مع صدور نتائج الامتحانات الثانوية والجامعية للسوريين، سواء في مناطق النظام أو المناطق التي تقع خارج سيطرته أو بلدان المهجر، يسارع عدد كبير من السوريين، في مثل هذه الأيام من كل عام، إلى الاحتفال بنجاح أبنائهم، وتكاد عبارات المباركة والتهاني تملأ وسائل التواصل الاجتماعي وتشغل ناسها، وذلك بعد طول معاناة الطلاب وأهاليهم بسبب ضغوطات الامتحانات، فضلًا عن توتر الانتظار، وترقب الوضع الذي سينتهي إليه الطالب/ الابن، في المستقبل القريب.

ولكن هل تعدّ ظاهرة الاحتفال بالنجاح، في الفضاء العام، ظاهرة صحيّة من الناحيتين الأخلاقية والاجتماعية؟ وهل يستحقّ الأمر بالفعل كلّ هذ المشاعر الصاخبة، أم أن في الأمر نوعًا من “التنفج الاجتماعي” (إحدى صيغ المبالغة في الاحتفال)؟ ولماذا كلّ هذا الخلط بين المجالين العام والخاص؟! ستحاول هذه المقالة مقاربة تلك التساؤلات، والكشف عن أن الأمر قد يكون غير أخلاقي في النهاية، مثلما يمكن أن يكون نوعًا من الوجاهة المزيفة، والأنانية التي تدير ظهرها لملايين الطلاب السوريين الذين تقطّعت بهم السُّبل ولم يتمكّنوا من الالتحاق بمدرسة أو جامعة، وذلك على الرغم من النيّات الطيبة والمشاعر العفوية التي تقف خلف تلك الاحتفالات.

تأخذ احتفالات السوريين بنجاح أبنائهم طرقًا مختلفة. أكثرها تطرفًا إطلاق النار في الهواء (أدى هذا العام إلى مقتل امرأة في القامشلي، إضافة إلى عشرات الإصابات بعيارات نارية في حمص وعين العرب/ كوباني ودرعا وسلمية)، أما أكثرها انتشارًا، فهي التزاور للتهنئة. كما انتشرت ظاهرة نشر أخبار النجاح على وسائل التواصل الاجتماعي، ممزوجة بدموع الفرح ومشاعر الفخر وفرحة الإنجاز. وقد زادت ظاهرة الاحتفال بالنجاح، في العقود الأخيرة، لأن النجاح في الثانوية العامة، مثلًا، أصبح من الأمور الصعبة في سورية، ويرافقه قلق مضاعف، بسبب قلة المقاعد الجامعية، بالقياس إلى عدد الطلاب الناجحين في الثانوية، وبسبب قلة فرص العمل لخريجي الجامعات، حيث شملت قلة فرص العمل في عام 2010 حتى خريجي كليات الهندسة. ولعل هذه المزاحمة تُعدّ أحد أسباب المبالغة في الاحتفالات، ففي الدول المتقدمة، التي فيها وفرة في المقاعد الجامعية وفي فرص عمل الخريجين الجامعيين، تكون جذوة الاحتفالات أقلّ بكثير. حتى إن نجاح الطالب أو رسوبه، أو علاماته، تعدّ من المعلومات الخاصة جدًا في الدول المتقدمة، ويمنع على المعلّم تسريب علامة أي طالب من طلابه. الوحيدون الذين يسمح لهم بالاطلاع على علامات الطالب، الطالب نفسه وأحد والديه، في تقليدٍ يحترم الخصوصيات بالنسبة إلى الطلاب ذوي التحصيل العلمي المتدني. أما في سورية فإن المعلّم كثيرًا ما يفضح الطالب غير المتفوق، ليصل الأمر أحيانًا إلى حد التشهير به وإهانته.

مع حلول الثمانينيات من القرن المنصرم، أخذ غالبية أولياء الأمر يستشعرون بأن مستوى التعليم انحدر إلى درجات غير مسبوقة؛ فدفعهم ذلك إلى نقل أبنائهم إلى مدارس خاصة، أو إلى تسجيلهم في دروس خصوصية. وهذا يعني دفع كثير من الأموال. المتنفذون سلكوا طرقًا أسهل بالنسبة إليهم، وذلك عن طريق استثمار رأس مالهم الإداري وشراء المراقبين في المراكز الامتحانية. في كل الأحوال، تحول التعليم إلى أبرز مجالات اللامساواة في سورية الاشتراكية. القيادة القطرية لحزب البعث لم تنزل إلى مستوى شراء المراكز الامتحانية، وابتدعت شيئًا اسمه “البعثات”، لتضرب به عصفورين بحجر واحد، حيث حصل الآلاف من أبناء المسؤولين والتجار والمتنفذين على فرصٍ لإكمال تعليمهم خارج سورية، على حساب السوريين أنفسهم.

بالعودة إلى أرقام الدمار والخراب في سورية، نجد أن هناك أكثر من 3 ملايين طالب -بحسب منظمة يونيسيف- غير قادرين على الالتحاق المدارس اليوم، وأن ثلث مدارس سورية البالغ عددها نحو 25 ألف مدرسة أصبحت خارج الخدمة وغير صالحة للتدريس، بسبب التدمير الكلي أو الجزئي أو تحويلها إلى مراكز لإيواء اللاجئين (في المناطق التي تسيطر عليها بعض الفصائل المسلحة، وفي مناطق قسد، تحولت بعض المدارس إلى مراكز أمنية ومقار لكتائب مسلحة). هذه الأرقام المحزنة تجعل المحتفلين بنجاح أولادهم، في المجال العمومي، يبدون أشخاصًا غير مبالين، إحساسهم بالمجال الخاص أقوى من إحساسهم بالمجال العام.

بحسب علم النفس الاجتماعي، تشير المبالغة في الاحتفال، بإنجازٍ ما، إلى أن هذا الإنجاز غيرُ مهمّ في حقيقته، ولذلك يجري الاحتفال به بشكل مبالغ وأمام الناس جميعًا، لإعطائه هالة أكبر، وخير مثال على ذلك احتفالات أعضاء مجلس الشعب في سورية بنجاحهم، على الرغم من أنّ مجلس الشعب السوري نفسه يشكل موضوع تندّر بين السوريين، حتى قبل الثورة، بسبب دوره الهامشي في الحياة السياسية السورية. الاحتفالات كلّها مزيفة في البلدان التي يسيطر عليها طغاة عتاة، حتى إن الاحتفال نفسه يتحول إلى وسيلة مهمة لتزييف الواقع، والزعم بوجود إنجازات كاذبة. وقد أُجبر السوريون على الاحتفال حتى “النخّ” بمناسبات من هذا النوع، لأكثر من نصف قرن من الزمان.

المبالغة في الاحتفال بمناسبات خاصة، ونقلها إلى المجال العام، هي في النهاية تعبيرٌ عن سطوة المجتمع وعن رغبة عارمة في الوجاهة.. تعبير عن الخوف من المجتمع من لسانه السليط، أحيانًا، والخوف -كما هو معروف في علم النفس- أحد أكبر أسباب الكذب. في الثمانينيات كان بعضُ الطلاب يكذبون على أهلهم ويدّعون أنهم نجحوا في الثانوية، مستغلين وجود الأهل في الريف وعدم تمكّنهم من التحقق من نتيجة الامتحان. طبعًا، الكذب هنا يأتي تحت ضغط الغيرة الاجتماعية والخوف من عقوبة الأهل. في العام القادم، يقول الطالب إنه يريد إعادة دراسة الثانوية لرفع علاماته.

الاحتفال بالنجاح، في كثير من الأحيان، هو نوع من الاحتفال بعدم الرسوب، وبالتخلص من عواقب ذلك نفسيًا واجتماعيًا. حتى إن هناك من يفرح، وهو يعرف أن درجاته لا تؤهله لدخول أي فرع جامعي، ومع ذلك يحتفل، وهو لا يعرف لماذا!! وقصص بعض الأمهات، اللواتي يسألن عن نتيجة امتحان أبناء “غريماتهن”، قبل نتيجة امتحان أبنائهن، معروفة، ويتندر بها غالبية السوريين، ولا ننسى “المجاكرات” التي تحصل في مجتمعنا، بين الخالات والعمّات، حول مجموع علامات الأبناء. 

في البلدان التي تسيطر عليها ثقافة الاستبداد يعبرُ الاهتمام بالمجال الخاص (نجاح الأولاد، شراء بيت، حفلة زواج..) إلى المجال العام، كنوع من الوجاهة المزيفة، حيث الناس يحبّون “التباهي” أمام الآخرين، وفي بعض الأحيان، “التعالي” على مجتمعهم القريب. وهذا كلّه لخلق “مكانة” وهميّة، فقدَها كثيرٌ من السوريين بسبب تغوّل المؤسسات الأمنية الأسدية على المجتمع، وتنزيل قيمته إلى أدنى درجة ممكنة. طبعًا، الاحتفال بنجاح الأولاد أمرٌ مفهوم، والكلّ يحتفل به، وهذا حقّ لهم، بل هو أمرٌ مطلوب، لمكافأة الأولاد على تعبهم، ولكن الحديث هنا عن تحويل هذا الاحتفال، من المجال الخاص والعائلة، إلى المجال العام، وبالأخص على وسائل التواصل الاجتماعي في (فيسبوك) و (إنستغرام) وغيرها.      

لا أريد أن أنغّص على المحتفلين بنجاح أولادهم، ولكني أريد أن أذكّر بأنّ النجاح لا يعني أن الأبوين ناجحان بالضرورة، كما يُبطن الاحتفال بذلك، وبأن ثقافة شراء المراقبين ومديري المراكز الامتحانية، وقبول الوالدين بأن يحصل الأبناء على مساعدات غير عادلة، هي ثقافة شبه مسلّم بها في المجتمع السوري، وبأنّ هذه الأمور من منتجات ثقافة الاستبداد التي تُعلي من قيمة الخير الخاص وتهمّش الخير العام، وذلك لتدجين المجتمع ورشوته عبر السماح له بالحصول على مكاسب، ولو بطريقة غير عادلة.

في الثقافة السياسية والاجتماعية الرفيعة، ليس للإنجازات الشخصية أيّ قيمة في المجال العام. أما التحرر من الاستبداد فله طرق عدة، لعلّ من أهمّها التحرر من ثقافته.