اختُتمت اليوم الأحد، 23 كانون الثاني/ يناير 2022، أعمال المؤتمر الثاني للباحثين السوريين الذي يُنظّمه مركز حرمون للدراسات المعاصرة والجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، بالاشتراك مع مجلة قلمون، تحت شعار “الحرية الأكاديمية الكاملة للباحثين الاجتماعيين“.
شارك في المؤتمر عددٌ كبيرٌ من الباحثين السوريين، وقُدّم فيه 34 ورقة بحثية، في تخصصات العلوم الاجتماعية المختلفة. وتضمنت أعمال اليوم الرابع جلستين: الأولى كانت بعنوان “الهوية الوطنية والتماسك المجتمعي”، وأدارها محمد نور النمر، قُدّم خلالها 5 أوراق بحثية شملت مواضيع متعددة.
في البداية، قدّمت رغداء محمد أديب زيدان دراسة بعنوان “تقسيمات سورية الإدارية أثناء الانتداب الفرنسي وأثرها على التماسك المجتمعي”، استعرضت خلالها التقسيمات الإدارية لسورية زمن الانتداب الفرنسي، وبيّنت كيف عمل الفرنسيون على تقسيم سورية طائفيًا، مما أدى إلى ترسيخ الطائفية في البلاد. وسلطت الدراسة الضوء على تأثير تلك التقسيمات والسياسيات على التماسك المجتمعي في سورية.
وفي نهاية الدراسة، قدّمت الباحثة مجموعة من النتائج والتوصيات، أبرزها وجوب إعادة النظر في التقسيمات الإدارية في سورية، لتساعد السوريين والسوريات في تجاوز الطائفية، والوصول إلى دولة المواطنة، التي تجعل الانتماء إلى سورية مقدّمًا على أي انتماء آخر.
وتناولت الجلسة دراسة أخرى بعنوان “تقييم التماسك المجتمعي في شمال غرب سورية”، للباحث رشيد محمود حوراني، تحدث خلالها عن أثر موجات التهجير القسري من كل المناطق السورية في البنية الاجتماعية والتفاعلات فيما بينها في المجتمع الجديد، وعن أبرز الظواهر التي أحدثت تغييرًا في العلاقات الاجتماعية، والارتدادات السلبية الناجمة عن مظاهر خلل التماسك المجتمعي، والآليات والسبل التي من شأنها تعزيز الاندماج الاجتماعي في المنطقة.
وحول أهمية هذه الدراسة، قال حوراني: “اعتمدت الدراسة على الملاحظة والمقابلة مع أكثر من 18 أكاديميًا في شمال غرب سورية، وتأتي أهميتها من خلال تسليط الضوء على الهجرات التي وفدت إلى المنطقة (الداخلية القسرية من المناطق السورية، والخارجية التي تمثلت بالجهاديين)، وعلى فئات اجتماعية وليدة، كمجهولي النسب والأرامل، وتبيان مفهوم المجتمعات المتوازية، كمجتمع أفرزته الضرورات الاجتماعية، إضافة إلى أن الدراسة تلفت الانتباه إلى الموقف السياسي للمواطنين في شمال غرب سورية، حيث يكون له دور كبير في تحقيق التماسك الاجتماعي، إن استُثمر بشكل جيد، على الرغم من خضوعه لسلم الأولويات، بسبب الظروف المعيشية القاسية في المنطقة”.
أما الباحث حمدان أحمد العقلة، فقد قدّم دراسة بعنوان “أسئلة الهوية وحضورها بعد عام 2011”، تحدث خلالهاعن طبيعة الهويات التي حضرت في سورية ومضمونها، والشكل الأنسب الذي يجب أن تتخذه هوية الدولة السورية في المستقبل، وحقيقة الهوية الدينية وتأثيرها على الثورة، والقومية الكردية بوصفها هوية.
وذكر العقلة أن الحديث عن الهويات التي ظهرت مع بداية الثورة السورية ما يزال مستمرًا؛ لأن هذه الهويات ما تزال مستمرة في التطور والتغيير باستمرار ثورة الشَّعب. واستنتجت الدراسة أن قدرة النظام الحاكم على تحويل مجرى الصراع إلى حرب طائفية جاءت نتاج الدعم من إيران وميليشيا “حزب الله”، والميليشيات الطائفيَّة (الشيعيَّة)، مما قاد إلى خلق هويةٍ قاتلةٍ، أو استحضارها من التاريخ لتمارس مظلوميتها التاريخية على الثورة الشعبية، فأدى ذلك إلى تهجير الملايين.
بعد ذلك، قدّم الباحث رامي منادي الخليل دراسة بعنوان “القضاء العشائري في دير الزور .. أدوار محلية في بناء السلام المجتمعي”، تحدث فيها عن دور القضاء العشائري، كأداة محلية، في بناء السلام المجتمعي، في ظلّ غياب القضاء الحكومي، إضافة إلى الدور المستقبلي المتوقع للقضاء العشائري الذي سيُسهم في حل كثير من النزاعات والقضايا المحلية التي ورثها المجتمع نتيجة الحرب المستمرة في سورية.
وأوصت الدراسة بضرورة توحيد جهود الفاعلين المحليين في القضاء العشائري، ودعم جهودهم في فض النزاعات المحلية، وذلك عبر مجموعات عمل تدرس القضايا القائمة ووسائل التدخل وفق الأدوات المحلية، ودعم وتسهيل أدوار القضاة العشائريين والمصلحين الاجتماعيين على الصعيد الاجتماعي المحلي والإعلامي والقوى المسيطرة لزيادة المساهمة في تخفيض مستوى العنف، وأن يحظى الفاعلون في القضاء العشائري بدعم برامج المنظمات والجهات الدولية الفاعلة بدير الزور، وخصوصًا في تعزيز مهارات وقدرات هؤلاء الفاعلين في المجتمعات المحلية في الوساطة وإجراء الحوارات وفض النزاعات وبناء السلام.
واختتمت الجلسة الأولى، من اليوم الرابع للمؤتمر، بدراسة للباحث إياد حميد بعنوان “دور المنظمات الإنسانية في إغاثة اللاجئين من الإمبراطورية العثمانية (1919-1923)“، وقدمت الدراسة تحليلًا لممارسات المنظمات الإنسانية العاملة في الإمبراطورية العثمانية في الفترة من 1919-1923، من خلال تحليل جهود وأعمال منظمة (Near East Relief) في محاولة لتقديم فهم أقوى لكيفية تمكّن المنظمات الإنسانية من التأثير في الفهم الدولي لنظام اللاجئين المشكّل حديثًا.
وتضمنت الجلسة الثانية، وقد أدارها سمير سعيفان، دراسات عدة حول إعادة إعمار سورية والفن السوري في زمن الاستبداد وغيرها من المواضيع.
وقدّم الباحث محمود الحسين دراسة بعنوان “النماذج المختلفة لإعادة الإعمار.. كيف يمكن إعادة إعمار الدول الهشّة التي مزقتها الحرب؟ سورية نموذجًا”، وتبحث الدراسة في إعادة إعمار سورية باعتبارها دولة هشّة أو منهارة، وفي سبل الإصلاح المؤسساتي، والعودة الآمنة للاجئين، والعمل على إعادة بناء القطاعات الحيوية وإصلاح البنية التحتية، وترى أن الشرط الأساسي لتحقيق إعادة الإعمار هو تحقيق “السلام المستدام”.
وتفترض الدراسة أن البدء بعمليات إعادة الإعمار من دون حل سياسي، ومن دون حل جذور النزاع، سيؤدي إلى انفجار الأوضاع مجددًا، بل سيؤدي إلى تعزيز سلطة الأنظمة الدكتاتورية وترسيخ حكمها المستبد، وهذا ما سيؤدي، في ظل الوضع الراهن، إلى تآكل مؤسسات الدولة وانهيارها.
وناقشت الدراسة الثانية وهي بعنوان “خطة أولية لإعادة الإعمار في سورية: دراسة بحثية عن عملية إعادة الإعمار في سورية بعد النزاع”، تحدث عبد الرزاق الحسيني عن إمكانية إعادة الإعمار بعد انتهاء النزاع المسلح في سورية، والسيناريوهات المحتملة، وصراع الشركات الدولية والإقليمية الكبرى للحصول على الحصة الأكبر من المكاسب، وعن النتائج المحتملة على مستوى العدالة الانتقالية وتعويض المتضررين، وانعكاس ذلك على السلام في المجتمع والدولة السورية.
خرجت الدراسة بعدد من التوصيات، كان أبرزها تعزيز دور السلطات المحلية المنتخبة (في الدولة الجديدة) وتفعيل مبدأ اللامركزية الإدارية، حيث القبول المجتمعي، والقدرة على تحديد الأولويات، والحرص على التنمية المتوازنة بين المدينة والريف، وتقسيم الموارد ومنح الأولوية للمشاريع الخدمية والصحية والتعليمية، وفقًا للرؤية الوطنية المتوافق عليها بين جميع الأطراف، بعد إجراء عمليات تقييم للأضرار في مختلف المناطق، وتأسيس هيئة خاصة بقضايا إعادة الإعمار وأولوياتها، تكون مهمتها وضع الخطة الفنية ومتابعة تنفيذها والتنسيق بين الجهات المختلفة المعنيّة بتنفيذ الخطة، ومن الممكن أن يشارك في الهيئة فنيون وممثلون عن الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني المدنية.
أعقب ورقة الباحثَين تعليق من سمير سعيفان، حول أهمية موضوع إعادة الإعمار، حيث شدد على ضرورة البدء بالتفكير بمشكلاتنا المستقبلية، وتقديم تصورات للأفكار وحلول للعقبات المتوقعة. وقال سعيفان: “لا شك في أن إعادة الإعمار هي عملية متعددة الأوجه، فإلى جانب عملية إعادة الإعمار المادي، التي هي إلى حد ما ملموسة، هناك عملية إعادة الإعمار المجتمعي، وهي الأصعب، إضافة إلى إعادة الإعمار السياسي والإداري والعسكري والقضائي والثقافي، وبالتالي يشكل هذا الملف عبئًا كبيرًا جدًا، ونسعى بدورنا للإسهام في جزء منه، من خلال الدراسات والبحث العلمي”.
وفي ختام الجلسة، قدّم الباحث والفنان التشكيلي فهد شوشرة دراسة بعنوان “الفن في زمن الاستبداد”، تحدث فيها عن واقع الفن التشكيلي السوري في السنوات العشرة الأخيرة، واستعرض نماذج من التجارب التشكيلية التي أبدعها فنانو سورية الثائرون. وسلّطت الدراسة الضوء على التحول الفكري عند بعض الفنانين التشكيليين المهجّرين قسرًا، من خلال تحليل بعض الأعمال الفنية التي أُنتجت خلال هذه الفترة التحوليّة في تاريخ الفن التشكيلي في سورية، إلى جانب بعض الأعمال الفنية لأطفال المخيمات المنتشرة في الشمال السوري ومخيمات أخرى في دول الجوار، كمخيم الزعتري.
في ختام أعمال المؤتمر، وجّه سمير سعيفان كلمة شكر إلى جميع الباحثين المشاركين، وكل القائمين على تنظيم وتنفيذ المؤتمر، وأعلن عن تنظيم المؤتمر الثالث للباحثين الاجتماعيين العام القادم، معربًا عن أمله في عقد المؤتمر فيزيائيًا، في مدينة إسطنبول، في حال انتهاء الإجراءات الوقائية المتعلقة بجائحة كوفيد 19.
وألقى الدكتور خضر زكريا، رئيس الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، كلمة مختصرة عبّر فيها عن سعادته بحضور جلسات المؤتمر، والمناقشة الحيوية الحرة للجميع، وأشاد أيضًا بالمستوى العالي لمعظم الدراسات التي قدّمها المشاركون.
كذلك قام الدكتور يوسف سلامة، رئيس تحرير مجلة قلمون، بتوجيه كلمة شكر إلى جميع المشاركين، مشيدًا بالمستوى العالي الذي تميزت به دراسات المؤتمر لهذا العام، قياسًا إلى المؤتمر الأول، معتبرًا أن هذا أمر ايجابي ويدعو إلى التفاؤل بالمستقبل القريب.
يُشار إلى أن المؤتمر الثاني للباحثين السوريين انطلق يومي 15 و16 كانون الثاني الجاري، واستكمل أعماله يومي 22 و23 من الشهر ذاته، ويسعى مركز حرمون للدراسات المعاصرة والجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، بالاشتراك مع مجلة قلمون، إلى أن يتحول المؤتمر إلى تقليد سنوي يجمع الباحثين السوريين المشتتين في أنحاء العالم المختلفة، وإلى تحقيق رسالته بإتاحة الحرية الأكاديمية لجميع الباحثين في العلوم الاجتماعية، وبتعزيز التبادل الحر للآراء ووجهات النظر، ولا سيّما في ما يخص مستقبل سورية المنكوبة بالاستبداد والتدمير والاحتلالات المتعددة.