أقام مركز حرمون للدراسات المعاصرة عبر البث المباشر، الثلاثاء 7 تموز/ يوليو 2020، ندوة بعنوان “وسائل التواصل الاجتماعي بين الحرية وضبط المعايير“، شارك فيها كل من د. عمرو نجار، الأكاديمي ومُعدّ برنامج “ديستوبيا عربي”، ومعن البياري، رئيس قسم الرأي في صحيفة (العربي الجديد)، وأدارها الإعلامي نبيل شوفان.

سلطت الندوة الضوء على سلبيات وإيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منبرًا مفتوحًا لتناقل الآراء والأخبار والمعلومات، ولعبت أحيانًا دورًا في مراقبة أو مساءلة الحكومات، كما كان لها دور في الثورات العربية، بالإضافة إلى مساهمتها في انتقال بعض المشكلات المجتمعية إلى الفضاء الافتراضي، كالمساهمة في نشر الشائعات، وتوسيع خطاب الكراهية، واستسهال الحروب المعنوية، والاحتفاء بالعنف أحيانًا.

وفي بداية الندوة، تحدث معن البياري عن إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على توفير منبر حر لنشر الأفكار والمضامين، خاصة في “المجتمعات العربية المختنقة والمقيدة منذ عقود”، على حد وصفه، التي تعاني كثيرًا من القيود والأطر الاجتماعية والسياسية والدينية التي تمنعها من التعبير عن أفكارها، لافتًا النظر إلى أن الفضاء الافتراضي استطاع، في مدة زمنية بسيطة، اجتذاب فئات من الشباب ومن المتقدمين في العمر الذين كانوا يتعاملون مع الوسائل التقليدية سابقًا ثم انخرطوا في المجتمع الافتراضي. ونبّه البياري إلى أن وجود بعض السلبيات في وسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن أن يُعمينا عن الحاجة إلى الحرية التي وفرتها هذه الوسائل، شريطة أن تتوازى هذه الحرية مع المسؤولية، إلى جانب ضرورة وجود القوانين التي تحمي ضحايا مستخدمي هذه الوسائل من الانتهاكات التي قد يتعرضون لها، وأشار إلى أن هذه الضوابط موجودة في القوانين والتشريعات الخاصة بالنشر بالطرق التقليدية سابقًا، بينما تعيش وسائل التواصل الاجتماعي حاليًا تحديًا كبيرًا تشريعيًا وقانونيًا، ولم تصل إلى مرحلة تتعزز معها التشريعات الكافية لضبط التجاوزات والتحريض وغيرها من الانتهاكات.

من جانبه، تحدث عمرو نجار عن إمكانية قوننة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ووضع معايير اجتماعية وسياسية لاستخدامها وكيفية صياغة هذه المعايير، موضحًا أنه من المهم جدًا -عند الحديث عن هذا الأمر- أن ندرك أننا نتحدث عن مجتمعات افتراضية تمتلك آليات ذاتية للتحكم، تمكّن المستخدمين من تقييم المحتوى المنشور، إن كان مسيئًا أو فيه انتهاك لحرية ما. وأضاف: “الجدل الدائر حاليًا هو حول فكرة أن هذه الآليات الموجودة سلفًا غير كافية، بسبب تسييسها أو انحيازها في بعض القضايا، أو عدم قدرتها على منع بعض الممارسات كالتنمر. ومن الحلول المطروحة لمعالجة هذه المشكلة، أن يتم تطوير قدرة هذه الوسائل على كشف هذه التجاوزات الفردية، كتضمين وسائل التواصل بخوارزميات قادرة على كشف الأخبار المزيفة وغير المعتمدة من وكالات الأنباء الرسمية، وهناك بعض الدول التي بدأت بسن بعض القوانين الناظمة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، مثل بريطانيا التي سلكت هذا الاتجاه، نتيجة حالة تنمّر تحولت إلى قضية رأي عام”.

ورأى نجار أن قوننة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الحكومات قد يزيد من سلطتها وقيودها المفروضة على حرية التعبير، لكنه أكد أن موضوع سنّ تشريعات وقوانين ليس بأمر جديد، حيث كانت هناك تشريعات وضوابط للصحافة والإذاعة والتلفزيون ولشبكة الإنترنت أيضًا، والأمر هنا متوقف على طبيعة الحكومة.

وناقشت الندوة إمكانية أن تنجح وسائل التواصل الاجتماعي في فرض نفسها، كوسيلة لممارسة ديمقراطية مباشرة، على غرار بعض الحركات العالمية في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا. وأشار البياري إلى ضرورة التمييز بين الديمقراطية من ناحية، وبين الحرية التي تنتجها وتوفرها وسائل التواصل الاجتماعي من ناحية أخرى، وهي تعطي مؤشرات عن طرق التفكير وخيارات المجتمعات واكتشاف المزاج العام، لكن الديمقراطية هي عمل مؤسساتي له نظم وهيكليات قانونية وبناء سياسي مختلف عن مفهوم الحرية. ولفت البياري إلى أنه ليس المطلوب من النخب المثقفة السيطرة على الجمهور في وسائل التواصل الاجتماعي، لأن مهمة المثقف تنحصر في التنوير ونشر الوعي والثقافة، لا في السيطرة والتوجيه باتجاه رأي معين.

وسلّطت الندوة الضوء على قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على المحافظة على مسافة واحدة من جميع التوجهات الفكرية والإيديولوجية، في ظل إتاحة هذه الوسائل خدمات الدعاية السياسية. ويرى نجار أن هناك ثلاث مشكلات طرحتها وسائل التواصل الاجتماعي في موضوع الديمقراطية والحرية تحديدًا، الأولى هي وجود خوارزميات تحاول استغلال الذكاء الاصطناعي من أجل توجيه الرأي العام، كما حصل خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، من خلال إنشاء حسابات وهمية تنشر رأيًا عامًا مصطنعًا، للتأثير في المزاج العام للجمهور. والمشكلة الثانية هي امتلاك وسائل التواصل الاجتماعي لكم كبير من البيانات والمعلومات التي قد يتم تسريبها أو بيعها لجهةٍ ما، بهدف تحقيق مكاسب في الدعاية الانتخابية، وهذا أمر يشكل خطرًا كبيرًا على الديمقراطية ويتلاعب بها. أما المشكلة الثالثة فهي إمكانية أن تكرس وسائل التواصل الاجتماعي فكرة الديمقراطية المباشرة، وتحول الديمقراطية إلى حالة شعبوية تُقصي النخب والمؤسسات السياسية.

ومن جانب آخر، ناقشت الندوة موضوع العواطف والغرائز التي تحكم عالم وسائل التواصل الاجتماعي بعيدًا عن العقل والمنطق، خصوصًا في القضايا المصيرية كموضوع أسلمة وعسكرة الثورة السورية، وكيفية تغلب المجتمعات على هذه المعضلة. وحول ذلك، أشار البياري إلى أن موضوع أسلمة وعسكرة الثورة له سياقات اجتماعية وميدانية واقتصادية، مستبعدًا أن يكون توجّه بعض السوريين إلى حمل السلاح، خلال مرحلة معينة من الثورة، بسبب تأثير وسائل التواصل الاجتماعي.

وتطرقت إلى موضوع انتشار الشتيمة في وسائل التواصل الاجتماعي، وإمكانية توصيفها في المجتمعات العربية كحالة عدم وجود حيلة سواها للتعبير عن الرفض والغضب، وتحولها إلى أداة للنقاش داخل دائرة القبول وخارج تصنيفها كعنف لفظي. ويرى البياري أن الشتيمة هي فعل احتجاجي ووسيلة للتعبير عن القهر في مواجهة القوة والسلطة، خاصة تلك الشتيمة التي تمتزج مع السخرية، لكن في المقابل يحق للبعض التحفظ على الشتائم التي تخدش الحياء العام.

كما ناقشت دور وسائل التواصل الاجتماعي تجاه المرأة وقضاياها: أدعمتها أم كرّست الذكورية والتخلف، وأشار البياري إلى وجود العديد من الحركات على وسائل التواصل الاجتماعي الداعمة للمرأة بحماس، وإلى ضرورة حصولها على كامل حقوقها وحريتها، في المقابل هناك العديد من الحركات المعاكسة التي تمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة ومنصات نافذة ومؤثرة. وأضاف: “الصدام بين الفكرتين حاضر وبقوة، لكن هذا الأمر مفيد في تحريك المجتمع وإحداث تحولات في القناعات وتعديلها، خاصة بين الجيل الناشئ البعيد عن الطريقة التقليدية في التفكير. وفي المحصلة؛ أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي دعمت المرأة إلى حد بعيد لكن من دون مبالغة”.

في السياق ذاته، ناقشت الندوة كيفية تبنّي وسائل التواصل الاجتماعي لمعايير تصبّ في مصلحة المرأة وتدعمها، ورأى نجار ضرورة ألا نحمّل وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما تحتمل، والغرق في موضوع “الحتمية التكنولوجية” التي تقوم على مبدأ صناعة المجتمع من قبل التكنولوجيا، مبيّنًا أن العلاقة يجب أن تكون تبادلية بين الخطاب المطروح ووسائل التوصل الاجتماعي. وأضاف: “لا يمكننا القول مثلًا إنه بسبب (فيسبوك) أصبح هناك خطاب كراهية ضد المرأة، لأن هذا الخطاب موجود ومنتشر في مجتمعاتنا قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وما تفعله هذه الوسائل هو عرض هذا الخطاب مع إمكانية التفاعل أو عدم التفاعل معه”.

بدوره تحدث البياري عن كيفية وضع معايير واحدة لوسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعات مختلفة عن بعضها البعض في الثقافات والحريات، في ظل وجود العديد من النساء السوريات في المجتمع الغربي وانتقالهم إلى مستوى متقدم من الحرية بشكل يختلف عن السائد في عائلاتهم ومجتمعاتهم في سورية، ورأى أن الخطاب المعني بهذا الأمر قد يكون انتحاريًا في بعض الأحيان ويؤذي نفسه بنفسه، حيث إن طرح مواضيع حساسة، كدعم المثلية والتعري كوسيلة للتعبير عن الرأي، سيؤدي حتمًا إلى التصادم مع المجتمع، والمقصود من ذلك أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لا يحقق القبول، بل كيفية هذا الاستخدام التي تؤدي إلى التأثير المتوخى. وأضاف: “في أبجديات الصحافة، تكون طريقة قول الخطاب أهمّ من الخطاب نفسه، لذلك من المهم أن يكون هناك فهم جيد لطريقة الخطاب وآليته وفهم الجمهور وطرق التواصل، أما الخطاب الصدامي والانفعالي فإنه يُحدث ردود فعل عكسية”.

وفي نهاية الندوة، أجاب الضيفان عن أسئلة المتابعين وردوا على تعليقاتهم.