قدّم مركز حرمون للدراسات المعاصرة، محاضرة بعنوان: “ماذا تعني سورية للنخب الشيعية العراقية؟“، حاضر فيها الدكتور حيدر سعيد، رئيس قسم الأبحاث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وأدارتها المذيعة آمال عراب، مقدمة البرامج في (التلفزيون العربي).
ناقش الضيف موقف النخب الشيعية في العراق ممّا جرى ويجري في سورية، وموقفهم من التدخلات الإيرانية فيها، واستعرض الممارسات التي تم تطبيقها لمواجهة الثورة السورية، وكل المحاولات التي جرت لتطييف الصراع في سورية، وأدت إلى تطييف شامل للمنطقة، وإلى تغيير جذري في سورية والعراق والشرق الأوسط عمومًا، وكيف تحوّل هذان البلدان الفاعلان بشعبيهما، إلى بلدين فاعلين إقليميين طائفيين، كما لم يكونا من قبل.
في البداية، قدّم الدكتور سعيد تمهيدًا للبحث الذي قدّمه خلال هذه الندوة، وتحدث عن النخب الشيعية التي ترتبط ديناميكيتها السياسية بالهوية الشيعية، مبينًا أنه ليس كل من ينتمي إلى المذهب الشيعي يمكن أن يندرج في إطار النخب الفاعلة السياسية الشيعية. كما تحدث عن انتشار ظاهرة التطييف أو صناعة الطوائف في السنوات الأخيرة، وكيف تم التحول من مرحلة تفسير الطائفية، إلى مرحلة دراسة صناعة الطوائف وكيف تتشكل، ومحاولة اكتشاف كيف يؤثر العامل الخارجي والعامل الجيوإستراتيجي في صناعة التطييف، لافتًا النظر إلى أن صناعة الطوائف لا تستند فقط إلى عوامل أو ديناميكية داخلية سببها الاختلالات السياسية أو تحيز الدولة إلى طائفة معينة، بل إن العامل الخارجي والجيوإستراتيجي له دور أساسي في صناعتها.
وأشار الدكتور سعيد إلى أن الطائفية ليست صراعات مذهبية، بل هي صراعات سياسية ذات طابع حديث مرتبط بشكل الدولة الحديثة، وهي تنشأ، كما القومية، من خلال وجود الأفراد الذين يتشاركون في الانتماء إلى مذهب معين، ويتشكل وعي جمعي لديهم بأن هناك مصيرًا واحدًا يجمعهم. ورأى سعيد أن تشكّل الطائفة يتضمن موقفًا من عملية بناء الأمة، ويتضمن تخيّلًا بأن الطائفية هي الهوية العابرة للحدود، ولا تقتصر فقط على الحدود الوطنية، وهذه النقطة هي التي تفتح الباب للعامل الخارجي في تصوّر الطائفة. وأضاف: “في الحالة العراقية، لم تستند فكرة تشكل الطائفة إلى الهوية العابرة للحدود فقط، بل ساهم العامل الخارجي في دعم السجال على تعريف الهوية الشيعية: أ هي هوية مكون داخلي، أم أنها هوية أبعد وأوسع من الحدود العراقية؟”.
من جانب آخر، أشار الدكتور سعيد إلى أن السياستين السورية والإيرانية تجاه الغزو الأميركي للعراق عام 2003 لم تكونا متطابقتين، على الرغم من ارتباط الدولتين بتحالف إستراتيجي وطيد منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ونظر كلا البلدين إلى الوجود الأميركي في العراق بوصفه تهديدًا وجوديًا، وكيف عمل كلاهما على تقويض وإضعاف وإنهاك هذا الوجود، مبيّنًا أنه على الرغم من اعتقاد العديد من الباحثين والمحللين السياسيين بوجود تنسيق سوري – إيراني، في هذه المواجهة، وفي دعم الحركات المقاومة للاحتلال الأميركي للعراق؛ كان من الواضح أن السياسة الإيرانية مختلفة عن السياسة السورية، من حيث قدرتها على المحافظة على مركّب معقد، وهو العمل على مواجهة المشروع الأميركي في العراق، ودعم النخبة الإسلامية الشيعية الصاعدة في الوقت نفسه، وهذه النقطة كانت جزءًا من بيئة العملية السياسية في العراق ما بعد عام 2003، التي صممتها وأشرفت عليها الولايات المتحدة الأميركية. وأضاف: “هذا الإطار هو الذي يفسر دعم إيران للشيعة الحاكمين المسيطرين على النظام السياسي الناشئ، وللشيعة المعارضين من حاملي السلاح في وجه النظام، في الوقت نفسه، وما من شك في أن إيران كانت تراهن على دعم الإستراتيجية الطويلة الأمد في دعم الجبهة الإسلامية الشيعية، ليس فقط في ضمان ولائها وتبعية العراق لإيران، بل في تطوير موقف هذه النخبة لتتولى هي معارضة الوجود الأميركي في العراق، وهو الدور الذي قام به لاحقًا رئيس الوزراء نوري المالكي، خلال تفاوضه على الاتفاقية الأمنية بين العراق و الولايات المتحدة الأميركية”.
في الإطار ذاته، رأى الدكتور سعيد أن قيام إيران بدعم المقاومة الإسلامية السنّية المناهضة للاحتلال الأميركي ليس بعيدًا عن الصحة، ولكن ذلك الدعم كان على نطاق محدود، ولا يناظر علاقة سورية بالتنظيمات الجهادية في مرحلة ما قبل الثورة، التي تحوّلت إلى ممر لعبور الجهاديين إلى العراق، مشيرًا إلى أن اختلاف السياستين الإيرانية والسورية تجاه العراق، في فترة ما بعد عام 2003، هو اختلاف نوعي بين مقاربتين، فسورية لم تكتف بمرور الجهاديين إلى العراق الذين كان لهم دور كبير في عدم استقرار العراق ونظامه السياسي، بل قدمت نفسها بوصفها جزءًا من المحيط العربي السني في العراق، ومن ثم كانت جزءًا من دعم ورعاية الأطراف السياسية السنية.
وبيّن سعيد أن السياسة التي اتبعها نظام حزب البعث في سورية مع العراق، وتطورات الأوضاع فيه منذ الاحتلال الأميركي سنة 2003، ثم غداة الثورة السورية عام 2011، وطريقة إدارته للسياسة الخارجية منذ ذلك التاريخ، تفتح الباب لمعرفة كيف كان يستعمل نظام قومي عربي علماني الهويات الطائفية في سياسته الخارجية، ليس فقط في دعمه لجماعات إثنية ودينية محددة على حساب أخرى، بل في إظهار نفسه كجزء من هذه الهوية بوصفها هوية سياسية، ومحاولة بناء سردية عن هوية البلد بأسره بوصفه جزءًا من هذا التصور.
وعرجت الندوة على كيفية مواجهة النظام السوري للثورة السورية من خلال القوى الإقليمية، وكيف شكلت هذه السياسة لحظة حاسمة في مواجهة ثورات الربيع العربي، القائمة على استدعاء القوى الإقليمية لمواجهتها أو من خلال ما عملت عليه القوى الإقليمية، وبعضها كان عربيًا، من أجل إعادة تعريف الربيع العربي بلغة طائفية، وفتحه على صراع طائفي مع إيران. واستشهد الدكتور سعيد بكتاب الدكتور عزمي بشارة (سورية درب الآلام نحو الحرية) الذي شرح فيه مشارب الطائفية إلى الثورة السورية، وحددها بثلاثة عوامل أساسية: الأول خروج فهم الثورة من النخبة الديمقراطية إلى القاعدة التي لم تستطع الخروج عن فكرة أن النظام الذي تثور عليه هو نظام أمني تقوده الطائفة العلوية، والعامل الثاني هو تصوير النظام للثورة بأنها فتنة طائفية، أما العامل الثالث فهو نضال القوى الإقليمية من أجل تعريف الثورة السورية، بوصفها صراعًا طائفيًا. وأضاف: “لقد وُضعت الثورة السورية في قلب نسيج معقد من العلاقات الطائفية، ولذلك سرعان ما جرى تطييف الثورة والتعامل معها على اعتبار أنها امتداد للصراع الطائفي، وقد حدث هذا في وقت مبكر من عمر الثورة، وكانت كل ردود الأفعال المحيطة بالثورة تستعمل اللغة الطائفية. وقد تحدث بشار الأسد في خطابه الشهير، أواخر آذار/ مارس 2011، عن الفتنة الطائفية، بالإضافة إلى بعض علماء الدين السوريين، وبعض مسؤولي التنظيمات الذين اختصروا الثورة السورية بأنها صراع بين نظام علوي وأغلبية سنية، فكان تطييف الثورة بهذا الشكل هو الخيار الأنسب لمجموعة من القوى الأساسية المحيطة بالثورة، ممثلة بالنظام الذي يسعى من خلال تطييف الثورة إلى نزع أي شرعية أخلاقية لها، إضافة إلى بعض القوى العربية والخليجية تحديدًا التي بنت إستراتيجياتها الأساسية في مواجهة الربيع العربي على محاولة احتوائه خوفًا من انتقال موجات الربيع العربي لها، وحفاظًا على النظام الإقليمي القائم على مجموعة من الأنظمة التسلطية، وكانت الثورة السورية اللحظة المثالية بالنسبة إليها، لنقل المنطقة من المناخ الثوري الديمقراطي إلى مناخ الصراع الطائفي، وكذلك بعض قوى الثورة التي لم تستطع أن تخرج من إطار الفهم المبسط للتركيبة الإثنية والعلاقات داخلها، فضلًا عن تصورها أن التعريف الطائفي للثورة سيحشد الجماعات العربية السنية معها، وأخيرًا إيران التي أحدثت تغييرًا بنيويًا جذريًا في إستراتيجيتها، في سبيل مواجهة الثورة السورية”.
وتحدث الدكتور سعيد عن موقف إيران الداعم لثورات الربيع العربي المعاكس لموقفها من الثورة السورية المتمثل بدفاعها عن دولة الأسد، وهو ليس دفاعًا طائفيًا ولا أيديولوجيًا بل هو دفاع إستراتيجي عن نظامٍ سمح تحالفه مع إيران منذ بداية الثمانينيات بأن تكون سورية قاعدة التمدد الإستراتيجي لدولة ذات طموح إمبراطوري عابر للحدود، في حين أن الموقف الرسمي العراقي من ثورات الربيع العربي كان متحفظًا ومغايرًا لموقف إيران المؤيد لها، على اعتبار أن هذه الثورات سوف تقود الإسلام السني إلى المنطقة، ولم يستطع العراق أن يرى في الربيع العربي سوى النقيض الطائفي لطبيعة الحكم فيه، وهذا يفسر كيف تحول الموقف العراقي المتوتر من النظام السوري إلى موقف مؤيد ومدافع عنه. وأضاف: “أحد أهم الأمثلة على ارتباط القرار الرسمي بالنخب الشيعية، تلك التي تتعلق بسورية، سواء في موقف العراق من قرارات جامعة الدول العربية ذات الصلة بسورية ما بعد 2011، أو استمرار التعاون السياسي بين البلدين، أو في الفهم العراقي الرسمي لما يجري في سورية بعد عام 2011، الذي يعكسه خطاب من يشغلون المناصب السيادية العليا”. وقسّم الدكتور سعيد مشاركة الميليشيات العراقية الشيعية في القتال في سورية، إلى مرحلتين: الأولى بدأت مطلع عام 2013 وامتدت حتى سقوط الموصل في يد تنظيم (داعش) عام 2014، أما المرحلة الثانية فقد استندت إلى الخطاب الجديد الذي أطلقه “الحشد الشعبي” الذي تحتل مواجهة (داعش) فيه ركنًا أساسيًا، فضلًا عن تكريس فكرة “حماية الجماعة الشيعية” أينما كانت.
وفي الختام، أشار الدكتور سعيد إلى أن الثورة السورية شكلت منعطفًا مهمًا في العلاقة بين النظام السوري وإيران، ورأى أنها لم تعد قائمة على أساس تحالف إستراتيجي لقوى مناهضة للغرب و”إسرائيل” وداعمة لحركات التحرر والمقاومة، بل تحولت إلى عضوية في المحور الشيعي، وهذا التحول ما كان ليحدث بدون إعادة تعريف سورية، بوصفها فاعلًا إقليميًا شيعيًا، وحدث ذلك في إطار حركة تشييع كاملة شملت العراق وسورية. في السياق ذاته، لفت الدكتور سعيد إلى أن الثورة السورية وتطورات الأوضاع فيها كانت عاملًا أساسيًا في تعميق تشيّع السياسة العراقية، بعد 8 سنوات من سقوط نظام صدام حسين، شهدت فيها جدلًا كبيرًا حول مركزية دور الشيعة في حكم العراق، ومكانة السنّة في النظام السياسي، وكيفية منع نشوء دكتاتورية الأغلبية، وطبيعة العلاقة مع إيران.
أدناه البث المباشر للندوة.