

أولها: جعل “الثورة” مفهومًا إشكاليًا: الانطلاق من المسلمات النظرية للثورات وللتجارب الأخرى البعيدة، وإسقاطها على الوضع السوري، جعل مفهوم الثورة وخطابها مفهومًا إشكاليًا يشدّه الاتجاه الأول نحو (ما لم يتحقق) على الأقل حتى الآن، ويسحبه الثاني نحو (ما لن يتحقق) في ظل الوضع الحالي.

الانقسام بتقدير رؤية الواقع السوري، من خلال زواية واحدة هي “الثورة/ الحراك”، وإن اختلف اتجاهها بين تيارين أساسين قد يتفقان “بشكل ما” على إضافة توصيف للثورة واعتماد تسمية “ثورة مسروقة أو مغدورة أو…”. يمثل طرحًا إشكاليًا يحتاج إلى معالجات مختلفة على أرضية الخروج من “الطوباويات” الثورية، والتعامل مع الوضع السوري بظروفه كافة، كمسلّمات لا كمفاهيم إشكالية، أو على أنها عمومًا قابلة للتبدل. فالعديد من الأحداث في العالم أُطلق عليها اسم “الثورات”، حتى الأفعال النكوصية والارتداد التاريخي، كالثورة الإسلامية في إيران (1979)، وكذلك الانقلابات العسكرية التي أعادت العالم العربي عقودًا إلى الوراء.

وما حدث في الحراك السوري، سواء على صعيد البداية وعدم القدرة على اختراق الغالبية الصامتة من شرائح المجتمع كافة التي لم تدخل في تشكيلة “الجمهور” لا للنظام ولا للمعارضة، أم إيجاد روابط عامة مع رافضي التسلّح والأسلمة التي ظهرت في بداية الحراك، ثم ما حدث بعدها من أخطاء تتحمل مسؤوليتها المعارضة النخبوية خصوصًا الرسمية التي استلمت الحديث باسم “الشعب” السوري، وحوّلته إلى “جمهور مُتخيَّل” في خطابها الذي اتضحت فيه الصراعات النفعية على النفوذ والمال والولاءات، وانهماك أشخاصها في تعظيم المنافع الشخصية على حساب المصلحة العامة، جعل المعارضةَ “شريكًا” للنظام، في نظر طيف كبير يُمثل الغالبية من شرائح المجتمع ومن المعارضة، وإن استمراراها في العمل باعتبارها “ممثلة” رسميًا للمعارضة يعني استمرار الخسائر وعدم القدرة على بناء مشاريع التغيير الممكنة.

وهذا كلّه يستدعي قراءة الواقع كما هو، بكل حمولاته، بعيدًا من “القطيعة والمزاودات”، وإجراء نقاش بَنّاء حول مطالب الشعب التي لم تتحقق، والالتفات نحو البحث عن آلية تنفيذها كونها مطالب مُحقّة، ودراسة المُعوقات وكيفية العمل للتخلص منها، وهذا ينطبق على من يقولون إن (الثورة مستمرة)، فالسوريون ليسوا بحاجة إلى شعارات “لا تُطعم خبزًا”، فصفة الاستمرارية بمستواها الأدنى تعني الاستفادة من الفرص الداخلية، والانطلاق من زاوية الحاجة إلى التغيير والعمل عليه، وتقديم الدعم والمساندة والثقة، بأي فعل احتجاجي على صعيد الداخل، بدلًا من سحب الغطاء عنه وتسخيفه، كما حدث في الفترة الأخيرة في تظاهرة السويداء طلبًا للخبز.

ثانيها: الابتعاد عن تقويم المُتغيرات والاستفادة من الدروس: لقد خضعت سورية في الفترة السابقة للعديد من المُتغيرات، وإن كان بعضها يصبّ في الناحية الإيجابية بسقوط الخوف من النظام، لكن التأثير السلبي كان كبيرًا في قياس النتائج الكارثية التي تلت الحراك، فسورية خسرت عقودًا من التنمية البشرية، ودخلت الفوضى والتفكك المجتمعي والتهجير، فضلًا عن الاحتلالات المختلفة وظهور الإرهاب، وكلها على حساب الشعب ومطالبه الأساسية، وإنْ كانت مسؤولية كل هذا تعود أولًا إلى النظام لا إلى الحراك. إلا أن سوء تقدير الحالة من قبل المعارضة الرسمية، وعدم العمل باتجاهات مختلفة وإجراء المراجعات والتقويم لكل ما حدث في فترة السنوات المأسوية السابقة، والخروج بخلاصات واعتبارها دروسًا يمكن الاستفادة منها، مدّ في عمر الأزمة؛ فما ثبت حتى الآن أن النظام السوري كان قادرًا على مواجهة أي محاولة لإسقاطه، مستفيدًا من العثرات الكثيرة “للمعارضة”، ومن قوته الأمنية وقوة تحالفاته لإدامة وجوده، وكان قادرًا على مواجهة أي “منافسة” ممكنة أو محتملة على صعيد الواقع، ولو كانت من خارج السياسة، كما حدث في المصالحات أو في إعادة السيطرة على الفضاء الديني الإسلامي “المؤسسة الدينية” وتمكينها، أو في تطويع المناطق التي لم تتخذ ميولًا محددة بإثارة الفوضى والمشكلات الداخلية لترويضها. فضلًا عن أن الانطلاق الأساسي للحراك كان ناتجًا عن أن هذا النظام لم يكن على قدر المسؤولية من محاكاة الهموم اليومية للناس وتوفير العيش الكريم لهم ومحاربة الفساد المتفشي بطريقة منهجية، ومن هنا، فإن تكرار “التجربة”، لدى أي هيئة أو مؤسسة محسوبة على المعارضة، يعني عدم التعويل عليها.

ما بين الحرب والثورة

بعد عشر سنوات “عجاف”؛ يمكننا التسليم بعدم إمكانية العودة للخلف، وبأن محاولة التغيير في العام 2011 تم وأدها، وأن سورية دخلت مرجل “الحرب”، وتحولت إلى دولة “دويلات”، فالنفوذ الإقليمي والدولي شكّل خرائط “ثابتة”، والقرارات الدولية معلّقة ومشكوك في إمكانية تطبيقها، والحوار السوري التفاوضي على بنود الدستور لا يُشكل إنقاذًا للكوارث المتراكمة اقتصادية ومجتمعية وخدمية، وهناك نقمة واسعة على النظام الذي يُعِدّ نفسه لانتخابات جديدة، وكلها تعيد طرح السؤال الأساسي للتغيير: كيف السبيل لابتداع طرق للعمل في ظل الصعوبات الراهنة تكون أكثر فاعلية، وتقديم بدائل مقنعة لعامة الناس؟ ومهما اختلفت التقديرات في الإجابة عن السؤال، فإنها تستوجب الالتزام والانخراط بنمط الاستجابة وتحفيز التوقعات لبناء تفاعل جديد بين القوى النخبوية “المعارضة” نفسها، واستعادة الثقة الشعبية بما تقدمه أو تتبناه من طروحات، للعمل معًا على ثورةٍ لم تقم بعد، يستعيد فيها السوريون مطالبهم المغدورة.