في بداية الثورة السورية السلمية وقبل تحوّلها إلى مقتلة، جادلني صديق لبناني معروف بمواقفه الحقوقية والإنسانية في كل قضايا الكون عدا المسألة السورية. وقد وصلت حدته في الحديث إلى أنه استخدم عبارات التخوين التي اشتهر كثيرون من بافلوفي العرب ومن في حكمهم في اللجوء إليها لوصف من يعارض مواقفهم المتشنّجة من حركات التغيير، فاتهمني بالخيانة وبالعمل لمصلحة جهات أجنبية وببيع قلمي إلى الغرب وأجهزته التي “لا تريد خيرًا لشعوبنا وتسعى إلى سرقة خيراتها”. وبدأ بسرد “آيات” الإعجاب والتأييد لما يراها “مقاومة” للعدو الحقيقي والمتخيل. حينئذ، اقترفتُ خطيئة لا تُغتفر إذ نعتُّه بـ “البوق” لأهل السلطة ومن لف لفهم من المقاولين الحقيقيين والمقاومين الوهميين. وتمسكًا بالأخلاق الحميدة، اتّبعتُ المدرسة الفرنسية في الجدل السياسي الديمقراطي الذي لا ينعت الآخر بالشتائم، وإنما يصل فقط إلى حدود التوصيف الوظيفي. فالوصف بالبوق ليس سلبيًا للغاية، فالبوق لا يقتل ولا يعذب ولا يعتقل، بل يُصدر أصواتًا، مزعجة غالبًا، للدفاع أو للتبرير بحق القتلة والسجانين والفاسدين. هو ظاهرة صوتية عرفتها الإنسانية منذ فجرها الأول.
في باريس، كما سواها من عواصم الغرب، أبواقٌ عربية كثيرة تتصدر المشهد الإعلامي للدفاع عن الأنظمة الفاسدة والمستبدة. والأبواق هذه إما أنها مأجورة أو أنها متسّخة بأيديولوجيا أعمتها عن الحقيقة وعن الضمير، ودفعتها إلى الارتماء في أحضان الطغاة. وفي الغالب، تُدمج العقيدة مع المنفعة. وتظهر هذه الأبواق في الأزمات لتتصدى إعلاميًا للدفاع عن أرباب نعمتها. كما أنها تُعدّ صوت سيدها من قبل الإعلاميين الذين يلجؤون إليها للمحافظة على “الموضوعية”، في عرض أحوال الدول العربية.
وقد قام أحد هذه الأبواق بدعوة كاتبيَن ومصورَين فرنسيين إلى زيارة دمشق، لحضور مهرجان عن الخيول العربية. وقد قام هذا “الفارس” المترجّل بتنظيم الرحلة، بعد أن توصّل إلى إقناع المدعوين الذين بينهم كاتب متوسط الشهرة وآخر مغمور. كما قام بتقديمهما إلى أصحاب الأمر بأنهما من أشهر كتّاب الغرب وليس فرنسا فحسب.
رافقتهم في رحلتهم كذبة كبرى، يمكن اعتبار اختراعها والترويج لها من طباع الأبواق ومن “أخلاقها”. فبما أن أحدهم يحمل في اسمه لقب “غورو”، فقد قدّمه الفارس المقيم في فرنسا كحفيد الجنرال “غورو” الذي كان على رأس القوات الفرنسية التي دخلت سورية سنة 1920. علمًا بأن ليس للجنرال لا ولد ولا تلد. وأضاف، باجتهاد مسرحي هش، أنه يزور دمشق ليعتذر عمّا اقترفه جدّه، ويطلب الصفح من الشعب السوري وقيادته “العظيمة”. وقد نجح البوق -نسبيًا- في إقناع الأجهزة الأمنية التي يتعامل معها والتي رتبت له الزيارة، بأن المذكور الأول هو حفيدٌ للمذكور الثاني. وقد لعب هذا الحفيد المزور الدور على مضض. فعلى الرغم من تكراره لمؤشرات الغضب أمام فارس الأبواق، فإنه، عن خوف ربّما، لم يفضحه أمام عدسات الإعلام التي قابلته تحت هذا التوصيف.
وفي زيارتهم المرتبة هذه، استقبلهم أحد رجالات البلاط المهمشين، وتم تقديمه لهم على أنه الرجل الثاني في السلطة السورية، وقد أدلى أمامهم بمحاضرة تليق بإستاد “التربية القومية الاشتراكية” الذي عرفته مدراس التحديث والتطوير، وما سبقها من قصص الصمود والتصدي في سورية المعتقلة منذ عقود. وامتلأ حديثه بأنواع رديئة من اللغة الخشبية والحشو واللغو والحديث عن المؤامرات الآتية من المريخ ضد سورية التي تتصدى لكل أشكال الاستعمار والتي أفشلت مخططاته.
كما تميّزت تلك الرحلة بقيام البوق السوري المقيم في باريس بواجب الترجمة في غالب اللقاءات، مما سمح له بتغيير مجمل أقوالهم التي كانت مبسترة وخالية من السياسة، وعبّروا فيها فقط عن شكرهم للاستضافة وعن اهتمامهم بالخيول العربية الأصيلة. وقد استفاض البوق المترجم بكلمات تبجيلية لسلطات البلاد، لم يتلفّظ بها أي منهم. وكانت الأعين والمسدسات الساهرة على أمن الوطن والمواطنين تلاحق الزائرين في كل خطواتهم، حتى إنهم عندما تشجعوا وخرجوا وحدهم في زيارة للأسواق، تم الاتصال بسيارة الأجرة التي تنقلهم للتوقف ولإنزالهم، بذريعة المحافظة على أمنهم.
لم يغب عن أجهزة الأمن كذبة الفارس البوق المتعلقة بنسب الكاتب الذي يحمل اسم الجنرال غورو، فاتصل ضابط من الأمن به مشككًا في خلفيات هذا الكاتب الذي “ينتحل” الصفة المذكورة، دون أن يشك بالبوق نفسه. فما كان من البوق الدجال إلا أن عبّر عن استغرابه الكاذب، وتوقف الأمر عند هذا الحد، ولم يتعرض الحفيد المزور لأي إحراج، وتابع ظهوره على الإعلام السوري كحفيد للجنرال.
كريستوف دونر، الكاتب المشارك في الرحلة، وصف كل هذه الأحداث وكل هذا الكذب وكل هذا الضجيج، في كتابٍ سمّاه “أربعة أغبياء في سورية” وهو منهم. وعلى الرغم من اعتراف الكاتب بوضوح بأنه وقع ضحية مناورة سخيفة ورخص إعلامي، فإنه لم يُبد أي أسف لمشاركته التي سمحت له بإصدار هذا الكتاب الوصفي والساخر من البوق ومن أسياده.