منذ أن تحقق للإنسان وعيه الذاتي بذاته، لم يلبث الدين إلا قليلًا حتى أصبح جزءًا جوهريًا في الوعي الاجتماعي. هذا الاتحاد بين الوعي الذاتي والوعي الاجتماعي حوّل الدين إلى ظاهرة مركبة ومعقدة. فهو، من ناحية، ظاهرة ثقافية من حيث هو مجموعة من الأفكار والعقائد والقيم والأوامر التي كانت بمنزلة أجوبة عن أسئلة طرحتها البشرية على نفسها في وقت من الأوقات. ولكنه، من ناحية أخرى، ظاهرة اجتماعية، لأن القواعد والقيم والعقائد والأفكار لا تمتلك قيمة ملزمة إلا بعد تعينها في صميم البنى الاجتماعية. غير أن هذه البنى ذاتها قد تتفجر أو تتغير أو تزول بالكامل، ما يجعل البنى الجديدة أو الوليدة مجبرة على إنتاج تأويلات مستحدثة للنصوص القديمة، فيكون ذلك سببًا في تغير دلالاتها، وتعديل وظائفها. ومن ذلك يتبين أن أهمية الدين تتخطى جوانبه العقائدية بعد أن تصبح علائقه بالمؤسسات الاجتماعية وثيقة، وعلى رأسها مؤسسات السلطة السياسية الحاكمة. هذه العلاقة التفاعلية ما بين الدين والمجتمع أو بين المجتمع والدين في سورية هي ما نستهدف إيضاحه وبلورته في هذا الملف.
على مدى ربع قرن من خضوع سورية لسلطة الانتداب، كانت علاقات السوريين مع هذه السلطة في حالة توتر ونزاع دائمين، وذلك راجع إلى تصميم السوريين على استعادة وحدة البلاد، وتحقيق الاستقلال التام عن فرنسا التي كانت قد شرعت بتقسيم البلاد وشرذمتها إلى دويلات طائفية وكيانات ما دون وطنية.
ومن المفيد أن نبين أن (سورية) في أوضاعها الجديدة قد ورثت نخبة كُوِّنت وفقًا للتقاليد العثمانية، وعلى الرغم من ذلك، فإن كثيرًا من الشخصيات المنتمية إلى هذه النخبة كانت على اطلاع ومعرفة بأنماط الحياة في أوروبا، وأساليب التفكير العلمي والسياسي فيها. وهذا ما جعل هذه النخبة تعمل على نحوين مختلفين في قيادة البلاد وبنائها.
تمثل النحو الأول في مجموعة من الساسة والمثقفين الذين أبدوا درجة لا بأس بها من القبول بقيم الحداثة الأوروبية وتصوراتها الاجتماعية والسياسية، فانخرطوا في تأسيس نمط من الجمعيات والأحزاب السياسية التي يمكن وصفها بأنها تشكل نمطًا حداثيًا وطنيًا، حتى ليستحيل على المدقق أن يلمس فيه أي أثر للدين من شأنه أن يكون متعارضًا مع الوحدة الوطنية. وعلى وجه العموم، لقد كانت هذه الأحزاب أقرب إلى أن تكون ليبرالية في تفكيرها السياسي ومسلكها الاجتماعي. ويحسب لها نظرتها الجديدة والمنفتحة إلى المرأة وقضاياها وحقوقها في المشاركة في المجالين الاجتماعي والسياسي على حد سواء.
وأما النحو الثاني، فقد اعتصمت شخصياته بقدر أكبر من التقليدية والمحافظة والحذر في التفكير السياسي والمسلك الاجتماعي. وهذا ما يفسر انهماكهم بتأسيس الجمعيات الإسلامية والمسيحية ذات المرجعية الدينية، أو بتأسيس الجمعيات الخيرية ذات المنحى الإنساني. ومن بين شخصيات هذه النخبة التقليدية من انصرف إلى تأسيس أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية. ويبدو أن أحزاب الإسلام السياسي جميعها إنما ترجع بجذورها إلى العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.
ومهما قيل في حقبة الانتداب، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن سورية وصلت إلى ما يمكن وصفه بأنه (عتبة الحداثة) مع رحيل الانتداب وتحقيق الاستقلال عام 1946.
غير أن هذا الإنجاز لم يكن ليعني بالضرورة أن طريق البلاد إلى الاستقرار والتقدم والديمقراطية قد أصبحت ممهدة.
فمنذ صبيحة الثامن من آذار 1963- تاريخ الانقلاب العسكري الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة- فُرضت على سورية مجموعة من القوانين الاستثنائية، وعلى رأسها حالة الطوارئ وقانون الأحكام العرفية. ولم تزل هذه القوانين معمولًا بها من قبل النظام، ومستخدمة في تسويغ أفعاله الإجرامية. وقد كان لهذه القوانين، وغيرها مما أصدره نظام الأسدين لاحقًا، أبلغ الأثر في تدمير الحياة العامة والخاصة، وإلغاء كافة حقوق الإنسان ذات الصلة بالحريات السياسية والمدنية وتكوين الأحزاب والنقابات المهنية، والاتحادات الحرة الخاصة بالأدباء والفنانين والمفكرين.
وعندما نجح الأسد الأب عام 1970 بالانفراد بالسلطة، من دون خصومه جميعهم، داخل حزب البعث وخارجه، كان قد استكمل هيمنته على كل عناصر القوة الخشنة ممثلة بالجيش والأجهزة الأمنية. ولكنه، مع ذلك، لم يكن قد حصل بعد على أي صورة من صور الشرعية التي تخوله حكم البلاد. فبادر عام 1972 إلى بناء (الجبهة الوطنية التقدمية)، ليحصل من خلالها على (الشرعية الشعبية). وللحصول على الشرعية الدستورية أو القانونية، أمر الأسد بإعداد دستور يكرس سلطته الشخصية المطلقة. وقد أٌقِرَ هذا الدستور في استفتاء (رسمي) عام 1973.
احتوى الدستور على المادة الثامنة سيئة الذكر، وجرّد الشعبَ السوري من حقه في انتخاب رئيس الجمهورية عندما ربط هذا الانتخاب بمجرد استفتاء حول اسم مرشح واحد تقترحه القيادة القطرية.
لم يتنبه النظام إلى أهمية الفضاء الروحي ووضعِه تحت السيطرة مصادفة، إنما لأنه توصل إلى الاقتناع بأن الهيمنة الأمنية والسيطرة العسكرية لا تكفيان لضمان الاستقرار السياسي للنظام وديمومة حكمه، ومن ثم استنتج نظام الأسد أن الهيمنة على السوريين مشروطة بالهيمنة على ثقافتهم. وكان البدء بالدين بسبب ما له من أهمية استثنائية وحساسية طائفية، والمثال على ذلك المرسوم الذي أصدره الأسد الأب بجعل الإنشاد الديني حكرًا على مجموعة من المشايخ ووراثة في أبنائهم الذكور[1]. وبمرور الوقت توسعت محاولات النظام في مساعي الهيمنة على هذا الفضاء الروحي بالتدخل في نشاط شبكات العلماء والجماعات الصوفية وغير ذلك كثير يصعب إحصاؤه. وأهمية الدين الفعلية قد أثبتتها أحداث حماة في الثمانينيات، ومن بعدها لجوء نظام الأسد الابن إلى بناء تنظيمات إسلامية إرهابية، في محاولة منه حرفَ الثورة السلمية إلى نهج عنفي متخلف كاف لإدانة الثورة، ووصمها بكل ما يتناقض وطبيعتها الحضارية.
وللأسباب السابقة مجتمعة، ارتأت هيئة تحرير مجلة قلمون أن يكون الملف الرئيس في عددها الثالث عشر مكرسًا لمناقشة (مئة عام من التفاعل بين الدين والمجتمع في سورية 1920 حتى اليوم). وثمة ملاحظتان لا بد من الإدلاء بهما؛ الأولى: ضرورة أن يقرأ هذا العنوان المركب قراءة تفاعلية جدلية بحيث يمكن الانطلاق من أحد الحدين إلى الآخر، مع جواز العكس بالتأكيد. والثانية: أن هذا الملف غير معني بالجوانب اللاهوتية والعقائدية في ما سيحتوي عليه من مناقشات، فالهم كله منصب على الأهمية والوظيفة والدور فقط.
وجريًا على المألوف، فإننا لن نحدد المحاور والموضوعات التي يمكن دراستها في هذا الملف احترامًا منا لحرية الكتاب والباحثين في الاختيار والاقتراح. وهذا لا يمنع من تقديم بعض الإشارات إلى ما يمكن دراسته على سبيل المثال لا الحصر:
- تحولات علاقات الدين بالمجتمع خلال مرحلة الانتداب الفرنسي ودخول التنظيمات والمؤسسات والقيم الحديثة
- الجمعيات الدينية والخيرية التي لعبت دورًا في الحياة السياسية والاجتماعية على مدى قرن من الزمن.
- الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية.
- التنظيمات الإسلامية الشبابية في مئة عام.
- التنظيمات النسوية الدينية وصلتها بالنظام.
- علاقة النظام بالمنظمات المتطرفة داخل سورية وخارجها.
- العلاقة بين النظام وشبكات العلماء في المحافظات السورية، وخاصة في محافظتي دمشق وحلب.
- الجماعات الصوفية وعلاقتها بالنظام.
- وزارة الأوقاف ومؤسساتها وتدخلات النظام فيها.
- المعاهد الشرعية ونظم التعليم فيها.
- التعليم الشرعي الجامعي والدراسات العليا وتعيين المعيدين والمدرسين.
- منظمات المجتمع المدني وتدخل النظام في أعمالها.
- سياسات النظام في التدخل في أعمال الكنائس المسيحية، وخاصة الكنيسة الأرثوذكسية
- الحوار المسيحي الإسلامي وتقويمه.
- الإيزيدية وعلاقتها بالمجتمع السوري.
- الفنون الجميلة وأثر التقلبات السياسية والدينية فيها.
- الأزياء وتأثرها بالتقلبات الدينية والسياسية.
هذه محض أمثلة للبحث، ويمكن اقتراح ما سواها بكل تأكيد.
يرجى التفضل من قبل الراغبين في المشاركة في هذا الملف بإرسال مقترحاتهم البحثية في ما لا يزيد عن 500 كلمة مصحوبة بسيرهم الذاتية في موعد أقصاه 24/ 7/ 2020 إلى البريد الإلكتروني لرئيس التحرير:
ستُدرس المقترحات جميعها بالسرعة الممكنة، وسيُرد عليها قبولًا أو اعتذارًا أو تعديلًا بالاتفاق مع الباحث، علمًا بأن الموعد النهائي لتسلم البحوث كاملة هو 15/ 9/ 2020
نرجو الاطلاع على سياسة النشر في مجلة قلمون على الرابط الآتي: https://bit.ly/3iIAVar