صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية، وهو ترجمة محمود محمد الحرثاني العربية لكتاب إليزابيث سوزان كسّاب، Enlightenment in the Eve of Revolution: The Egyptian and Syrian Debates، الذي تناقش فيه السياقات الفكرية التي تخلّقت فيها أجواء الثورة في كل من مصر وسورية، مستعرضةً الفروق بين خطابات التنوير في السنوات التي سبقت الثورتين، ومقارنةً بين ما يُسمى “التنوير الحكومي” و”التنوير المستقل” في الحالة المصرية وعلاقتهما بالإسلاميين.
يتألف الكتاب من أربعة فصول في قسمين، يضم القسم الأول، الذي يحمل عنوان “القاهرة”، فصلين. وفي الفصل الأول المعنون”نقاشات التنوير العلمانية والحكومية والإسلاموية في مصر في تسعينيات القرن العشرين”، تراجع المؤلفة أفكار جابر عصفور من الخطاب العلماني، وأفكار محمد عمارة من الخطاب الإسلامي، فـ “كلاهما يتحدث باسم معسكره، وكل منهما ينسج حججه من فهم متين لتاريخ الأفكار المصري الحديث، وكل منهما راسخٌ القدم في مجاله: الأول في النقد الأدبي، والثاني في الدراسات الإسلامية”.
وتجد المؤلفة أن النهضة وطبيعتها وهويتها تشغل حيزًا مركزيًا في خطابات التنوير الثلاثة، فـ “خطاب الدولة وخطاب العلمانيين يريدان استعادة أفكارها وبواعثها التنويرية الأساسية لنصرة حملتهم التنويرية الراهنة. أما الإسلاميون فيريدون الإصرار على طابعها الديني. ويشكل الدين والأصولية الدينية والعلمانية العنوان الرئيس الثاني لنقاشات التنوير المصرية في تسعينيات القرن العشرين. وما تضطلع به الدولة من شأن في تعريف وإدارة حيز الدين وحيز مشروع التنوير هو العنوان الرئيس الثالث”.
في الفصل الثاني، الذي يحمل عنوان “تفكيك بعض النقاد المصريين لنقاشات التنوير المصري في تسعينيات القرن العشرين عند نهاية الألفية”، تقول المؤلفة إن خطابَي التنوير الحكومي والإسلاموي تعرّضَا لهجوم حادّ من جهات عدة، مناقِشةً ثلاث هجمات؛ أولاها من الباحثة في علم الاجتماع منى أباظة، وثانيتها من الباحث في الدراسات الإسلامية نصر حامد أبو زيد، وثالثتها من المؤرخ شريف يونس.
ترى المؤلفة أنّ فشل التنويريين العلمانيين في الدفاع عن الحرية والعلمانية “ليس بسبب افتقارهم إلى الشجاعة والالتزام، إنما بسبب شكوكهم بشأن قدرة تلك القيم على التناغم مع رغبات الناس الذين هم في أعينهم محافظون ومتدينون حتى النخاع ولا تعنيهم أفكار الحرية ويميلون ميلًا لتلقي الأفكار الإسلاموية.
يشتمل القسم الثاني من الكتاب، الذي يحمل عنوان “دمشق”، على فصلين. وتقول المؤلفة في الفصل الثالث المعنون”نقاشات التنوير في سورية في تسعينيات القرن العشرين: اللحظة السيزيفية”، إن الإسلام السياسي في خطابات التنوير السوري لم يكن الخصم الرئيس، كما هو الحال في التجربة المصرية، “إنما كان استبداد الدولة السورية وفسادها ووحشيتها. فقد تعرض الإسلامويون في سورية للاضطهاد والاعتقال والاغتيال قبل بدء النقاشات بعقد من الزمان؛ وأعلن الإسلام السياسي جريمة وإلى حدٍّ بعيد اختفى من المشهد السوري”.
وتعرض المؤلفة في الفصل الرابع (الأخير)، الذي يحمل عنوان “التنوير وربيع دمشق على منحنى الألفية: اللحظة البروموثيوية”، بإسهاب لتحركات المثقفين السوريين المنخرطين في ربيع دمشق، وتتساءل في النهاية: هل كانت هذه التحركات ساذجة تعوزها اللباقة السياسية ومحكومًا عليها بالفشل منذ البداية؟ وهل كانت تحركات معزولة لنخبة منسلخة عن واقعها ومنعزلة عن الناس؟ ثم هل كانت المخاطر التي ركبتها تلك النخبة حين جهرت بصوتها وتحركت وفقًا لأفكارها بشأن التعبئة المدنية تستحق العناء، بالنظر إلى الثمن المُتوقع؟.
بحسب المؤلفة، مهما كانت طبيعة الإجابات عن هذه التساؤلات، “فإن الأحداث بما فيها اندلاع التظاهرات الضخمة في آذار/ مارس 2011 أثبتت أن الأفكار والتحركات والناس الذين انخرطوا في ربيع دمشق لم تكن بمعزلٍ عن مزاج البلاد العام؛ إذ لاح أنها تزامنت مع نذير كاسح بشأن تدهور الأمور سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وناقوس خطر يدق بضرورة الإسراع في معالجة التدهور عقلانيًا وعلنيًا، في ظل اليأس والذلة اللذين ما برحا يتناميان في قطاعات كبيرة من المجتمع. هذه الأفكار، وليس التحركات، كانت حاضرة في كتابات تسعينيات القرن العشرين التي جاء بها السيزيفيون”.
تضيف المؤلفة أن الإجابة عن السؤال “أين المثقفون؟”، الذي يظهر عادةً في بداية حركات الاحتجاجات في أنحاء الوطن العربي، تستدعي أن يجيب المرء بالإشارة إلى هذه الكتابات (وأحيانًا التحركات) التي أصدرها مفكرون نقديون عرب على مدار السنين الطويلة من عمر هذه الحركات.
تختم المؤلفة كتابها قائلةً: “لا أحاجج هنا أن الكتابات والأفكار أدت إلى الحركات على نحو سببي، وإنما أشير إلى التشابه بين المخاوف والتوق والمساعي التي عبرت عنها كتابات السيزيفيين، وتحركات البروموثيين، ومطالب المحتجين السوريين”.
إليزابيث سوزان كسّاب: درست الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، وفي جامعة فريبور في سويسرا. شغلت منصب أستاذة زائرة في عدد من الجامعات الأميركية والألمانية، منها ييل، وكولومبيا، وبرتون، وبون. تعمل الآن أستاذة للفلسفة والفكر العربيّ الحديث والمعاصر في معهد الدوحة للدراسات العليا. تتمحور اهتماماتها البحثية حول الفلسفة الثقافية ببعدَيها الغربي وما بعد الكولونيالي، مع اهتمام خاص بالفكر العربي الحديث والفلسفة العربية المعاصرة. لها العديد من المؤلفات، أبرزها “الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن”، الذي حاز جائزة الشيخ زايد للكتاب في عام 2013.
ترجمة: محمود محمد الحرثاني: حصل على شهادة الدكتوراه في دراسات الترجمة والدراسات الثقافية من جامعة مانشستر بالمملكة المتحدة. له العديد من الأبحاث العلمية في تخصص الترجمة التي يساهم فيها من زوايا مختلفة، إضافة إلى مباحث متداخلة مثل علوم الاجتماع والأدب والسياسة. ومن أبرز ترجماته، كتاب “عن حق الإنسان في الهيمنة لنيكولا بيروجيني ونيف غوردون”، ومن مؤلفاته المنشورة “الترجمة وإعادة إنتاج المعرفة: إدوارد سعيد نموذجًا”.
للمزيد: