منذ مئة وخمسين عامًا كانت بلاد الشام سباقة في التعرف إلى الظاهرة المسرحية قبل البلدان العربية جميعها، عبر الاقتباس من المسرحَين الإيطالي والفرنسي. ومما يؤسف له حقًا هو التأخر في الكشف عن تجربة (أبي خليل القباني) بصورتها الكاملة، وهو الذي انطلق من دمشق إلى شيكاغو حاملًا معه شكلًا ومضمونا مسرحيًّا بقي طي النسيان لسنوات طويلات.
ونتيجة لكثير من التعقيدات السياسية، والأحداث الكونية الخطرة – بمثل الحرب العالمية الأولى وما نجم عنها من نتائج – لم تستطع النوادي السورية الفنية أن تستأنف نشاطها إلا بعيد “الثورة السورية الكبرى” عام 1925. ولقد غلب على نشاط هذه النوادي في ذلك الوقت طابع الاسكتشات الفكاهية والغناء والرقص والتسلية، لكنها لم تكن مبتذلة أبدًا. بل كثيرًا ما كانت مشاكسة لسلطات الاستعمار الفرنسي.
بالقرب من (محطة الحجاز) وسط دمشق كانت تقام العروض في صالات عدة، أبرزها صالة سينما (فريال) وصالة سينما (عايدة) يومي الخميس والجمعة فقط. وكانت العائلة تستطيع حجز صف كامل من المقاعد لأفرادها جميعهم. ومن الأمور التي كانت مألوفة أيضًا أن يجتمع هذا الجمهور قبل العرض أمام الصالة للتحدث عن “الوضع العام”، وليس بالضرورة أن يكون الحديث منصبًا على العرض الفني ذاته.
وفي الطرف الآخر من المدينة، كان ثمة جمهور من نوع آخر في مقهى (النوفرة) ومقهى (العمارة) اللذين كانا يقدمان (كركوز وعواظ والحكواتي) في شهر رمضان خاصة. إلا أن هذه العروض غالبًا كانت مصحوبةً بالراقصات والمغنيات و(لاعبي الخفة)، وهي أقرب إلى عروض الترفيه وألعاب السحر منها إلى المسرح. ومع ذلك فقد كانت (فرقة المسرح الحر) وغيرها من الفرق الناشئة قادرة على تقديم عروض أقرب إلى العروض المسرحية بالمعنى الدقيق لكلمة المسرح.
أما رعاة الفرق المسرحية فكانوا من بين أهم الشخصيات الوطنية والاجتماعية. وكان كبيرو رجال الدولة يحضرون العروض، ويقدمون المساعدات، ويحمون النوادي والفرق من بطش الاحتلال الفرنسي.
وبمرور الوقت، ظهر عدد من الفرق المسرحية في دمشق وحلب ومدن سورية أخرى، فكان بمنزلة التمهيد الضروري لثلاثة أحداث استثنائية مهمة، يتعذر على المؤرخ والناقد أن يستكشف المضمون الجوهري للخبرة المسرحية السورية من دون فهمها، والوقوف على الملابسات والأحداث التي رافقتها؛ أولها تأسيس (مهرجان دمشق للفنون المسرحية) عام 1969 من جانب نقابة الفنانين التي كانت ما تزال حرة ومستقلة عن هيمنة الحكومة السورية. وثانيها افتتاح (المعهد العالي للفنون المسرحية) عام 1977. وثالثها تظاهرة (دمشق عاصمة للثقافة العربية) عام 2008 التي حاول النظام من خلالها تحسين صورته.
ولكن هذه الإنجازات لسوء الحظ أُفْرِغت من مضمونها سلفًا، لأن بواكيرها جاءت متزامنة مع استيلاء (حافظ الأسد) على السلطة الذي بادر من فوره إلى تخويل حزب البعث كل ما يلزم من سلطة لتكوين فرقة مسرحية لكل منظمة شعبية في كل مدينة سورية، وعقْد مهرجان مسرحي سنوي مستقل لها أيضًا. وبذا لم يعد من وظيفة للمسرح العمالي ومسرح الشبيبة ومسرح الطلائع والمسرح المدرسي والمسرح الجامعي إلا وظيفة التلقين الأيديولوجي لعظمة الدكتاتور الفرد في نفوس الناشئة والشبيبة السوريين، بعد أن كان المسرح الجامعي في الستينيات، على سبيل المثال، من أغنى المسارح بالشخصيات المبدعة والمواهب الفريدة.
وكانت الضربة اللاحقة للمسرح السوري صدور القانون رقم 10 مطلع التسعينيات الخاص (بالاستثمار الفني)، وكان من نتائجه تراجع النشاط المسرحي في مقابل تنشيط (الدراما التلفزيونية). ولم يكن المطلوب أبدًا إهمال فن الدراما التلفزيونية، بل أن يترك إحداث التوازن بين هذين الفنين للمتخصصين بوضع الاستراتيجيات الثقافية. إن هجرة كثير من المشتغلين في المسرح من الخشبة إلى الدراما التلفزيونية صاحبها ازدهار في الكتابة الإبداعية للمسرح، وهكذا تواصل ظهور كتاب جدد تحولوا إلى ما يشبه النجوم في أذهان القراء، نعفي أنفسنا من ذكر الأسماء حتى لا نهمل أحدًا منهم.
وفي عام 2008 شرع المسرحيون السوريون بإنتاج عروض خارج العلبة الإيطالية في بعض الأماكن البديلة في مدينة دمشق. وفي الوقت نفسه تقريبًا لعب المعتقلون السياسيون – في سجن صيدنايا الرهيب، والمعتقلات السياسيات في سجن دوما البغيض – دورًا مهمًا في التمهيد لثورة الحرية والكرامة في المستويات الفنية والأخلاقية والسياسية من داخل محابسهم عبر ما أنتجوه من أشكال مسرحية مبتكرة جديرة بالدرس والتقويم. وقد شكلت في مجملها تجربة فريدة في مخاطرتها، فتحولت بذلك إلى شهادة نادرة على الالتحام بين صلابة الإرادة ويقظة الحواس الفنية، وهو ما لم نشهد له مثيلًا في تجارب المسجونين السياسيين من قبل.
وبعد عام 2011 تجذر الميل نحو الخروج من العلبة الإيطالية، فغادرها المسرح مع متفرجيه باحثًا عن ساحات عامة وأماكن لم يرتدها المتفرج من قبل. وقد أتيح للمسرحيين السوريين الذين هاجروا بأعداد كبيرة بعد عام 2011 الاحتكاك بتجارب مسرحية جديدة في بيئة سياسية يسود فيها النمط الديمقراطي في قيادة الدولة، وفي بيئة اجتماعية تضمن للإنسان حقه في التميز والتفرد، ما مكنهم ابتكارَ أشكال مسرحية تتسم بالنفور من العلبة الإيطالية المغلقة، مع انفتاح – يكاد يكون لانهائيًا – على الفضاء العام الذي تحول بمجمله إلى نوع من الخشبة الكونية التي وجدت تجسيدًا لها في كبريات ساحات المدن الأوروبية العصرية، وفي الفضاءات الحزينة والكئيبة لمخيمات اللجوء السوري في البلدان المجاورة. وقد وقع هذا الانفتاح من غير أن تكون قطيعة بين بعض الأشكال المسرحية التي ابتدعها السوريون، وخشبات بعض المسارح التقليدية في أوروبا، لاقتضاء هذا الشكل أو ذاك أن يؤدى على خشبة تقليدية. هذا الانفتاح للتجربة المسرحية السورية الجديدة هو شكل من أشكال الخروج من العلبة، وهو ما يفسر لنا التقارب الملحوظ بين كثير من هذه التجارب الجديدة وأشكال التظاهر السلمي للشباب السوري في العام الأول من عمر الثورة في ساحات المدن السورية، تظاهر واجهه النظام بأشد الإجراءات عنفًا وقمعًا.
يعني الخروج من المسرح أو مغادرة المسرح أيضًا الخروج من ظلام العلبة الإيطالية، وهو ما شاهدناه في فضاء مخيمات اللجوء في لبنان والأردن، وهي تجربة تضعنا وجهًا لوجه أمام التساؤل عن العلاقة بين الجمهور وطبيعة الممارسة المسرحية ذاتها، ما يسمح لنا بدرس هذه الظاهرة انطلاقًا من مفهوم (مسرح المقهورين).
وفي السياق ذاته؛ سياق مغادرة المسرح، اكتسب عدد من أشكال التظاهر والاحتجاج في مناصرة الثورة السورية في الخارج أشكالًا أدائية علنية تختزن كثيرًا من المضامين السياسية والقيم الجمالية. إنها أشكال أدائية علنية يؤديها لاجئون أمام جمهور المواطنين في البلدان المضيفة. ولذا نحن هنا بإزاء نوع من (مسرح الشهادات) الذي يتحرك فيه الممثلون بين المتخيل والواقعي.
وقد لايكون من الإنصاف الاصرار على حصر الإبداع المسرحي السوري في المهجر ضمن شكل أو أشكال مسرحية بعينها. فهذه التجربة ما تزال مستمرة ونامية ومتطورة ومفتوحة على إمكانات لا يمكن التنبوء بها بكل تأكيد، لذا لا بد لنا من الإشارة إلى أن سياسات التمثيل تشكل جزءًا لا يتجزأ من الخبرة المسرحية السورية الجديدة، سواء تعلق الأمر بتمثيل المرأة السورية في شتى أحوالها أو بتمثيل الضحية، مع الإقرار غير المشروط بأن الضحية كانت في الغالب سورية، في حين إن الجلادين كثيرون، والنظام في رأس القائمة بكل تأكيد.
محاور الملف
أولًا: المسرح السوري قبل عام 2011
1. الفرق المسرحية السورية من الاستقلال حتى عام 2011.
2. التمثيلات الهزلية للسلطة في المسرح السوري.
3. دور مهرجان دمشق للفنون الدرامية في تبادل وجهات النظر، وتثبيت هوية المسرح العربي.
4. ديناميكية الرقابة على الأعمال المسرحية: قبل العرض وفي أثنائه وبعده. ووعي أجهزة الدولة بخطر المسرح.
5. مناقشة الأدوار المختلفة التي لعبها المعهد العالي للفنون المسرحية في تأصيل التجربة المسرحية السورية، وتطوير الذوق الجمالي.
6. دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008: الفضاءات الجديدة التي فتحتها أمام الفن المسرحي السوري.
7. المسرح خارج المكان: المسرح في السجن، قراءة في شكل العرض داخل السجن وطبيعة الحكايات وعلاقتها مع السلطة.
ثانيًا: المسرح السوري بعد عام 2011
8. أجساد في العلن: جماليات الاحتجاج في الثورة السورية.
9. المسرح في مخيم اللجوء: لبنان والأردن.
10. اللاجئون خارج الخشبة: أشكال الأداء والتظاهر والاحتجاج التي نفذها اللاجئون أمام مواطني البلدان المضيفة.
11. اللاجئون على الخشبة: مسرح الشهادات التي يؤديها اللاجئون بوصفهم مؤدين في الوقت نفسه.
12. المسرح السوري في المنفى: مسرح الحكايات المتخيلة بدلًا من الشهادات الواقعية، عروض تحاول أن تجد لها مكانًا في الساحة الفنية الغربية.
13. سياسات التمثيل: صورة المرأة في المسرح السوري، الأم والأرملة وأم الشهيد والناجية من الاعتقال والناشطة.
14. سياسات التمثيل: صور الضحية في المسرح السوري، قراءة في الأشكال المختلفة للعنف الذي عانته الضحايا من قبل النظام والأطراف الأخرى.
15. سياسات التمثيل: صورة الآخر الأوروبي في المسرح السوري خصوصًا بعد تدخل الأخير في عمليات الإنتاج والتمثيل عبر التمويل.
هذه نظرة سريعة إلى التجربة المسرحية السورية، لا ندعي فيها الشمول والتمام والكمال. لذا فالمحاور السابقة هي مقترحات عامة، ويمكن للراغبين في الكتابة في موضوعات أخرى التقدم بمقترحاتهم، وستلقى كل عناية واهتمام.
للمشاركة في ملف العدد:
1. إرسال ملخص مقترح بحثي لا يتجاوز عدد كلماته 500 كلمة، وذلك حتى موعد أقصاه 10 تموز/ يوليو 2021، على أن تستكمل البحوث في موعد أقصاه 31 آب/ أغسطس 2021.
2. للباحثين حرية الكتابة في أي من الموضوعات المذكورة أعلاه، والتعبير عن رؤيتهم بما يرونه مناسبًا. وسترد عليهم هيئة التحرير خلال أسبوع من تسلم المقترحات بالموافقة أو الرفض.
3. ترسل المقترحات البحثية إلى إيميل رئيس التحرير youssef.salamah@harmoon.org
يرجى من الباحثات والباحثين مراعاة سياسة تحرير مجلة قلمون في المقترحات والبحوث. في ما يأتي رابط سياسة التحرير في مجلة قلمون: https://cutt.us/BoiHU