كما أن للتربية رسالة نبيلة، تهدف إلى تنمية الشخصية الإنسانية المتوازنة، المتفتحة عقليًا وانفعاليًا وسلوكيًا، المُبصرة لذاتها، كذلك يمكن أن يكون لها دورٌ أسود، إذا خضعت لتأثير قوى نافذة همُّها الرئيس تكوين الشخصية المنضبطة والمطيعة مسلوبة الإرادة الحرة. فالتربية أداةٌ ذات قُدرة على الفِعل والتأثير في المدخلات التي تتلقاها من المجتمع الذي تنتمي إليه، وتتوقف نوعية مخرجاتها -طلابها- وخصائصهم على طبيعة المهمات أو الأهداف التي تُصاغ لها.

والتربية المقصودة هنا هي أوسع من التربية المدرسية ذات المناهج المخططة مرسومة الأهداف، إنها تمتد لتشمل أيضًا جملة الفعاليات والأنشطة ذات الطابع غير النظامي التي تُخطط وتُنفذ في إطار منظمات المجتمع المدني والأحزاب وسائر التنظيمات ذات الطابع الشعبي والمهني، فهي تتولى مهمات الإعداد والتدريب والتأهيل، من خلال تزويد أعضائها -شحنهم- بالمعارف والخبرات والمهارات والقيم الثقافية، وبالتأكيد، سوف تكون الأسرة والميديا، ومنها وسائط التواصل الاجتماعي، وسط الفعل المُربّي اللانظامي.

في المجتمعات التي تهيمن فيها سلطة شمولية موجهة بأيديولوجيا مغلقة ذات نزعة احتوائية، تُصاغ فلسفة تربوية مُضمرة، تُشتق منها غايات وأهداف تربوية، وتُصمّم عملياتها لتؤدي في النهاية إلى مُخرجات -شخصيات- تتسم بقابليتها للطاعة والموالاة، والانضباط، شخصيات بلا ملامح مميزة. وفي المآل الأخير، لا تنتج سوى جماهير الحشد -حسب إيرك فروم Fromm- المُكوَّن من جملة أفرادٍ مُمْتثلين*.

ويحدث ذلك من خلال شحن مضامين المناهج التعليمية، ومنها أنشطة صفّية ولاصفّية، فضلًا عن برامج المنظمات الرديفة للحزب الحاكم، بجملةٍ من المعلومات والقيم والاتجاهات المُعززة لنزعات الطاعة والولاء والتقدير والتسليم بقيمة القائد، بعد أن تُسبغُ عليه صفات استثنائية: المُدبّر والمقدام، الواهب والمقتدر، منبع الخير والعطاء، والحكمة والقوة، والرحمة والبطش… إلخ، تعززها حملات دعائية مكثفة ودؤوبة، كان من نتائجها غسل أدمغة “brainwashing” الجمهور، ونقش مجموعة من المسلّمات غير القابلة للدحض، وهذا ما أطلق عليه ماركيوز “البعد الواحد”، وحينئذ تندمج الشخصية في مجتمعها اندماجًا كاملًا، بحيث تفقد بُعدها الداخلي الخاص بها.. وهذا النموذج هو ما أراده النظام الاجتماعي المُهيْمن الذي من خلاله يتوحّد الفرد مع مجتمعه بشكل كامل”** [1]

إنه نظام تربوي أسود black education، يسعى إلى تنميط الفكر وتسطيحه، عبر توحيد الثقافة واختزالها في ثقافة وأيديولوجية واحدة، ثقافة اللون الواحد، والروتين المكرر والرتيب، فلو نظرت إلى المدارس في سورية -على سبيل المثال- فلن تجد فيها إلا الألوان القياسية الموحدة ذات الأسوار العالية بأبواب حديدية السوداء، ولو نظرت إلى المباني السكنية في أيّ مدينة، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، فسوف ترى لونًا واحدًا يغلب عليها، وكذلك أبواب المتاجر، إنها مشاهد بشعة ومملة أسهمت في تخريب الذوق الإنساني.

لقد تحولت التربية في سورية إلى عمليةٍ تبغي إنتاج وإعادة إنتاج الدَهْماء، عَبَدةُ الصَنَمية، فَقدَ الفرد بفضلها جوهره الإنساني المتفرد والحر، المفكر والمبادر والمشارك، وأضاع هويته.

وجاءت السياسات الاقتصادية الليبرالية الغاشمة الموالية لفئة البرجوازية الطفيلية المتحالفة مع بيروقراطية فاسدة، لتعمّق التناقضات الاقتصادية – الاجتماعية والفساد والمحسوبيات، الأمر الذي أنتج حالة سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية لم تعُد مقبولة، إنها حالة موصوفة للشروط الثقافية والاجتماعية – الاقتصادية المولدة للعزلة والتهميش والإحساس بالدونية وانفصال الذات عن الأنا المحسوسة في الحياة اليومية.

تجلّت نواتج ما تقدّم في شيوع متلازمة الإفقار المركّب التي ضربت شرائح واسعة من السوريين: (الفقر المادي، وفقر الحماية والأمن، والحرمان من الحبّ الناجم عن التسلّط والعلاقات الاستغلالية للبيئة للبشر والطبيعة، فقر الفهم والإدراك معًا، وفقر المشاركة، وفقر الهوية الناتج عن التسلط وفرض القيم الغريبة على الثقافات المحلية، التهجير والنفي السياسي…). إنه الاغتراب بأوضح تجلياته!

لقد عدَّ فروم تفرّد الذات الميزة الأساسية للذات الإنسانية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع القول “أنا”، وهو الوحيد المدرك لنفسه كوحدة مستقلة ومميزة عن الآخرين. هو الكائن الوحيد المنفصل عن الطبيعة، القادر على الإحساس بمعنى الهوية، لأنه ينفرد بالعقل والخيال. وبالضرورة، يقتضي التفرد التحرر الكامل، لأن التفرّد يعني أن الإنسان هو مركز الحياة وغرضها، وأن حرية واستقلال الذات غاية لا يجب أن تخضع لأي غرض آخر[2].

هل خضوع الإنسان لشروط التنظيم السياسي الاجتماعي المولد للاغتراب حتميّ؟ نعم.. بحسب إيرك فروم، فخصائص الإنسان محكومة بتلك الشروط! والسبيل الوحيد للتحرر منها وانطلاق الشخصية الإنسانية المتحررة هو تغيير تلك الشروط عبر الثورة. لقد ثار السوريون على الصنم، وتحرروا من سلطته ومن الروابط التي قيَّدتهم بالحشد. لكنهم وقعوا في حالة من القلق، وفي دوامة التخبط، وهم يبحثون عن حريتهم البناءة، حيث يمكنهم العثور معها على هويتهم وذواتهم الإنسانية الأصيلة، لكنهم لمَّا يهتدون إليها بعد! والخشية أن يعودوا لصنع أصنامهم ويباشروا عبادتها من جديد، بعد أن يمَلّوا حالة التشرذم والضياع والوقوع في لُجَّة الإحباط المديد، مع تضاؤل فرص النجاة عبر مخارج مأمونة إلى الحرية الحقيقية.

تذكرون الحكمة المهمّة المستخلصة من القصّة التي حدّثتنا عن حيوانات مزرعة أورويل[3] -بعد أن ثارت على جونز مالك المزرعة المستبد- وهي عودتهم لإنتاج الصنم/ الطوطم المقدس الذي كان ملهمهم إلى الثورة، وباشروا الإخلاص لذكراه، مسبغين عليه جميع الصفات التي يحبّونها، تجردوا منها، وسلّموه ذواتهم طواعية، ظنوا أن الثورة على مالك المزرعة الظالم والمستبد واللارحيم قد حررتهم! لكنهم وجدوا أنفسهم، بحريتهم المنقوصة والقلقة، قد أعادوا إنتاج عبوديتهم!

مع ذلك، يرى فرانكل[4] (رائد العلاج بالمعنى) أن الخضوع لتلك الشروط ليس حتميًا، إذ كتب: “أليس لدى الإنسان أي اختيار لأفعاله في مواجهة تلك الظروف؟ الإنسان في مقدوره أن يحتفظ ببقية من الحرية الروحية، ومن استقلال العقل، حتى في تلك الظروف المريعة من الضغط النفسي والمادي”.

ويتابع فرانكل: “في كل يوم وكل ساعة، هناك فرصة لاتخاذ القرار، وهو القرار الذي يحدد أكنتَ تنوي أن تخضع لتلك القوى التي تهدد بأن تسلبك من ذات نفسك، من حريتك الداخلية، أم لا، وهو القرار الذي يحدد أكنت تنوي أن تصبح لعبة في يد الظروف، متخليًا عن الحرية والكرامة، لتصبح متشكلًا في القالب المميز للنزيل بالمعسكر أم لا[5]“. وبناء على ذلك؛ فإن ما يصير عليه السجين هو قرار داخلي، وليس نتاج ظروف الاعتقال وحدها.

التربية على المواطنة التي نفكّر فيها هي نقيض التربية السوداء المُغرِّبة للإنسان. تربية منفتحة على جميع ثقافات المجتمع، والمجتمعات الأخرى، تربية غير متعصبة، مكتفية بمحتواها المُحمَّل بقيم حقوق الإنسان، والواجبات المترتبة على الأفراد في المجتمع، تربية تسعى لتنمية شخصية المتعلم باعتباره فردًا، كيانًا قائمًا بذاته، تنمي لديه الفكر النقدي، المتفرد، تربية تعزز ذاته وقيمته بحد ذاته، وفي الوقت عينه، هي تنمية الشخصية المُشاركة، المُنفتحة، الناقِدة. وبالطبع، تستلزم تحريرًا لمضامين التربية من كل ما يمتّ إلى الأيديولوجية، والأفكار النمطية الدوغمائية، وهذا يستدعي بالضرورة طرائق تعليم تركّز على المناقشة والحوار وعصف الدماغ والأنشطة المعززة لقيم الحرية والشراكة والإبداع والتميز، كل هذا في إطار من الحبّ الذي لا ينفصل عن الفكر.


* الامتثال بمعنى الاغتراب حسب إيرك فروم.

** “البعد الواحد” عند ماركيوز  Marcuse يعادل الاغتراب عند فروم.

[1] فؤاد زكريا، هربرت ماركيوز، مقال بمجلة “عالم الفكر” العدد الرابع، آذار/ مارس 1972، ص 260

[2] نقلًا عن: حسن، حماد: الاغتراب عند إيرك فروم، دار الكلمة، القاهرة، 2005.

[3] أورويل، جورج، مزرعة الحيوان، ت: محمود عبد الغني.

[4] فيكتورفرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى، مقدمة في العلاج بالمعنى، دار القلم: الكويت، 1983.

[5] كان فرانكل نزيلًا في أحد أقسى معسكرات النازية الألمانية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.