عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، السبت 9 أيار/ مايو 2020، ندوة بعنوان (كورونا والمشهد الاقتصادي العالمي)، شارك فيها من برلين الباحث سمير سعيفان، مدير مركز حرمون للدراسات، ومن الدوحة أستاذ الاقتصاد ورئيس هيئة تخطيط الدولة سابقًا د. تيسير رداوي، وأدارتها الإعلامية ربا حبوش.
ناقشت الندوة شكل المشهد الاقتصادي العالمي، في ظل أزمة كورونا وبعدها، والآثار الاقتصادية الأوضح التي سبّبها وباء كورونا، منذ بداية انتشار الفيروس حتى الآن، سواء على القطاعات الاقتصادية أو على معدلات النمو، وتأثيرات وباء كورونا على العولمة والانفتاح والاستثمار والتجارة العالمية، وواقع الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ومستقبل شبكة التضامن الاجتماعي.
وناقش الضيفان صورة عالم ما بعد كورونا، والمجالات التي من الممكن أن تحدث فيها تغييرات مستدامة، والأدوار المستقبلية لكل من الولايات المتحدة وأوروبا والصين، وحاجات الدول إلى ترميم اقتصادها بعد الأزمة، ومدى استدامة تأثير الأزمة على مؤشرات أسعار النفط، وغير ذلك من المواضيع ذات الصلة.
في بداية الندوة، قدّم سمير سعيفان شرحًا للآثار الاقتصادية الأوضح التي تسبب بها فيروس كورونا، منذ بداية انتشاره في العالم، وقال: “الأثر الأوضح هو تأثير كورونا على الإنسان نفسه، لأنه الأساس، وهو منتِج كل شيء، وبما أن الفيروس يستهدف الإنسان فهو يستهدف أداة الإنتاج الرئيسة”. وأضاف: “على الصعيد الاقتصادي، هناك تأثير على القطاع الاقتصادي، بشكل كامل أو بشكل جزئي؛ فقطاع السياحة -مثلًا- تضرر بشكل كامل، وقطاع النقل بشكل جزئي، كذلك تقلصت التجارة والأسواق، ومن ثمّ تضرر جزء من الصناعة. أما على صعيد الناتج المحلي الإجمالي الذي يمثل تقريبًا الأثر العام، فإنه سوف يتقلص بنسبة 2 إلى 3 بالمئة، بدلًا من النمو، وإذا طالت الإجراءات فستزيد نسبة التقلص، وبالتالي، نحن أمام آثار كبيرة جدًا بشكل عام، وهناك مجموعة من الآثار المختلفة التي من الممكن أن نتناولها، كالأثر على الديون والبطالة وحركة العولمة، وعلى كثير من القطاعات الأخرى”.
في المقابل، رأى تيسير رداوي أن الناتج المحلي الإجمالي مستمر في الهبوط منذ سنوات، قبل انتشار فيروس كورونا، وقال: “الناتج المحلي يتدنى مع مرور الوقت، وعلى سبيل المثال، الصين تمتلك معدل ناتج محلي إجمالي مرتفع جدًا، وفي 1984 كان الناتج المحلي 15.5 بالمئة، وأيضًا منذ عام 1979 حتى عام 2010 كان المعدل الوسطي للناتج المحلي ثابت، وهو 9.9 بالمئة، ثم بدأ هذا المعدل بالتراجع حتى وصل عام 2017 إلى 7 بالمئة، وفي عام 2018 وصل إلى 6.8 بالمئة، واستمر في التراجع حتى بلغ 6.2 بالمئة في النصف الأول من عام 2019، و 6 بالمئة فقط في النصف الثاني من العام”. وأضاف: “اليوم، بسبب فيروس كورونا، أصبح المشهد الاقتصادي أسوأ بكثير، وهناك بالفعل تراجع في معدل الناتج المحلي، ولكني أعتقد أن فيروس كورونا ليس هو السبب الوحيد لهذا التراجع، وكثير من الاقتصاديين يقولون إن وباء كورونا كان سببًا في تراجع نمو الاقتصاد وزيادة معدل البطالة وعدد الفقراء، وأنه تسبب بزيادة في عجز الميزان التجاري، وانخفاض في الإنفاق على الصحة، وهذا صحيح، لكن هذه المشاكل موجودة منذ زمن طويل، وليست جديدة”.
وفي سؤال عن كيفية تأثير فيروس كورونا على العولمة والانفتاح والتجارة العالمية والاستثمار، أجاب سعيفان: “أود أن أشير بدايًة إلى أننا بالفعل كنّا نعاني أزمة اقتصادية 2008، ولم نُشفَ من آثارها بعد، لكن أزمة وباء كورونا أضافت أزمة جديدة فوق الأزمات السابقة، وسيكون لكورونا آثار أكبر بكثير، ومعظم الدول سيتراجع نموها الاقتصادي بمعدل من 4 ـــ 5 بالمئة، وهذا رقم كبير جدًا، وبالنسبة إلى المثال الذي قدمه الدكتور رداوي، حول معدلات نمو الصين، أود أن أشير إلى أن هناك قانونًا معروفًا، هو أنه كلما زادت اقتصاديات الدول الكبرى وكبرت؛ أصبح معدل نموها أقل، ومن المتوقع أن يعود معدل الناتج المحلي للصين إلى 4 بالمئة، ولكن هذا العام بدلًا من أن يكون 5.8 بالمئة، كما كان متوقعًا في العام الماضي من قبل البنك الدولي، يقدّر بأنه سيكون +1 بالمئة، مع ملاحظة أن الصين لم تغلق اقتصادها بالكامل، بل أغلقت جزءًا منه فقط، وقد لا تعلن الحكومة الصينية عمّا تفعله، ومن الممكن أن تكون قد أغلقت أكثر من ذلك بكثير”.
وتابع: “أنا أتوقع بأنه سيكون لفيروس كورونا تأثيرات كبيرة، فمن الممكن ألا يغير في النظام الاقتصادي العالمي بهذا الشكل، كما يتوقع البعض، لكنه سيطلق مجموعة من الديناميكيات التي ستظهر نتائجها في المستقبل، فمثلًا تأثرت خطوط الإمداد تأثرًا كبيرًا جدًا، نتيجة تقلص الطلب بشكل عام. أما بالنسبة إلى مسألة العولمة، ففي الأساس بدأ الصراع من أميركا التي غيّرت مواقفها من دعم العولمة إلى التشكيك فيها، وبدأت تأخذ إجراءات حماية، على عكس الصين التي بدأت بدعم العولمة ولديها برنامج طموح جدًا، وبالتالي نحن أمام تبادل في الأدوار والمواقع، وبات واضحًا الآن أن كورونا سيطلق حربًا باردة، بين الصين وأميركا في المستقبل، وستتوضح معالمها أكثر مما هي عليه الآن، ففي الفترة الماضية كان هناك نوع من الصمت حول الصين ودورها، أما اليوم فقد تنبّهت أوروبا إلى حد ما، وأميركا بشكل أكبر، إلى هذا الأمر، وعلى ذلك؛ ستكون هناك صراعات. وهناك صراع على النمط الليبرالي الجديد الذي نما في العالم منذ أواخر الثمانينيات، وهذا النمط أصبح الآن موضع تساؤل في ما يتعلق بالصحة والدولة ودورها في هذا المجال، وكثير من القضايا الأخرى”.
واستعرض رداوي وجهة نظره، في مسألة تأثير كورونا على متطلبات التغيير والنمو المستدام، وقال: “أعتقد أن العالم بعد كورونا سيتبدل تبدلًا طفيفًا جدًا، وسيكون هناك بعض الإصلاحات التي أظهرها كورونا في دول العالم، ولن يكون هناك تغير جذري قوي، وما سيحدث في العالم ليس كما يقول البعض بأن كل شيء سيتغير، وبأن هناك أنظمة شمولية جديدة ستأتي على حساب الأنظمة الرأسمالية، وستظهر تشكيلات اجتماعية اقتصادية جديدة على حساب القديمة.. هذا لن يحدث، فالتغيير والتبديل يكون دائمًا بسبب تكنولوجيا مهمة مكتشفة، أو بسبب حرب شاملة، وإذا نظرنا تاريخيًا في الفترات الزمنية التي تلت انتشار العديد من الأوبئة في العالم، كالطاعون الأسود والإنفلونزا الإسبانية، فسنرى أنه في البداية حدث تبديل مهم ليس بسبب الوباء نفسه، بل بسبب استخدام تكنولوجيا جديدة، كاستخدام الفحم والحديد واكتشاف الآلات البخارية وولادة دول جديدة. اليوم سيحدث تغيير بسيط، من الممكن أن ينال ذلك التغيير الصراعَ العالمي بين أميركا والصين، وهو في الأساس ليس صراعًا جديدًا، وربما ينال الاتحادَ الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية. أما على المستوى الداخلي للدول، فربما نرى حالة من التشدد والابتعاد عن الديمقراطية، شيئًا فشيئًا؛ لأن بعض الأنظمة حصلت على مكتسبات سلطوية لن تستطيع التخلي عنها بسهولة، لذا التبديل سيكون بسيطًا، ويقتصر على العيوب التي أظهرها كورونا في أنظمة الدول”.
وحول المتغيرات التي من الممكن أن تحدث، من جراء لجوء العديد من الدول إلى الحظر شبه الكلي، وخسارة الآلاف لوظائفهم بسبب ذلك، قال سعيفان: “أعتقد أن النظام العالمي لن يتغير إلى نظام آخر تمامًا، ولكن ستطرأ عليه تبدلات ليست قليلة بسبب وباء كورونا، فعلى سبيل المثال، فتحت أزمة كورونا إحدى القضايا التي لها آفاق واسعة، وهي العالم الافتراضي، واكتشاف الشركات أن العمل عن بعد يوفر عليها كثيرًا من النفقات، ويقدّم مرونة أكبر، وأيضًا موضوع التعليم عن بعد والطبابة عن بعد، حتى اجتماعات رؤساء العالم عن بعد، إضافة إلى أنه سيكون هناك اهتمامٌ أكثر بالتكنولوجيا وتطوير الروبوتات، وسيكون هناك تأثير على نمط الاستهلاك، والميل نحو تقليصه، كما أن حركة الناس وحركة قوة العمل لن تكون كما كانت من قبل. هذه التغيرات الجزئية ستؤثر في تركيبة الاقتصاد، وستبرز بعض الدول وسيكون لها دور أكبر، وبناء على ذلك؛ هناك كثير من التأثيرات المباشرة، سواء على التكوين الاقتصادي أو على طريقة أداء الاقتصاد، ولا أقصد هنا تغير الاقتصاد من رأسمالي إلى اشتراكي، كما يتوقع البعض، لكن سيتعزز دور الدولة والميل نحو الاهتمام بالصحة، وسيبرز التناقض بشكل أكبر بين العمل ورأس المال، وستبرز أيضًا مسألة فروقات الدخل”.
وتطرقت الندوة أيضًا إلى مسألة كيفية قيام الدول بتخفيف الأعباء المالية الناتجة عن وباء كورونا، وإمكانية ترميم اقتصادها من جديد، وكيفية إعادة تأهيل قطاع التعليم والصحة، إضافة إلى المتغيرات التي ستظهر في المنطقة العربية بشكل خاص، من جراء تبعات فيروس كورونا.
وأجاب الضيفان، في الجزء الأخير من الندوة، عن أسئلة المتابعين المتعلقة بدور الدول التدخلي، خاصة في قطاعي الصحة والتعليم، ومصير الشركات المتوسطة والصغرى المتوقع خروجها من السوق بعد انتهاء كورونا، وكيفية الاستفادة من الدروس القاسية التي سببها كورونا، وآلية سد الثغرات.
تأتي هذه الندوة ضمن حزمة من الندوات التي تتناول آثار فيروس كورونا على السياسة العربية والعالمية والاقتصاد والمجتمع، من حيث إن هذا الوباء غدا الشاغل الأساس في المرحلة الراهنة، على مستوى العالم، وبات المحرّك لكثير من القضايا المحلية والدولية، وستركز كل ندوة على جانب من جوانب هذه الآفة، وتداعياتها وآثارها الكارثية.