لم تكن الأوضاع الاقتصادية في سورية على ما يُرام قبل انطلاقة الثورة في شهر آذار/ مارس 2011، وذلك على النقيض ممّا يروجه بعضهم هذه الأيام، فقد كان السوري “يعمل ليلًا نهارًا كي يضمن قوت أولاده”، كما جاء في رسالة المفكر الراحل أنطون مقدسي إلى بشار الأسد عام 2000؛ وكانت تلك الأوضاع، إلى جانب الاستبداد، سببًا رئيسًا من أسباب حدوث الثورة. فقد كان الفساد الرسمي، وما زال، معلمًا من معالم النظام الأسدي وشركائه في الداخل والخارج؛ الأمر الذي سدّ الآفاق أمام أي إمكان للنهوض بالوضع الاقتصادي، ليكون في مستوى قدرات سورية، وتطلعات أهلها، ويضمن مستقبلًا واعدًا لأجيالها المقبلة، على الرغم من توافر المقومات الأساسية المطلوبة لنهضة اقتصادية متكاملة مزدهرة، إذا ما وُجدت الإدارة الحكيمة النزيهة الحريصة على تأمين موجبات العيش الكريم لشعبها.

فسورية تمتلك الثروات الباطنية، وتمتاز بسهولها الزراعية الواسعة، وفي الوقت ذاته حقق السوريون نجاحًا واسعًا في الصناعات التحويلية والاستخراجية المختلفة، وفي قطاع البناء. وفضلًا عن ذلك، تمتاز سورية ببيئتها الطبيعية المتنوعة، ومواقعها الأثرية، وطيبة أهلها وعراقتهم، وذلك كله من المحفّزات التي تجذب السياح في ظلّ حكومة رشيدة تذلل العقبات، وتجهّز البنية التحتية الضرورية للصناعة السياحية التي من شأنها توفير مزيد من فرص العمل للشباب، وتزويد الخزينة الوطنية بالعملة الصعبة الضرورية لأي نهوض اقتصادي متوازن.

 يضاف إلى ما سبق أن موقع سورية الجغرافي المهم يمنحها الأهلية لتكون جسرًا للتواصل الحضاري بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويمكنها في هذا المجال أن تستفيد من خبرة أهلها التجارية، وقدرتهم على التكيف مع الأحوال المختلفة، وابتكار حلول من شأنها تذليل العقبات.

ولكن هذه الإمكانات جميعها بدّدها النظام الفاسد الذي اعتمد الاستبداد استراتيجية لاستمراريته، وحماية فساده وإفساده. وقد اعتمد في هذا المجال على جيش ضخم بلغ عدده حوالى (400 ألف) عنصر، وأجهزة أمنية متشعبة وبلغ عدد عناصرها حوالى (100 ألف)، إلى جانب تضخم مترّهل في الجهاز الحكومي، وتدخل الأجهزة الأمنية في الخطط والبرامج الاقتصادية، وتوجيهها وفق ما يناسبها، لا وفق مصلحة الشعب والبلد. وبلغت الأمور حدّ انسداد الآفاق أمام الشباب السوري من المكونات السورية جميعها، وباتت الهجرة هي الخيار الأول بالنسبة إلى كثيرين منهم، على أمل بلوغ النجاح الذي يتناسب مع مؤهلاتهم وتطلعاتهم في بلاد الآخرين، وذلك بعد أن تيقنوا استحالةَ تحقيق ذلك تحت حكم زمرة الفساد والإفساد التي حوّلت وطنهم إلى مزرعة خاصة بها.

واليوم، بعد مرور أكثر من 11 سنة على بداية الثورة، يعاني السوريون في مختلف المناطق أوضاعًا معيشية بالغة الصعوبة، وتشمل هذه المعاناة المناطق الخاضعة لسيطرة نظام بشار الأسد وحلفائه من الروسيين والإيرانيين والميليشيات المسلحة المحلية والوافدة، وتشمل أيضًا تلك الخارجة عن نطاق سيطرة النظام في الشمال الغربي والشمال الشرقي، وهي المناطق التي تديرها “الحكومة السورية المؤقتة”، و”حكومة الإنقاذ”، و”الإدارة الذاتية”، إلى جانب وجود “النظام”. وتوجد في هذه المناطق قوات تركية وروسية وإيرانية وأميركية وقوات النظام، وتشكيلات مسلحة محلية ووافدة تحت أسماء متنوعة.

فالأحوال المعيشية الصعبة التي كان السوريون يعيشونها قبل الثورة، أصبحت بالغة الصعوبة نتيجة الحرب التي أعلنتها السلطة على السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها وإفسادها؛ وهي الحرب التي أدت إلى نزوح أكثر من نصف عدد سكان سورية قبل 2011 من مناطق سكنهم الأصلية، ليتحولوا إلى نازحين في الداخل الوطني، ولاجئين في الجوار الإقليمي (تركيا، لبنان، الأردن، العراق- إقليم كردستان العراق). وما زال القسم الأكبر من هؤلاء يعيش في مخيمات لا تضمن أبسط أساسيات العيش المقبول، سواء من جهة شروط السكن، أم من ناحية الرعاية الصحية، أو العناية بالأطفال، وتأمين التعليم المطلوب لهم.

وكان الاعتقاد السائد هو أن الأوضاع المعيشية ستصبح أفضل بعد تراجع حدة العمليات التي كانت تشنها قوات السلطة وحلفاؤها ضد السوريين المناهضين لها؛ ولكن ما حدث كان النقيض تمامًا؛ إذ انهارت الليرة السورية بصورة دراماتيكية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والمحروقات والأدوية والعلاج الطبي، وأدى ذلك إلى ارتفاع كبير في أجور السكن والنقل وتكاليف التعليم، وحدوث أزمات مستعصية شملت كثيرًا من الحاجات الضرورية مثل الكهرباء والمياه والخبز أيضًا.

ويُعد ذلك كله الحصيلة الواقعية لتراكمات عقود من الفساد الإداري والمالي، مارسه النظام المعني وبطانته قبل الثورة، وقد تفاعلت تلك التراكمات مع نتائج الحرب على السوريين التي شملت قصف الأسواق الشعبية والمناطق السكنية والمستشفيات والمدارس بمختلف أنواع الأسلحة، بما فيها الطيران والسلاح الكيمياوي.

لقد تعرّض الاقتصاد السوري على مدى عقود للنهب والهدر وسوء التخطيط، كما أسلفنا، وكانت النتيجة إلحاق كثير من الضرر بالقطاعات الإنتاجية، ولا سيما القطاع الزراعي الذي تعرض للكوارث نتيجة الحفر العشوائي للآبار الارتوازية، واستخدام الأسمدة استخدامًا غير مستند إلى الأسس العلمية، ما ألحق ضررًا كبيرًا بالبيئة وصحّة المواطنين. وفي زمن الحرب، تفاقمت تلك الأضرار، وامتدت إلى قطاعات الصناعة والسياحة والتجارة. أما الثروات الطبيعية وشركات الاتصالات والمنشآت الربحية، فقد بيعت أو أُجِّرت بعقود زبائنية كانت في واقع الحال أقرب إلى الرشى، للروسيين والإيرانيين. في حين إن القسم الأكبر من الثروة النفطية سُلّم منذ بداية الثورة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، مقابل تكفّله بإبعاد الكرد عن الثورة السورية، وذلك بموجب شروط واضحة تبين كيفية توزيع النسب بين السلطة والحزب المعني. وعلى الأرجح، ما زال ذاك الاتفاق ساري المفعول بهذه الصيغة أو تلك. هذا مع العلم أن هذه الثروة كانت في الأساس بيد الأسرة الأسدية الحاكمة، ولم يستفد منها السوريون كما ينبغي.

 وفي ظل الأوضاع المذكورة آنفًا، تراجعت نسبة تصدير المنتجات السورية إلى الأسواق العالمية بمستويات قياسية، في حين ارتفعت نسبة الواردات أضعافًا مضاعفة، مقارنة بما كان عليه الحال قبل عام 2011. وغالبًا ما تجري عمليات التصدير والاستيراد وفق صفقات يستفيد منها تجار الحروب وشركاؤهم في السلطة والميليشيات، ولا تسهم أرباحها في تحسين شروط معيشة الناس أو تأمين الرعاية الصحية لهم، كما لا تستثمر تلك الأرباح في تحسين البنية التحتية أو مساعدة الناس في سبيل تأمين رعاية صحية ضرورية، أو تعليم مقبول، أو تقديم الخدمات الحيوية للناس.

وما ترتب على ذلك تمثل في اضمحلال احتياطي النقد الأجنبي، وفقدان المواد، وتآكل مدخّرات المواطنين، وكان مؤدى ذلك كله ارتفاع الأسعار وزيادة عدد الفقراء وتفاقم المعاناة.

وتشير تقارير المنظمات الدولية، ومنها الأممية، إلى نسب مفزعة تخصّ الواقع المعيشي السوري. فبموجب التقرير الصادر عن “لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا” برئاسة باولو بينرو، الصادر في 9 آذار/ مارس 2022، يعيش 90 بالمئة من سكان سورية في حال فقر، ويعاني 12 مليون سوري انعدامَ الأمن الغذائي، ويحتاج 14.6 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية.

وقد تفاقمت المعاناة السورية أكثر بفعل انعكاس جائحة كوفيد-19 (كورونا)، والحرب الروسية في أوكرانيا، في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي أثر في أوضاع السوريين في مختلف المناطق، وما زال يؤثر فيها. وقد أسهم الجفاف أيضًا في ضعف المحصولات، وارتفاع أسعار الحبوب، وخسائر كبيرة في الثروة الحيوانية، وذلك كله يؤثر سلبًا في الواقع المعيشي للناس، ويؤدي إلى تداعيات كبرى في ميادين مختلفة، تتجلى مظاهرها في ارتفاع نسبة التضخم، وزيادة الأسعار، واتساع دائرة البطالة والفقر، وانتشار جرائم النهب والخطف والسرقات والدعارة وتجارة الممنوعات، وخاصة المخدرات.

وما يضفي قتامة إضافية على معاناة السوريين المعيشية، نتيجة انهيار الاقتصاد، غيابُ أي مؤشرات توحي بإمكان التوصل إلى حل سياسي قريب بين مختلف الأطراف ذات العلاقة بالمحنة السورية. فقد كان من شأن هذا الحل أو الشعور بقربه أن يُسهم في تشجيع المبادرات الفردية، ويجذب الاستثمارات الأجنبية، لتبدأ مشروعات إعادة الإعمار التي من شأنها توفير فرص العمل، وتحريك العجلة الاقتصادية السورية من جديد.

وفي مواجهة هذه التحديات، تظل الهجرة الحلَّ الذي يفكر فيه كثيرون، ولكن هذه الأخيرة باتت من الخيارات الصعبة، إن لم نقل المستحيلة، في أجواء تفاقم النزعات المتذمرة من وجود السوريين في دول الجوار، وارتفاع الأصوات المطالبة بترحيلهم وإعادتهم إلى بلدهم، من دون إعطاء أي اعتبار لما قد يتعرضون له. فقضية اللاجئين السوريين باتت جزءًا من برامج الدعاية الحزبية والانتخابية، أو وسيلة للتنصل من المسؤولية.

أما الدول الأوروبية، فقد تشددت هي الأخرى في إجراء منح الإقامات للسوريين، سواء المؤقتة منها أم الدائمة، وذلك تحت تأثير تزايد نفوذ القوى السياسية اليمينية والعنصرية المناهضة للأجانب، ونتيجة تفاعلات الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها التي أدت إلى ارتفاع نسب التضخم والبطالة، ونشوب أزمات الطاقة في الدول الأوروبية نفسها.

 التحديات المعيشية التي يواجهها السوريون هي تحديات جدية، لها مقدماتها وعواملها، وهي تحديات تؤثر بصورة مستمرة في واقع السوريين، وتتحكم في خياراتهم وقرارتهم. ونظرًا لخطر هذا الموضوع وأهميته بتشعباته كلها، رأت هيئة تحرير مجلة قلمون تخصيص ملف العدد القادم (الثاني والعشرين) لتناول هذه التحديات من جوانبها المختلفة، تحت عنوان: السوريون والتحدّيات المعيشية بعد 11 عامًا من الحرب والتمزق”.

 والهدف من ذلك توصيف معاناة السوريين المعيشية التي باتت جزءًا من واقعهم اليومي، وبيان أسبابها ومقدماتها، واقتراح الحلول الواقعية الممكنة سواء الجزئية أم الدائمة، لمختلف المشكلات. أما المحاور المقترحة لهذا الملف فهي:

1. تراجع القطاعات الإنتاجية، وتهديم البنى التحتية، وإهمالها، وأثر ذلك في مستوى المعيشة.

2. تخصيص احتياطات الدولة ومواردها المالية للحرب، وانهيار الليرة السورية، وارتفاع معدل التضخم، وتبعات التعامل بالدولار والليرة التركية، واضمحلال القوة الشرائية لدخول السوريين.

3. خدمات القطاع الصحي وانعكاساتها في مستوى المعيشة.

4. واقع التعليم وانعكاساته في مستويات المعيشة (تأثيره في الإنتاج والخدمات)، ولا سيما مع توسع الهجرة.

5. فقدان/ ندرة الوقود والغاز والكهرباء، وتأثير ذلك في الأحوال المعيشية.

6. الغذاء وأسعاره وتوافره، وقدرة السوريين على تأمينه، وتأثير ذلك في الأحوال المعيشية.

7. واقع هجرة الأيدي العاملة وأصحاب الكفاءات وانعكاساتها.

8. استفحال ظواهر فرض الإتاوات والفديات والرشاوى، وأثرها في مستوى المعيشة ونوعية الحياة. 

9. واقع المنظمات الإغاثية التي تعمل في المناطق السورية المختلفة، ودورها في التأثير في مستويات المعيشة.

10. تأثير الأوضاع المعيشية في نوعية الحياة وإيقاعها اليومي وفي القيم والعادات والتقاليد.

نشير هنا إلى أن الأوراق يمكن أن تتناول أحد الموضوعات في المناطق الأربعة، أو في منطقة واحدة منها. وتدرك هيئة التحرير الصعوبات التي ستواجه الباحثين في تناول هذه المحاور، أو غيرها مما يرونه مهمًا ذا صلة بالملف، وذلك لعدم وجود الدراسات المبنية على المنهج الكمي الذي يعتمد على الإحصاءات ولغة الأرقام الدقيقة الخاصة بمختلف الجوانب الاقتصادية والمعيشية في سورية منذ عقود. وقد بات من الصعب جدًا، إن لم نقل من المتعذر، إجراء مثل هذه الدراسات في العقد الأخير، نتيجة التمزق الذي تعيشه سورية على صعيدي المجتمع والجغرافيا السورية، إضافة إلى طغيان الرغبة في التكتم لدى مختلف قوى السيطرة. وتعاني مؤسسات الدولة السورية في المستويات المختلفة هي الأخرى هذا الوضع؛ لذلك سيكون التركيز على الأبحاث والدراسات التي تعتمد المنهج الكيفي الذي يقوم هو الآخر على أدوات بحثية مهمة، منها: الملاحظة والمقابلة ودراسة العيّنة والمقارنة، ويمكن لهذه الأبحاث والدراسات الكيفية أن تتكامل مع تلك الكمية التي قد أنجزتها، أو تنجزها، المراكز البحثية المهتمة بهذا الموضوع، ومنها مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

لا ندّعي أننا سنتمكّن من تقديم الكامل، وإنما هو جهد بحثي يستمد مشروعيته من أهمية الموضوع الذي يقض مضاجع سائر السوريين من دون أي استثناء، ومن تفاعل الباحثين معه، وإغنائه بمقترحاتهم وأبحاثهم. ويستند هذا الجهد إلى التراكم المعرفي الذي تكّون بفعل جهد أولئك الذين عملوا في هذا الميدان. فما نصبو إليه تسليط الضوء على الواقع المعيشي الكارثي الذي يعيشه السوريون، وبيان الأسباب التي كانت وراء ذلك، وتقديم الحلول الإسعافية الممكنة التي قد تسهم في تخفيف المعاناة، ولو بصورة آنية، وذلك على أمل الوصول إلى حلول مستدامة شاملة. وما نأمله أن يكون هذا الجهد مقدمة وحافزًا لجهد بحثي يمتلك مزيدًا من الإمكانات، سواء على صعيد الموارد البشرية والمادية، أم على صعيد الوقت.

يسعدنا أن نتلقى ملخصات المقترحات البحثية ضمن هذه المحاور، وكلّ ما يراه الباحثون من إسهامات من شأنها أن تغني الموضوع وتستحق أن تكون جزءًا من هذا الملف الذي يعنى بما يشغل بال سائر السوريين راهنًا، ويتناول مقدمات وآفاق الأوضاع المعيشية الصعبة التي تجسّد جانبًا رئيسًا في معاناتهم الكبرى.

ترسل المقترحات البحثية (500 كلمة) إلى إيميل رئيس التحرير د. يوسف سلامة youssef.salamah@harmoon.org حتى 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، على أن تُستكمل البحوث في موعد أقصاه 15 كانون الأول/ ديسمبر 2022.

يرجى من الباحثات والباحثين مراعاة سياسة تحرير مجلة قلمون، في المقترحات والبحوث. رابط سياسة التحرير في مجلة قلمون: https://cutt.us/BoiHU