يسر مجلة (قلمون للدراسات والأبحاث) – بوصفها إحدى مؤسسات مركز حرمون للدراسات المعاصرة – أن تعلن عن استهلال العام الثاني من نشاطها الأكاديمي بإصدار العدد الخامس الذي يتركز الاهتمام فيه حول شاغلين سوريين جوهريين، يتداخل فيهما السياسي بالثقافي؛ الأول هو الثورة السورية في ذكراها السابعة، والثاني يتعلق بـ (جائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي). وقد يكون من المفيد أن نستهل هذه الافتتاحية بإلقاء نظرة عجلى على مضمون الأعداد الأربعة التي صدرت في العام الأول ليتبين القارئ المنزلة الخاصة التي يحتلها الشأن السوري في صفحات “قلمون”.
ويعلم المتابعون والمهتمون أن عدد “قلمون” الأول قد كُرّس لذكرى الراحل (صادق جلال العظم). فقد تم إنتاج ملف فلسفي وفكري وسياسي لإبراز إسهامات مفكرنا السوري، وحرصنا على أن يغطي كثيرًا من جوانب فكره وحياته.
ويمكن القول عن العدد الثاني من “قلمون” إنه قد احتوى على ملف فريد في التاريخ السوري الحديث حول (السوريون الكرد: التاريخ والثقافة). وقد أسهم في هذا الملف، بجهد الكتابة والتحليل والتأريخ، ما يزيد على عشرين كاتبًا ومثقفًا سوريًا كرديًا. وقد شكل الملف بجملته مناسبة فريدة عبّر السوريون الكرد من خلالها عن أنفسهم تعبيرًا حرًا، وصّوروا رؤيتهم إلى مستقبل الوطن السوري، على النحو الذي ارتضوه وشاؤوه من حيث هم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن.
وأما العددان الثالث والرابع، فقد تم تخصيصهما لشخصيتين سوريتين بارزتين كل منها في ميدانها الخاص. وهكذا خُصِّص ملف العدد الرابع للبحث في الدور الإعلامي والصحافي الرائد للراحل حسين العودات، بينما خُصِّص ملف العدد الثالث لذكرى الراحل ياسين الحافظ. ومن المفيد أن نوضح أن مركز حرمون للدراسات المعاصرة قد خصص جائزة لذكرى الراحل حسين العودات تقديرًا لجهده في ميدان الصحافة والإعلام. وهي جائزة سنوية، وأُعلن عن الفائزين بها في دورتها الأولى. كما أن مركز حرمون للدراسات المعاصرة خصص جائزة لذكرى ياسين الحافظ ودوره الرائد في ميدان التفكير السياسي تحت اسم (جائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي). وهي جائزة سنوية، تم الإعلان عن الفائزين بها في دورتها الأولى بتاريخ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. (انظر كل القرارات الإدارية المُنظمة لهذه الجائزة) ([1]).
ولكن لماذا خصص مركز حرمون للدراسات المعاصرة جائزة للفكر السياسي مقترنة باسم ياسين الحافظ؟ وللإجابة على ذلك نقول:
أول هذه الأسباب، وفي مقدمتها جميعًا، عدم وجود دولة سورية مُنصفة تعترف بالفضل لأهله من أبنائها من المفكرين والمبدعين في شتى مجالات الحياة، وإنزالهم المنزلة التي يستحقونها، فيكون ذلك تشجيعًا لكل ذي موهبة على صقل موهبته، ما دام أن الجهد الذي يُقدم عليه ذوو الهمة من المبدعين سيلقى من الاعتراف ما يستحق من جانب المؤسسات الاجتماعية والسياسية.
الثاني تشجيع الشباب على الانخراط في العمل الفكري والإنتاج الذهني الذي سيحدد، في النهاية، المنزلة التي يشغلها كل شعب في سُلم الابداع والتحضر الإنساني. فلم تعد اليوم القوى العسكرية والثروة الاقتصادية إلا انعكاسًا لمستويات الإضافة والإبداع التي يستطيع شعب ما تحقيقها في إنتاج المعرفة النظرية وتطبيقاتها التكنولوجية.
الثالث الدعوة إلى إحياء التفكير المستقل والنقدي الذي كاد أن يموت، إلا قليلًا، في ظل النُظم الاستبدادية التي هيمنت على المنطقة ابتداء من منتصف القرن العشرين وحتى يوم الناس هذا.
الرابع التأكيد على أن الإنسان السوري، على الرغم من كل ما تعرض له من القهر والظلم، فإنه ما يزال قادرًا على التفكير المستقل والحر والنقدي، وهو ما تجلى في تفجيره الثورة السورية قبل سبعة أعوام. والشواهد كلها تدل على أن الثورة مستمرة، وأن فكرتها في تعمق مستمر في أرواح السوريين ووجدانهم، على الرغم من وحشية النظام والهمجية الروسية والبربرية الإيرانية، فضلًا على العنف غير المسبوق للميليشيات الشيعية والتنظيمات الجهادية السنية.
الخامس التذكير بميراث ياسين الحافظ في مجال التفكير السياسي، والدعوة إلى قراءته ودرسه ونقده وتطويره في الاتجاهات الكونية والحضارية التي كانت الشغل الشاغل لياسين الحافظ طوال حياته القصيرة، ولكن الغنية بالإضافات الفكرية والمنهجية والنقدية.
ومع أنه قد مضى أربعون عامًا على وفاة ياسين الحافظ، فإن ملاحظاته حول الدولة العربية ما تزال محتفظة بكل صدقها ودقتها. فلأن العرب لم يتجاوزوا العصر المملوكي في تطورهم، ظلت دولهم سلطانية من الناحية السياسية، وريعية من الناحية الاقتصادية، ومن ثم ظلت دولة مهزومة أمام أعدائها في الخارج، ومنتصرة دومًا على شعوبها في الداخل ([2]).
وتجنبًا للإطالة والتكرار سنكتفي بالإشارة المقتضبة إلى موقف ياسين الحافظ من السياسة والوعي الكوني للكشف عن راهنية رؤيته وفاعلية تحليلاتها وقوة حجته. فالخلل كله قائم – في نظر ياسين الحافظ – في السياسة، نظرًا وممارسة، ومن ثم فلا سبيل إلى النهوض والارتقاء بالحياة في هذه المنطقة إلى مستوى العصر إلا بضرب من الراديكالية السياسية التي تؤدي إلى قطيعة مع العالم القديم، والاندماج مع العالم الراهن. فمن شأن هذا الاندماج أن يسمح لمقولات الحداثة والعلمانية والمجتمع المدني والديمقراطية السياسية بإعادة إنتاج مجتمعات المنطقة وفقًا لهذه المقولات التي ينبغي النظر إليها على أنها ملك للإنسانية جمعاء، بدلًا من النظر إليها على أنها مقولات قومية تنتمي إلى أمم بعينها. فانعتاق البشر في هذه المنطقة من ربقة التقليد – ممثلًا في الأيديولوجيات الدينية والسياسية – مشروط بالخروج من مستنقع النزاعات المحلية التقليدية، وبشتى صور القمع الروحي والمادي التي تمارسها السلطات مستندة إلى نصوص سماوية أو أرضية.
ويمكن لنا أن نورد كثيرًا من أفكار ياسين الحافظ التي ما تزال محتفظة بعصريتها وفاعليتها. من ذلك مثلًا ما ذهب إليه بأن (الوعي الكوني) قادر على أن يلعب دورًا حاسمًا في إنضاج الشروط الأيديولوجية والسياسية لنقل المجتمعات العربية التقليدية إلى نمط من الوجود يتصف بالحداثة والمعاصرة. كما أن أهمية هذا المفهوم ترجع إلى كونه شرطًا ضروريًا لامتلاك النخب السياسية والثقافية لنوع من الوعي يسمح بتخطي مجتمعاتنا وعيَها المحلي، وانفتاحها على العصر. فالأمم المفوّتة لا سبيل لها إلى الخروج مما هي فيه من الفوات إلا عبر كوننة الوعي، الذي يسمح من ثمّ باستيعاب أيديولوجيا كونية، فتصبح بذلك قادرة على الانتقال بوعيها إلى صميم العصر. وبذلك يتغير معنى القومية، فلا تعود تشير إلا إلى تصفية العلاقات ما قبل الوطنية.
لهذه الأسباب وغيرها استحق ياسين الحافظ أن تُخصص جائزة لاسمه. فبينما انفرد ياسين الحافظ بالتركيز على الحاضر والمستقبل، انشغل المفكرون القوميون معظمهم، السابقون عليه والمعاصرون له، بماضي الأمة ورسالتها الخالدة الموهومة.
وإذا ما عدنا إلى تقديم إشارات سريعة تتعلق بمضمون العدد الخامس من قلمون، لقلنا: إن الشاغل السوري الأول الذي توقفنا عنده طويلًا هو الثورة السورية في ذكراها السابعة. وقد خصصت دراستان مهمتان خارج الملف، عالجت إحداهما علاقة العشائر بالثورة السورية، بينما انصبّت الثانية على استكشاف مفهوم جديد للأمن الوطني.
وفي ما يتعلق بالثورة السورية في ذكراها السابعة، فقد آثرنا الحديث عنها باتباع طريقة مختلفة تمثلت في إعداد ورشة موسعة تتكون من اثني عشر محورًا، تم تبويبها في أربعة محاور متشعبة من خلال عدد من الأسئلة التي تغطي جوانب كثيرة من هموم الثورة ومآزقها، نجاحها وإخفاقها، حاضرها ومستقبلها. وقد عرضت الأسئلة، بمحاورها المتعددة، على أكثر من ثلاثين شخصية سورية من مفكرين وسياسيين وخبراء استراتيجيين وكُتاب وصحافيين وناطقين رسميين بلسان بعض الفصائل وبعض الأحزاب السياسية. وكانت الحصيلة ورشة زادت كلماتها عن 28000 كلمة. ومن شأن هذا الجهد أن يُمكن القارئ من الاطلاع على كثير من وجهات النظر التي قد لا يتيسر التعبير عنها في عدد محدود من المقالات والدراسات.
ومما وضعناه خارج الملف مقالين غير مُحكمين على قدر كبير من الأهمية افتتح بهما العدد، أولهما تحت عنوان (ما الثقافة: تأملات وأجوبة ناقصة) كتبه المفكر والناقد السوري الفلسطيني فيصل دراج، بينما كتب المقال الثاني المفكر السياسي السوري الكردي عبد الباسط سيدا تحت عنوان (قوة سورية).
أما الملف الرئيس للعدد الخامس، فمادته مأخوذة مما تقدم به المتسابقون من أبحاث إلى (جائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي) في دروتها الأولى، التي أُعلن عن الفائزين فيها بالمراتب الثلاث الأولى بتاريخ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وقد آثرت مجلة قلمون – تشجيعًا للشباب الباحثين – نشر البحوث العشرة الأُوَل بحسب الترتيب الذي انتهت إليه لجنة التحكيم التي اضطلعت بقراءة البحوث وتقويمها. ومن المهم الإشارة إلى أن لجنة التحكيم قد تكونت من سبعة من الأكاديميين البارزين ظلت أسماءهم طي الكتمان إلى ما بعد الإعلان عن نتائج المسابقة على موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي. ولن نعرض مضمون هذه البحوث في هذه الافتتاحية، لأننا سنترك البحوث تتحدث عن نفسها.
وفي ختام هذه الافتتاحية تتقدم مجلة “قلمون” بالشكر إلى من آزرها وتعاون معها وسهّل لها السُبل إلى أداء رسالتها، وتدعو الباحثين الأكاديميين جميعهم إلى متابعة نشاطاتها والمشاركة والكتابة في ما يحظى باهتمامهم من مشكلات ومشروعات.
ومجلة قلمون تؤكد من جديد التزامها بالقضايا الوطنية وهموم المنطقة على اختلافها، وستظل تكرس الجهد الضروري لهذه الغاية وما يقترن بها من هموم وأولويات.
رئيس التحرير
يوسف سلامة
محتويات العدد
أولًا: كلمة العدد | يوسف سلامة |
ثانيًا: المقالات | ||
1- ما الثقافة؟ تأملات وأجوبة ناقصة | فيصل دراج | |
2- قوة سورية في قدرتها على احترام تنوعّها واستثماره | عبد الباسط سيدا |
ثالثًا: ملف العدد | |||
1- المثقف العربي بين النظام وبنية النظام | أحمد تاوتي | ||
2- المثقف والوضع العربي الراهن، جدل الحضور والغياب | عمر التاور | ||
3- كسر الأطواق وسؤال القيمة: المثقف بين هزيمة وتحول دراسة نقدية مقارنة | جمال حسين الشوفي | ||
4- المثقَّف والسياسي في الأراضي الفلسطينية في ظل الانقسام هل استطاع المثقَّف أن يصنع الفارق؟ | أحمد فايق سليمان دلول | ||
5- المثقف العربي والتحولات الاجتماعية قراءة في مسار أزمة المثقف في العالم العربي | أحمد القضيب | ||
6- المثقف ودوره الاجتماعي: مقاربة نظرية المثقف العربي وتحديات المرحلة | ثائر أبو صالح | ||
7- المثقَّف في المنطقة العربيّة الدور والوظيفة في عالم اليوم | شوكت كمال غرز الدين | ||
8- الراقم والرقيم: المثقف العربي الرقمي رائد الحراك الثقافي العربي الرقمي دراسة في السمات والأدوار | حفيظ هروس | ||
9- تمثيلات المثقف المقاوم صورة المثقف في فكر إدوارد سعيد | محمد الهادي كشت | ||
10- أدوار المثقفين في السياقات الثورية والانتقالية العربية تقييم ومراجعة | زكرياء السرتي | ||
11- المثقف العربي مفكّرًا في الثورة قراءة في ماهية الثورة ودواعيها وتحدّياتها من منظور عزمي بشارة | |||
رابعًا: الدراسات | |||
1- العشائر والثورة السورية، الأدوار والإمكانات | رشيد الحاج صالح | ||
2- الأمن الوطني، دراسة نقدية للمفهوم | أحمد برقاوي | ||
خامسًا: ورشة عمل | ||
ورشة الذكرى السابعة للثورة السورية (2011- 2018) |
سادسًا: قراءة في كتاب | ||
1- الرواية المفقودة | مراجعة عماد الدين عشماوي | |
2- المسألة الشرقية الجديدة | مراجعة خديجة حلفاوي |
سابعًا: إصدارات مركز حرمون للدراسات المعاصرة |
([1]) يمكن العودة إلى الإجراءات الناظمة لهذه الجائزة، والمنشورة في موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة:
النظام الأساسي لجائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي:
https://harmoon.org/archives/2709
تأليف الأمانة العامة لجائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي
https://harmoon.org/archives/6757
مركز حرمون يعلن أسماء الفائزين بجائزة ياسين الحافظ في الفكر السياسي بدورتها الأولى لعام 2017