بدأت، اليوم السبت، 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019، في مدينة إسطنبول التركية، أعمال اليوم الأول من الندوة الحوارية الموسّعة التي ينظمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، حول “تجارب سورية الدستورية”، وذلك بمشاركة عدد كبير من الباحثين والمختصين والخبراء في القانون الدستوري والقانون العام والسياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة.
وفي افتتاح الندوة، ألقى الباحث الدكتور مناف الحمد كلمة افتتاحية شكر فيها الحضور للمشاركة في موضوع من أهم الموضوعات التي تمسّ حاضر ومستقبل سورية. وقال: “موضوع الدستور تحوّل -بفعل نظام الاستبداد- من ناظم للحياة السياسية والقانونية إلى موضوع يُمارس عليه عنف، وإلى ألعوبة في يده يعبث بها كما يشاء. وعلى الرغم من أن صياغة الدستور متلازمة مع تأسيس الدول، إذ لا يمكن تأجيله أو الاستغناء عنه، فإن الدول الكرتونية قد حوّلته إلى جسد ميت، بعد أن نزعت روحه، ووضعته في خدمة حكم العائلة وما يستلزم احتكارها للسلطة واستئثارها بالنفوذ”.
أضاف الحمد: “ليس غريبًا القول إن السوريين كانوا في مقدمة من أبدع دساتير عصرية في العالم العربي، كانت تتضمن مواد تجمع بين الواقع والمعيار، وهم من أوائل من شهد برلمانهم نقاشات مفتوحة ديمقراطية بين ممثلي التيارات المختلفة، لذا نستطيع القول إن تنازع المصالح بين ممثلي الطبقات -إذا صح التعبير- كان سببًا من أسباب وأد التجربة الدستورية المزدهرة والواعدة”.
وأشار الحمد إلى أن “محاور الندوة اختيرت اختيارًا غائيًا، يحاول مقاربة معظم القضايا المحورية التي يجب أن يتضمنها الدستور، مع الحض على أن يكون من ضمن المشاركات ما يُلقي الضوء على الماضي بما شهده من تجارب دستورية، لا شك في أن لفهمها وتحليلها كلَّ النفع والجدوى في تلمّس متغيرات الحاضر وفي استشراف المستقبل”. وعبّر الحمد، في ختام كلمته، عن أمله في أن “يتيح هذا الحوار مجالًا لكل ذي وجهة نظر أن يقدمها، مشفوعة بالأدلة، علّنا نصل إلى منطقة وسطى، نحدد فيها مشتركاتنا بما يخدم قضية وطننا وشعبنا”.
وألقى الأستاذ سمير سعيفان، مدير عام (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) كلمة أوضح فيها السبب الذي دفع مركز حرمون إلى تنظيم هذه الندوة الحوارية، وقال: “موضوع الدستور في الأساس لم يكن مطروحًا للنقاش بين السوريين، وكان هذا نمط من سلوك السلطة، لأن الدستور هو الناظم لطبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة، وهو الحَكَم بين السلطة والناس، لكن السلطة المتغوّلة في سورية، على مدى نصف قرن، كانت تغيّب هذا الأمر، ولم يؤخذ رأي السوريين في الدستور الذي وُضع بعد الثامن من آذار، ولا في الدستور الذي وُضع عام 1973 في عهد حافظ الأسد، إنما أجري استفتاء شكلي ولم يكن هناك فعليًا أي رأي للسوريين”.
وتابع قائلًا: “لم يكن يُذكر الدستور نهائيًا في حياتنا اليومية، ولم نكن نعرف أهناك محكمة دستورية أم لا، إذ كان يشكلها (الرئيس)، وهذا الأمر يخالف كل الأعراف القانونية والدستورية، ولم يكن هناك اهتمام بالدستور والمحكمة الدستورية والتشريعات المتوافقة مع الدستور التي يمثل الدستور على أساسها إرادة الناس. وبما أن موضوع الدستور قد أثير منذ مدة، فقد أردنا أن يكون هناك نقاش حوله، وهذه الندوة ليست من أجل مناقشة اللجنة الدستورية، وإن كانت اللجنة قد أثارت هذا الموضوع من جديد، وانقسم السوريون بين من يجد اللجنة الدستورية قادرةً على إيجاد حل للكارثة السورية، وبين من يرى أنها لن تنتج أي حل، وأنها آخر الأفخاخ التي نُصبت للمعارضة. وأردنا أن نناقش الدستور والتجربة الدستورية في سورية، وأن نحرّض الوعي حول مسألة الدستور والقانون وسيادة القانون، هذه المسألة المغيّبة في تاريخ البعث وسلطة الأسد، لذلك نأمل أن تستعرض الأوراق البحثية التي سيقدمها المشاركون الحياة الدستورية في سورية ما قبل سلطة البعث، وما قبل سلطة جمال عبد الناصر، والحياة الدستورية خلال حكم البعث، لنصل إلى الإجابة عن السؤال المهم: أي دستور تحتاج إليه سورية اليوم، كي تكون دولة حرة ديمقراطية تحفظ كرامة المواطن وحريته؟”.
أضاف سعيفان في ختام كلمته: “سنعرج في النهاية على موضوع اللجنة الدستورية، كجزء من النقاش لا يمكن تجنبه، من أجل إثارة نقاش حام بين الباحثين والمختصين والمهتمين وبين عموم السوريين. وهذه الندوة هي سلسلة من مجموعة ندوات سيعقدها المركز حول المضمون نفسه، حيث ستعقد ندوة مماثلة في 25 كانون الثاني/ يناير القادم في برلين، وأخرى في الدوحة، وثالثة في باريس، ورابعة في واشنطن، وسنقوم بالتركيز على اللجنة الدستورية، في الندوتين اللتين ستعقدان في باريس وواشنطن، إضافة إلى أننا سندعو باحثين وبرلمانيين فرنسيين وأميركيين، للمشاركة في الندوات”.
تضمّن برنامج الندوة، في يومها الأول، أربع جلسات حوارية، ناقشت كل واحدة منها مسألة محددة، وناقش المشاركون في الجلسة الأولى التي ترأسها الأستاذ محمود الوهب ثلاثة محاور: الأول تجربة سورية الدستورية منذ دستور عام 1920 حتى الآن، قدّمها القاضي خالد الحلو، تلتها ورقة بحثية عن المبادئ الوطنية فوق الدستورية، قدّمها الأستاذ نادر جبلي، واختُتمت الجلسة الأولى بورقة بحثية للأستاذ ياسر فرحان، تحدث فيها عن الحياة السياسية في سورية بين الدستور والواقع، وتلاها نقاش مفتوح مع الحضور.
ناقشت الجلسة الثانية التي ترأسها الدكتور عبد الرحمن الحاج محورين، تحدث الدكتور سمير العبد الله في الأولى عن النظام الأفضل لسورية: البرلماني أم الرئاسي؟ فيما تحدث الأستاذ بسام قوتلي عن شكل المركزية واللامركزية الذي تحتاج إليه سورية، وتبع الجلسة نقاش مفتوح مع الحضور.
بدأت الجلسة الثالثة التي ترأسها الأستاذ أنور مجني، بورقة بحثية تحدث العميد أحمد رحال في محورها الأول عن الحياد التام للجيش وقوى الأمن، تلتها ورقة بحثية للأستاذ محمود محيي الدين، تحدث فيها عن دور الدين في الدولة، وجدل فصل الدين عن الدولة وجدل مصادر التشريع “الجانب المتعلق بالتشريع وعلاقة الدستور بالدين”، وعن أثر ذلك في الواقع. وتحدث القاضي حسام الشحنة في المحور الثالث عن سيادة القانون والقضاء المستقل النزيه والكفء قبل عام 1958، وخلال حكم البعث، والمأمول في المستقبل. واختتمت الجلسة بحوار مفتوح مع الحضور.
واختُتم اليوم الأول من أعمال الندوة، بالجلسة الرابعة والأخيرة التي ترأسها الأستاذ سمير سعيفان، وقدّم الأستاذ أحمد رمضان في محورها الأول ورقة بحثية بعنوان “اللجنة الدستورية.. واقع وسيناريوهات”، وتحدث الدكتور عدنان مامو، في المحور الثاني، عن الهوية والمواطنة السورية وتجربة سورية قبل عام 1958، في موضوع الهوية والمواطنة المتساوية وبدء تبلورها مع قيام سورية الحديثة منذ عام 1918. واختتمت الجلسة الرابعة مع الدكتور سعد وفائي، وقد تحدث عن مبدأ فصل السلطات في الدستور وفي الواقع. وتلا الجلسة حوار مفتوح مع الحضور.
تأتي أهمية هذه الندوة الحوارية انطلاقًا من أهمية مسألة الدستور، بالنسبة إلى مستقبل الدولة السورية المنشودة، إذ قلّما حظي الدستور السوري باهتمام السوريين، في ظلّ نظام البعث الذي ظل يعمل منذ 1963 على تعتيم الدستور، وتعطيل القانون، وتغييب إرادة الناس، حتى بات معظم السوريين لا يعرفون شيئًا عن الدستور السوري والأحكام الدستورية والمحكمة الدستورية. ويسعى المركز، من خلال هذا الحوار، إلى وضع مسألة الدستور في صدارة اهتمام السوريين، بصفته العقد الاجتماعي الأساس بين قوى المجتمع ومكوناته، والعمود الفقري والهيكل التنظيمي للنظام السياسي والإداري، وللحياة السياسية والعامة، لأي دولة ومجتمع.
وستتابع الندوة الحوارية أعمالها، يوم غد الأحد 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة هو مؤسسة بحثية ثقافية تُعنى بشكل رئيس بإنتاج الدراسات والبحوث المتعلقة بالمنطقة العربية، خصوصًا الواقع السوري، وتهتمّ بالتنمية الاجتماعية والثقافية، والتطوير الإعلامي وتعزيز أداء المجتمع المدني، واستنهاض الطاقات البشرية السورية وتمكينها، ونشر الوعي الديمقراطي، وتعميم قيم الحوار واحترام حقوق الإنسان.