حدثان بارزان قفزا إلى سدة الاهتمام في تل أبيب ودمشق، في الأيام الأخيرة، المحور بينهما موسكو، قصَدها أولًا وزير خارجية إسرائيل يائير لابيد، ثم بشار الأسد رئيس النظام السوري، الحدثان فيهما قراءات ليست جديدة للواقع العربي، وخصوصًا الموقف الروسي من دعم نظام الأسد، ومشاركته في عمليات قتل السوريين منذ التدخل العسكري الروسي المباشر على هذا الخط، في أيلول/ سبتمبر 2015، للعمل على تثبيت نظام الأسد، بعد تخلخل أركان حكمه إثر اندلاع الثورة السورية. السياسة الروسية في الملفّ السوري والمنطقة العربية شكّلت قفزة نوعية في سنوات الربيع العربي، لتكريس دعم الدكتاتوريات والطغاة، وما كان يدور همسًا أو في غرف مغلقة، عن متانة العلاقة والتحالف الروسي الإسرائيلي، أصبح برنامج عمل مشتركًا للكرملين وتل أبيب ونظام الأسد، وضرورة ملحّة في كل حال.
لم تتعدد الرؤى والتحليلات الروسية الإسرائيلية في الملفّ السوري، المناقشات والطروحات التي يجريها المسؤولون الإسرائيليون في موسكو مع نظرائهم تمخض عنها “أولوية روسية لأمن إسرائيل في التسوية السورية، بحسب تصريحات لافروف مع يائير لابيد في موسكو، وأن هضبة الجولان المحتلة ليست للنقاش، وسورية مع حكم الأسد للسنوات السبع القادمة لن تكون منطلقًا لأي هجمات على إسرائيل، باستمرار التنسيق المشترك بين تل أبيب وموسكو في سورية”. هذه المواقف ليست حديثة، إنما إفراز طبيعي لجهود الحكومة الاسرائيلية السابقة بزعامة بنيامين نتنياهو، مع فلاديمير بوتين، وبوضوح ودقة أكثر، لعبت موسكو الدور المحوري لثبيت مصالح إسرائيل في سورية، من خلال تثبيت نظام الأسد وتمكينه من السيطرة على الأرض، بعد محاربة العدو المشترك (الإرهاب) للتحالف الثلاثي في موسكو وتل أبيب ودمشق، وإضفاء بعض الشرعية على كل عدوان تقوم به إسرائيل على الأراضي السورية، ما دام أنه لا يستهدف النظام وأدواته الباطشة بالشعب السوري على الأرض.
ما حبلت به السنوات العشر الماضية، من السياسة الروسية في سورية، أنجب “إعجابًا” لافتًا من بعض النخب العربية التي تدور في فلك نظام الأسد. وما استتبعته هذه السياسة، من كوارث على ملف الثورات العربية، وعلى ملف القضية الفلسطينية، أدى إلى تعريضهما لمخاطر حقيقية وفرز للتيارات والاتجاهات المتعددة، الأمر الذي أدى غالبًا إلى تدمير البروباغندا الروسية، كقطب يشكل ندًا للسياسة الأميركية والغربية. تفوقت موسكو بالعمل بنسخ “إمبريالية” تختلف عن الأميركية بغلاظتها السياسية، وتتطابق معها في وحشيتها وقمعها، إن كان بالتدخل العسكري المباشر بتشكيل العصابات والمرتزقة، أو بعلاوة استخدام حق النقض ضد القرارات الدولية التي كان من شأنها حماية أرواح ملايين السوريين. لكن التخويف الروسي المستمر من الديمقراطية ومن بدائل الطاغية، وتكالب التآمر على الشعب السوري، وإيغال الآلة العسكرية الروسية بسورية، ثبّت كثيرًا من البديهيات عن السياسة الروسية.
وكي نخرج من العموميات إلى قليل من التفصيل، نقول: الخطوات الروسية على الأرض في سورية وُضعت على أساس نصائح مشتركة، بين تل أبيب وموسكو، وتشير كلها إلى محاولة تدجين الشعب السوري للسير خلف خاطف حياتهم ومستقبلهم، بعد بلوغ موسكو تثبيت هدف احتلالها على الأرض، ولم يكن الوصول إلى مثل هذه السياسة والممارسة العملية للنظام على الأرض من دون المسؤولية “التضامنية”، بين موسكو وتل أبيب، كما لفت وزير الخارجية الروسي لافروف لنظيره الإسرائيلي لابيد “إلى أن العسكريين الروس والإسرائيليين يبحثون بشكل يومي المسائل الفنية المتعلقة بهذا الموضوع”.
التشويه المتعمّد الذي مارسته موسكو، لحرية وكرامة الشعب السوري، من خلال القمع والإرهاب والقتل والتدمير الذي شاركت ودعمت فيه نظام الأسد، حصدته إسرائيل، وما يلفت الانتباه وعناء البحث والدراسة والتحليل هو غياب السياسة الروسية عن ملفّ القضية الفلسطينية، الذي يدّعي محور الأسد وممانعته تبرير البطش بالشعب السوري لأجلها، وتتأكد هذه الدلالات، عندما نلقي نظرة على سلسلة المواقف التي تفجرت مع الثورة السورية، بغلاظتها السياسية وعنجهيتها العسكرية، لحماية نظام الأسد، وتختفي تمامًا عند كل محطات العدوان الإسرائيلي في فلسطين، بينما مخالبها تكبر على جسد الجغرافيا السورية.
على العكس تمامًا، تظهر السياسة الروسية نحو تل أبيب تحالفًا متينًا، ينبع من الإيمان المشترك بعقيدة هزيمة حرية الشعوب. وبخلاف التعاطي الروسي مع نظام بشار الأسد، كتابع لإدارة الاحتلال الروسي في الكرملين، ظهر وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي لابيد، كما زيارات نظرائه في الحكومات السابقة، وهو يحظى بحفاوة التبجيل والوعود والدعم، وبدا الأسد في موسكو، كما زياراته الثلاث، ذليلًا مسلوب الإرادة والسيادة، في تكراره عبارات الثناء على محتلّ روسي شاركه في تدمير أرضه وتشريد شعبه، وحالة الانتشاء بمديح الدكتاتور الروسي للسوري بإنجازه نصرًا انتخابيًا وعسكريًا تصحّ تسميتها “قمة المهزلة”.
من هنا، فإن الحضور الدبلوماسي الإسرائيلي في موسكو والعكس هو تعبير عن عمق تغلغل المصالح المشتركة الذي توجته عديد الاتفاقات على قاعدة صلبة، تضمن ديمومة المحتل، وفي حضور الأسد الدبلوماسي بموسكو عنوان لصورة مقززة نافرة عن التبعية والوصاية، لكن لا اختلاف في أن المظلة الروسية باقية لتحمي الاحتلال والوكيل في دمشق.