في إطار مساعي (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) المستمرة إلى الاهتمام بالشؤون السورية من زواياها المختلفة، خصصت مجلة (قلمون) المحكمة عددها الثالث لفكر الراحل ياسين الحافظ، وهو واحد من المفكرين السوريين البارزين في مجال الفكر السياسي. ولد ياسين الحافظ في مدينة دير الزور في عام 1930، ولسوء الحظ فقد توفي مبكرًا (عام 1978)، لكنه لحسن الحظ، ترك ثروة فكرية ثمينة ما تزال علامات المعاصرة جزءًا لا يتجزأ من مضامينها الفكرية والسياسية والحضارية حتى وقتنا الراهن. ولقد خصصت المجلة -في وقت سابق- عددها الأول للاحتفاء بفكر الراحل صادق العظم، وكانت قد خصصت عددها الثاني لمجمل الشؤون التي تشغل بال السوريين الأكراد في الحقبة المعاصرة من تاريخ سورية والمنطقة، تحت عنوان (الأكراد السوريون: التاريخ والثقافة).
تضمن ملف هذا العدد من (قلمون) خمسة أبحاث:
في البحث الأول يفضّ جاد الكريم الجباعي تصور ياسين الحافظ لمفهوم (الثورة القومية الديمقراطية)، وينبه إلى أن مفهوم (التأخر التاريخي) هو المفهوم الأهم عنده، من أجل فك ألغاز العجز عن التحول إلى الحداثة والديمقراطية والدولة الوطنية، وغيرها من الأمور التي لا سبيل إلى تحقيقها من دون انتصار هذه (الثورة القومية الديمقراطية).
في البحث الثاني، يكشف منير الخطيب عن دلالة مفهوم الوعي الكوني ودوره الحاسم في «إنضاج الشروط الأيديولوجية والسياسية اللازمة لنقل الشعب العربي من نمط مجتمع تقليدي إلى آخر، أي إلى نمط حديث معاصر»، ولم يكن لمفهوم (الوعي الكوني) أن يحتل هذه الأهمية الاستثنائية -في نظر ياسين الحافظ- إلا لأنه الشرطَ الضروري لامتلاك النخب السياسية والثقافية هذا النوع من الوعي الذي يسمح بتخطي مجتمعاتنا وعيَها (المحلوي) وانفتاحها على العصر.
في البحث الثالث، يواصل صقر أبو فخر مسيرة البحث عن المفهومات عند ياسين الحافظ، كاشفًا عن قابليتها غير المحدودة للانطباق على الظواهر التي انشغل مفكرنا بدراستها ومعالجتها. ومن أهم المفهومات الجديدة التي نلتقي بها هنا هو مفهوم (الاندماج الاجتماعي والقومي)، فضلًا على التقابل الذي يقيمه ياسين الحافظ بين (القومي والأقوامي). وفي التطبيق الإجرائي لهذه المفهومات، أظهر مفكرنا وعيًا عميقًا وبصيرة نافذة، عندما قرر أن «مشكلة الأقليات العربية هي إحدى ظاهرات مشكلة الأكثرية»، أي إن على الأكثرية مهمة تاريخية تتمثل في «صوغ مشروع سياسي ديموقراطي، لإدراج الأقليات الطائفية والإثنية وإدماجها في إطار الدولة الوطنية المؤسسة على الديمقراطية والعلمانية والمواطنة والمساواة.
في البحث الرابع، يتابع عبدالله تركماني تجربة البحث عن المفهومات التي بُنيت منها الشبكة المنهجية التفسيرية لدى ياسين الحافظ، فيكشف لنا عن مفهوم (الوعي المطابق)، وهو في نظر الكاتب بمنزلة (أداة نظرية ناجعة) قد «عنت انتاج وعي مناسب لحاجات هذا الواقع للتقدم». وإذا كان التقدم يعد الحاجة الرئيسة والمصيرية للعرب، فإن الباحث يظهر أن استخدام مفهوم (الوعي المطابق) قد مكن مفكرنا إزاحة كثير من العقبات والصعوبات السياسية والأيديولوجية الناجمة عن قصور التحليل وضعف التنظير وترهل المفهومات لدى البعثيين والناصرين في التيار القومي، بينما كشف هذا المفهوم نفسه في الماركسية العربية عن «ضيق العبارة والأفق وتكلس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية».
في البحث الخامس والأخير، يؤكد طارق عزيزة أن فكر ياسين الحافظ، نتيجةً لما انطوى عليه من أدوات منهجية عصرية، أثبت نجاعته في تحليلاته المتعمقة لكثير من أوجه التخلف والسبل الممكنة للخروج منه، الأمر الذي يدل على راهنية هذا الفكر. والباحث يستدل على صحة حكمه هذا بالرجوع إلى الفاعلية والكفاية التي استخدم بها ياسين الحافظ مفهومه عن (العلمانية)، فلمْ تعد تعني الإلحاد، بل الوقوف على مسافة واحدة من الأديان كلها. وبذلك، تحولت العلمانية إلى رائز للحداثة ولكل ما هو حداثي، ومن ثم فقد أصبح من المتعذر على أي أيديولوجية قومية أو ثورة اشتراكية إلا أن تكون مقترنة بالعلمانية، والنتيجة هي أن العلمانية لم تعد تحيل على محض فكرة أو تصور ذهني فحسب، بل أنضجت حالة فعلية للواقع التاريخي والسياسي.
يُختَتم ملف ياسين الحافظ بشهادة ثمينة من سعيد ناشد الأستاذ في الجامعات المغربية، ويلقي فيها ضوءًا على القيمة العامة لفكر ياسين الحافظ من ناحية، ويكشف فيها، من ناحية أخرى، عن الطريقة التي تعرف بها المفكرون في المغرب العربي إلى هذا الفكر الوارد من المشرق. ولم تغفل هذه الشهادة عن الإشارة إلى التفاعل الخلاق والمبدع بين فكر ياسين الحافظ والإنتلجنسيا المغربية والإعجاب الذي حظي به أيضًا.
في هذا العدد أيضًا استعراض لمجريات ورشة العمل دارت تحت عنوان: ثورات الربيع العربي من منظور مفهوم (التأخر التاريخي)). لقد أتاحت الورقة الخلفية لهذه الورشة، بما انطوت عليه من أسئلة مهمة وُجهِّت لعدد من المهتمين بالشأن العام والسياسي، بصفة خاصة؛ تقديم رؤى غنية متعددة ومتنوعة ومتباينة في قيمة مفهوم (التأخر التاريخي) من الناحية النظرية، وجدوى تطبيقاته من الناحية العملية.
في هذا العدد أيضًا مواد أخرى ذات صلة قوية بفكر ياسين الحافظ، وذلك لأن مشروعه قد انصب أساسًا على التنمية السياسية للحياة الاجتماعية من جهة، وعلى تنمية وعي الفرد بذاته وتأكيد استقلاله وحريته من جهة أخرى. والعرض الآتي، في حد ذاته، كاف للكشف عن هذه العلاقة، سواء في المقالين غير المحكمين اللذين يُفتَتح بهما هذا العدد، أو من خلال الدراسة المتعلقة بأزمة التنمية في العالم العربي. ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا العدد من (قلمون) يُختتم بمراجعة لكتابين يهتم أحدهما بتحليل صورة (الآخر)، من خلال دراسة ميدانية أُجريت على المترددين على (معهد العالم العربي) في باريس، بينما ينصب الثاني على (التعبيرات الرمزية) التي اتخذها الصراع بين الفرقاء المصريين، في ما بعد الخامس والعشرين من يناير في مصر. وكلا الكتابين نافع في بابه، ويكشف بجلاء عن أهمية الموضوع الذي يعالجه.
وإذا ما عدنا إلى المقال غير المحكم الأول الذي كتبه عالم الاجتماع والمفكر السوري خضر زكريا، تحت عنوان (في التنمية)، وجدناه ينطلق في تناوله لهذ المفهوم من رؤية للإنسان، مختلفة الاختلاف كله عن النظرة السائدة في هذا النوع من الدراسات التي تُعلي من أهمية العنصر الكمي المجرد في دراسة التنمية وتحليلها.
أما في المقال غير المحكم الثاني، وهو ما جاء بعنوان (التمثلات الجمعية للآخر السوري: النسق الوظيفي لشرعنة العنف)، فإن حسام السعد يقدم لنا قراءة عميقة متميزة ودقيقة لرؤية السلطة والموالين لتطور صورة السوري وانقسامها على ذاتها، بفعل أحداث الربيع السوري التي أفضت بالموالين إلى إنتاج نسق وظيفي أصبح من الممكن بموجبه للموالين والسلطة، على حدٍ سواء، أن ينتجوا تبريرًا لممارسات القتل والاعتقال والاضطهاد والتهجير القسري وغيرها من صور العنف، في حين إن هذا النسق -في حقيقته- لا يزيد عن كونه ناجمًا عن سلسلة من عمليات الاستبدال الزائفة والوهمية.
أما الدراسة الأخيرة فقد كتبها يونس بلفلاح، الأستاذ في جامعة ليّل الفرنسية، تحت عنوان (أزمة التنمية الإنسانية الشاملة في العالم العربي: دراسة في تأثير الاستبداد السياسي والريع الاقتصادي في المسار التنموي). وهنا، يبين لنا الباحث أن العالم العربي قد عرف لعقود طويلة عجزًا تنمويا كبيرًا يرجع إلى تفشي الاستبداد السياسي والريع الاقتصادي، ما أدى إلى أزمة كبيرة في التنمية الإنسانية الشاملة.
على الرغم من كل ما قيل في العدد عن الحافظ، فإن مزيدًا من القول في فكره لم يزل ضروريًا، ولا تتعلق هذه الزيادة ببسط فكره، بل بنقده ومراجعته، بقصد تخطي ميل الكثير من العرب إلى تقديس الماضي، عندما تصبح محتوياته جزءًا من التراث. فبغير هذه المراجعة يستعصي تبين الحي من الميت، ويصبح فكره ذا بعد واحد متعالٍ على النقد، إذا ما راق لثلة من حوارييه التسامي به فوق النقد، وهو ما لا ينسجم وفكر الحافظ نفسه.
كتّاب العدد الثالث (بحسب ترتيب المشاركة) يوسف سلامة
- حائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة.
- عضو مجلس أمناء مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
- مدير معهد الجمهورية لمنهجيات البحث العلمي في مركز حرمون.
- عمل أستاذًا للفلسفة الغربية في جامعة دمشق، وباحثًا وأستاذًا في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى سابقًا.
- له عدد من المؤلفات المنشورة.
خضر زكريا
- رئيس مجلس أمناء مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
- حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة موسكو الحكومية (لومونوسوف) في عام 1971. وعين بعدها عضواً في الهيئة التدريسية في جامعة دمشق، وعمل أستاذاً ورئيساً لقسم علم الاجتماع في كل من جامعات دمشق ووهران وعدن وقطر.
- يعمل خبيراً في وزارة التخطيط التنموي والإحصاء بدولة قطر منذ 2007 حتى الآن.
- أسهم في صياغة تقرير التنمية البشرية الأول لدولة قطر، وفي صياغة السياسة السكانية واستراتيجيات الأسرة والمسنين والشباب وغيرها.
حسام السعد
- دكتور في علم الاجتماع، مدرس سابق في جامعة دمشق، خبير في البحوث النوعية، له أبحاث ودراسات اجتماعية عدة، مدير وحدة البحوث في مركز حرمون للدارسات المعاصرة.
جاد الكريم شرف الجباعي
- مفكر وكاتب سوري، من مواليد السويداء 1945، متخرج في دار المعلمين العامة عام 1965، ومجاز من جامعة دمشق، قسم اللغة العربية وآدابها، عام 1968. عمل مدرسًا للغة العربية وآدابها في ثانويات اللاذقية، والسويداء، ودمشق حتى عام 1982، ثم محررًا ومدققًا في هيئة الموسوعة العربية بدمشق من عام 1987 حتى عام 2000.
منير الخطيب
- كاتب سوري ومهندس مدني، تخرج في جامعة دمشق عام 1986، يكتب في عدد من الصحف والدوريات العربية، من أبرزها صحيفة الحياة اللندنية.
صقر أبو فخر
- كاتب وباحث متخصص في الصراع العربي- الصهيوني وقضية فلسطين. عمل في مركز التخطيط في بيروت. ثم في الموسوعة الفلسطينية، وأصبح رئيساً لقسم النشر في مؤسسة الدراسات الفلسطينية وسكرتير تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية. تولى إصدار (ملحق فلسطين) في جريدة (السفير) اللبنانية حتى توقفها. له ما يربو على عشرة مؤلفات منها: (الحركة الوطنية الفلسطينية: من الكفاح المسلح إلى دولة منزوعة السلاح) (2002) و (الدين والدهماء والدم: استعصاء الحداثة في العالم العربي) (2007)، و (أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية) (2013).
عبد الله تركماني
- حائز على شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر.
- باحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
- نشر ثمانية كتب، كان آخرها: (مقدمات ربيع الثورات العربية ومآلاته).
طارق عزيزة
- باحث سوري من مواليد اللاذقية 1982. يحمل إجازة في الحقوق من جامعة دمشق (2006). يكتب في عدد من الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية ومراكز الدراسات. عمل أستاذًا للتاريخ المعاصر في (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO) ببيروت حتى نهاية عام 2014 حيث انتقل للعيش في ألمانيا. من مؤلفاته: العلمانية (2014). جبهة النصرة لأهل الشام (2013)، ومع آخرين: ياسين الحافظ معاصرًا (2015)، استراتيجية سلطة الاستبداد في مواجهة الثورة السورية (2014).
سعيد ناشيد
- مفكر مغربي، ناشط في مجال التنوير العمومي، وعضو رابطة العقلانيين العرب، صدرت له مؤلفات ودراسات في الفلسفة وقضايا الإصلاح الديني عن أشهر دور النشر والمنشورات العربية.
يونس بلفلاح
- كاتب وأكاديمي مغربي مقيم بفرنسا، أستاذ محاضر في جامعات فرنسية مختص في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، وباحث مشارك في عدد من مراكز الأبحاث العربية والأوروبية. له مقالات وأبحاث منشورة بالعربية، والفرنسية والإنكليزية.
سعيد بوكرامي
- كاتب ومترجم مغربي من مواليد عام 1965 يقيم بالدارالبيضاء في المغرب. يعمل في وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي. رئيس الصالون الأدبي بالدار البيضاء وصالون أدب الطفل. مدير مجلة أجراس الثقافية للابداع وحرية الكتابة. محرر ثقافي في عدد من المنابر العربية. من بين إصدراته: مدخل إلى فن الاقتناء العربي من منشورات مديرية الفنون بالشارقة 2013. ترجم رسائل غرامشي إلى أمه عن دار طوى في عام 2015.
عماد الدين عشماوي
- رئيس مؤسسة بذور الثقافية. باحث في الشؤون السياسية والثقافية، ينجز حاليا رسالة ماجستير عن المشروع الحضاري المستقل في فكر عبد الوهاب المسيري، ومهتم بأسباب إخفاق العرب في النهوض، وكيفية إعادة بناء العربي المعاصر ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ليكون مؤهلاً لإنجاز نهضته المأمولة.
محتويات العدد الثالث من مجلة (قلمون)
أولاً: كلمة العدد | يوسف سلامة | |
ثانياً: المقالات | ||
1- في التنمية | خضر زكريا | |
2- التمثلات الجمعية للآخر السوري النسق الوظيفي لشرعنة العنف | حسام السعد | |
ثالثاً: ملف العدد | ||
1- الثورة القومية الديمقراطية دلالاتها وقيمها في فكر ياسين الحافظ | جاد الكريم شرف الجباعي | |
2- الوعي الكوني في مواجهة الاستنقاع المحلوي وعقد الهويّات | منير الخطيب | |
3- الاندماج الاجتماعي والمواطنة والعَلمانية قراءة في أفكار ياسين الحافظ | صقر أبو فخر | |
4- نقد الوعي التحرري العربي لدى الماركسيين والقوميين عند ياسين الحافظ | عبدالله تركماني | |
5- العلمانية في فكر ياسين الحافظ | طارق عزيزة | |
6- كيف وصل فكر ياسين الحافظ إلى اليسار المغربي؟ | سعيد ناشيد | |
رابعاً: الدراسات | ||
أزمة التنمية الإنسانية الشاملة في العالم العربي | يونس بلفلاح | |
خامساً: ورشة عمل | ||
ثورات (الربيع العربي) من منظور مفهوم التأخر التاريخي | منير الخطيب | |
سادساً: قراءة في كتاب | ||
1- الآخرية كممارسة ثقافية لدى مرتادي معهد العالم العربي | مراجعة سعيد بوكرامي | |
2- زمن الوحوش الضارية بحث في صراع الخطابات في مصر في سنوات الضباب والثورة والدم | مراجعة عماد الدين عشماوي |