عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ندوة بعنوان “حانن للحرية – الساروت.. الظاهرة والإنسان”، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل منشد الثورة السورية عبد الباسط الساروت، شارك فيها الناشط هادي العبد الله، والباحث مضر الدبس، وأدارها عمر إدلبي مدير مكتب مركز حرمون في الدوحة.

تحدث الناشط هادي العبد الله في بداية الندوة، عن حياة الساروت قبل الثورة، وعن نشأته في حي البيّاضة بمدينة حمص في أسرة بسيطة، تتألف من 9 أفراد يعمل جميعهم في مهنة الحدادة، وقد عُرف بالتواضع والبساطة وطيبة القلب والشجاعة، وبحبّه الأهازيج الشعبية والطرب منذ أن كان يافعًا. وأضاف: “كان الساروت دائمًا يغني في جلسات السمر مع أصدقائه، وساعدته ثقافته الواسعة، بالرغم من عدم إكماله دراسته، في حفظ الشعر وارتجاله. كانت حياة الساروت مليئة بالتحديات منذ صغره، وعندما بدأت تراوده فكرة الانضمام إلى نادي (الكرامة) لكرة القدم، كان مترددًا بسبب حاجة النادي إلى التفرغ، واضطراره إلى مساعدة والده في العمل، لكنه بذل جهدًا استثنائيًا واستطاع التوفيق بين الأمرين، ولمع نجمه في نادي الكرامة، كرمز رياضي وشعبي”.

وتحدث الباحث مضر الدبس، عن تحدي الإنسان السوري لآلة القتل والإجرام، ورفضه أن يكون مؤطرًا في إطار الخوف والذل، وعن رمزية عبد الباسط الساروت، في هذا المعنى، وقال: “دائمًا، كان هناك تشابه بين الساروت والثورة في الحالة الإنسانية، فكما كان الساروت شخصية طيبة، وبسيطة ومعقدة في وقت واحد، كذلك هي الثورة السورية التي خرجت بداية طلبًا للحرية، وهتفت بوحدة الشعب السوري، ثم تعقدت بعد ذلك”. وسلّط الدبس الضوء على ثقافة الساروت وشغفه بالمعرفة التي انطلق بها من الواقع، وقال: “أحد أهم مشاكل الثورة هو الإملاءات التي كانت تأتي من فوق، وما أدركه الساروت، بهذه السليقة الجميلة والإحساس الإدراكي، ندركه الآن بالألم، إذ أدركنا أن الجميع كان يحاول فرض أجنداته من فوق، بينما كان الساروت ابن الأرض، وكان ينظر إلى الأمام، ويرشدنا أين نقف، لذا كان دائمًا بين الناس”.

ورأى الدبس أن قيام الثورة أحدث علاقة جديدة بين الذات والموضوع، وأن كل النظريات التي قُدّمت من مفكرين أو منظرين أو سياسيين فشلت في تحريك الشارع، وفي النهاية ما حرّك الشارع هو ذاته، لافتًا النظر إلى أن علاقة الشارع بالثورة السورية كانت مميزة جدًا، كعلاقة الفنان بمنتجه الفني، إضافة إلى وجود كثير من الأدوات الفنية والرموز، والساروت كان أحدها.

تطرقت الندوة إلى النجومية التي حققها الساروت في نادي الكرامة، وعلاقته الطيبة بالجمهور، ولا سيما رابطة المشجعين، وكيف شكلت هذه الأمور أرضية خصبة ليعتلي الساروت أكتاف الثوار محبوبًا. وأشار العبد الله إلى أن الساروت كان يمتلك كاريزما خاصة، مكّنته من امتلاك قلب جمهور نادي الكرامة، ووضع بصمته التي لا يمكن تجاهلها أبدًا، من خلال طريقة تفاعله مع اللاعبين والجمهور، فكان قادرًا على تحريك حماسة الجمهور، في كل الأحوال. وأضاف: “الموقف الذي اتخذه الساروت من الثورة جعله يترك كلّ المجد الذي حققه في كرة القدم، وكانت رغبته في مساعدة عائلته حافزًا وجزءًا من رغبته في التميز والنجاح، لكنه تخلى عن كل ذلك، معتبرًا أن تفضيل نفسه على الناس والجمهور الذي صنعه وشجّعه خيانةٌ لهم ولنفسه في الوقت ذاته. لقد كان الساروت صادقًا جدًا مع نفسه، ووصل إلى مرحلة عظيمة من التصالح مع الذات، وهذا ما ساهم في نجاحه، كإنسان وكلاعب، ثم كثائر”.

بدوره، لفت الدبس إلى أن نجومية عبد الباسط الساروت، في نادي الكرامة، جعلته قادرًا على استقطاب جميع الفئات الاجتماعية والعلمية، واستطاع أن يجمع العامل مع الطبيب، والإسلامي مع الملحد، وكوّن ما يسمى في علم النفس بشبكة الثقة، وهذه الشبكة قادرة على أن تتحول في مرحلة معينة إلى شيء مهم جدًا في المجتمع المدني، من خلال إقامة علاقات لا تقوم على الصهر أو دمج البشر ببعضهم، بل على تجسير علاقة البشر فيما بينهم. وأضاف: “عندما نرى الساروت بجانب فدوى سليمان في التظاهرات؛ نلاحظ كيف أنه مارس أو طبّق بشكل عملي مفهوم (الشعب السوري واحد)، لأنه يمتلك تفكيرًا مدنيًا عمليًا قادمًا من فطرة سليمة وإدراك حسي سليم”.

وسلطت الندوة الضوء على الجانب الفني في الثورة السورية، وعلى الدور الذي لعبه الساروت في هذا المجال، ولا سيما أنه كان محبًا للأهازيج منذ صغره، وكيف استطاع تسخير هذه الموهبة والقدرة الكبيرة على الارتجال في خدمة الثورة، وتأليف أناشيد ثورية، كان أولها وأبرزها أنشودة (يا وطنّا ويا غالي) التي ألهبت حماسة الناس بشكل كبير، فكان بذلك النموذج السوري للمفكرين والفنانين الذين قادوا كثيرًا من الثورات في العالم، واستطاع أن يترك بصمته الوجدانية في قلب الثورة. وفي هذا الخصوص، قال الدبس: “أنْ تكون ثائرًا وفنانًا في الوقت نفسه معناه أن تستخدم الإبداع الشخصي في خدمة قضية عامة، والفن دائمًا هو ابن الثورة ويتناسب معها، وقادر على أن يوصل إلى العقول ما يصعب إيصاله، ويتجلى ذلك في قدرة الفن على التأثير في الحراك الثوري والناس أكثر من البيانات السياسية. وعندما يكون هناك فنانٌ مثل الساروت، تربطه بالجمهور علاقة محبة، فهو لا يعبّر عن عواطفه فقط عندما يغني، بل يعبّر أيضًا عن عواطف الجمهور ويؤثر في وجدانهم”.

وتحدث العبد الله عن شجاعة الساروت، خلال المرحلة الأولى من الثورة، حيث كان أول من كشف عن وجهه وهو يهتف في التظاهرات غير آبهٍ ببطش النظام وإجرامه، وكان قادرًا على توظيف الشعبية التي كان يحظى بها في نادي الكرامة، في تحريك الشارع السوري وقيادته. وتطرّق أيضًا إلى شخصية الساروت الجندي أو المقاتل، وتعاطيه مع مسألة السلاح، وقال: “الساروت مثله مثل كثير من الثائرين الذين اضطروا إلى حمل السلاح، للدفاع عن أنفسهم، بسبب وحشية النظام وإجرامه، منذ الأيام الأولى للثورة، وقتله للمتظاهرين بالرصاص الحي، واختطاف الشبان والنساء من أهالي النشطاء، من أجل الضغط عليهم.. في الحقيقة، عاش الساروت فترة صراع كبيرة، بين بقائه مع التظاهرات السلمية التي أحبّها وأنشد بها واستطاع من خلالها أن يقود الشارع، وبين أن يحمل السلاح ويكون على جبهات القتال، حتى عندما تحوّل إلى مقاتل، كان بارعًا وشجاعًا في ما يفعله، كعادته، ففي التظاهرات السلمية كان أول من كشف عن وجهه وقاد التظاهرات، وعندما حمل السلاح كان دائمًا في الخط الأول، وحاول أن يوفق بين التظاهرات والقتال على الجبهات، فكان يقطع مسافات طويلة وخطرة كي يشارك في تظاهرات يوم الجمعة، ليعود بعدها للقتال في الصفوف الأمامية. ومن الأهمية أن نذكر أن كثيرًا من المقاتلين كانوا يرغبون في القتال مع الساروت، بسبب روحه الحماسية وقدرته على تحفيز المقاتلين ورفع معنوياتهم، حيث كان يمتلك شجاعة كبيرة دفعته في إحدى المرات إلى تنفيذ عملية اقتحام بدون سلاح، واستطاع الاستيلاء على سلاح عناصر النظام، وأكمل القتال”.

وناقشت الندوة، أيضًا، موضوع التقلبات الذهنية التي عاشها السوريون، بسبب إجرام النظام ووحشيته، وظروف انتقال الساروت من فنان وشخص مرهف إلى مقاتل، وكيف استطاع أن يؤثر إحساسه العالي وروحانيته في شخصية عبد الباسط المقاتل. ورأى الدبس أن توصيف الساروت بالمقاتل فيه نوع من القسوة على الساروت، وعلى عموم السوريين الذين اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم أمام همجية النظام غير المسبوقة، التي لا يملك أي إنسان أمامها إلا أن يحمل السلاح ويدافع عن نفسه. وأضاف: “من المفيد أن نشير هنا إلى نقطة مهمة، وهي أن تقلّب السوريين وانتقالهم من الحبّ والفن والغناء، إلى حمل السلاح، له سبب آخر -بالإضافة إلى إجرام النظام- وهو المعارضة، فثبات منهجية المعارضة ضمن المعنى السياسي وعدم تغييرها، هو الذي دفع السوريين إلى البحث عن طرق غير سياسية، كي يحققوا أهداف الثورة، فلو كان السياسيون على قدر هذه الثورة بالفعل، واستطاعوا تحقيق أي تقدم؛ لما اضطر السوريون إلى حمل السلاح”.

وفي الختام، لفت العبد الله إلى أن السوريين وجدوا في الساروت رمزًا ثوريًا حقيقيًا، لا سيّما أن الثورة كانت بحاجة إلى من يقودها، واستطاعوا، من خلال الساروت الفنان والرياضي والثائر، أن يثبتوا للعالم أنهم أصحاب قضية محقة. فيما وجد الدبس أن ما جعل من الساروت رمزًا، هو الحميمية الوطنية التي جمعت بين الساروت والسوريين، التي جعلتهم يُلبسون وجدانهم على سلوك الساروت، إضافة إلى قدرة الساروت على تعليم السوريين بأن الاختلاف يصنع وطنًا، لأن أساس فكرة الحرية مبني على الاختلاف الجميل.

وفي نهاية الندوة، دار نقاش مفتوح أجاب خلاله الضيوف عن أسئلة المتابعين وتعليقاتهم.