في حوار اليوم، يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة الشاعرَ والناشط السياسي والمعتقل السابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي ياسر خنجر، ابن الجولان السوري المحتل. وهو عضوٌ في رابطة الكتّاب السوريين، وعضوٌ مؤسس في مركز “فاتح المدرّس للفنون والثقافة في الجولان السوري المحتل”.

صدر لضيفنا، حتى الآن، أربع مجموعات شعرية، وتُرجمت بعض قصائده إلى اللغات الفرنسية، العبرية، والألمانية. وصدرت عن “مؤسسة المعمل للفن المعاصر” في القدس ترجمةٌ مختارةٌ لقصائده إلى اللغة الإنكليزية، بعنوان “جراح الغيمة” (wounds of the cloud). وهو يتابع دراسته العليا “لغات وحضارات الشرق الأوسط القديم” في الجامعة العبرية في القدس.

صاحب «طائر الحرية»، يكشف في حوارنا معه كيف أن حافظ الأسد أعلن البلاغ رقم 66، قبل أن يدخل أي جندي إسرائيلي إلى القنيطرة، وكيف خان شعبه حين أعلن تحرير الجولان واستعادته من قبضة الاحتلال الإسرائيلي، يوم رفع العلم السوري على أحد مباني القنيطرة المدمرة بعد حرب 1973، ليضع نفسه أمام السوريين كـ “قائد محرر”، فوضع أهلنا في الجزء الذي ما زال يخضع للاحتلال أمامَ سؤال ذاتي: من يكونون إذا كان الجولان قد تحرّر؟!

في سياق هذا الحوار، يؤكّد ياسر خنجر أنه ينتمي إلى ثورة السوريين، ويرى أنها ضرورة يجب أن تكتمل مقوماتها لتتمكن من الوصول إلى الهدف المنشود. وتطرّق الحوار مع صاحب “سؤال على حافة القيامة”، إلىأثر تجربته السياسية والنضالية في نتاجه الشعري،وإلى مهمّةالشعر، ودور الشاعر اليوم، بعد نحو عقد على ثورات الربيع العربي، وفي خضم المأساة السورية، بعد أن حوّل نظام بشار الأسد كلَّ سورية إلى مقبرة واحدة كبيرة.. وهذا نصّ الحوار.

صدر لك حتى الآن أربع مجموعات شعرية، هي على التوالي: “طائر الحرية”، “سؤال على حافة القيامة”، “السحابة بظهرها المحني”، “لا ينتصف الطريق”. ما الذي منحك إياه الشعر، وماذا منحته أنت؟

من عادة الشعر أن لا يأخذ منّا غير ما نختار نحن أن نمنحه، وبالمقابل هو يعطينا كل ما نحتاج إليه، بحسب ما نختار. للشعر من الغواية ما يكفي ليجعل تفاصيل وقتي ملك أهوائه، هو شريك فاتنٌ قادرٌ على استدراجي إلى رغباته متى يشاء، بانسيابية واتّزانٍ كاملَين، لكنه يجفل ولا يحتمل أن يُجرّ إلى الأوراق مُرغمًا. أما علاقتي مع الشعر فقد أعطتني القدرة على الخيال دون أن أفلت من الواقع، أعطتني متعة العيش مع الحلم لا فيه، وأعطتني رغبة الكمال والتحرر من كل بشاعة تجد لها في الحياة ظلًا.

بفضل الشعر، أتقرّب من جماليات هذا الوجود، وأحاول أن لا أنتمي إلى غيرها. أعترف أن الشعر قد أعطاني أكثر مما أعطيته، وعلى الرغم من أنه كان سببًا في بعض الإخفاقات أو الخسارات التي عشتها في حياتي؛ فإني مدين له بكل ما أنا عليه من فرحٍ ومن أمل، من حبٍ ومن حزنٍ مقيم.

بين الشعر والسياسة

إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن تأثير التجربة السياسية والنضالية في إنتاجك الشعري؟

بدأت علاقتي مع الشعر كربطٍ مباشرٍ لتجربتي في السجن مع الفضاء الرحب خارجه، أو بصيغةٍ أخرى: كانت بداية علاقتي مع الشعر محاولةَ ترميمٍ للفراغات التي كنت أعيشها -بوجهيها الشخصي والعام- أثناء تلك التجربة، أحيانًا حين أعود إلى تلك القصائد الأولى، لا أستطيع العثور على تفاصيل السجن المختبئة بين الكلمات، بقدر ما أعثر على ذاتي هناك محمولة في تفاصيل الهواجس التي كانت تشغلني.

بعد خروجي من السجن، بدأت أشعر بأنّ عليّ أن أعيش الحياة أكثر مما أكتب عنها، ولكن هذه الحياة لم تكن بعيدة بأي شكل عن السياسة، فأنا وُلدت في مكان تتملك السياسة تفاصيله كلها وتتكثف في ملامحه، لذلك حين أنظر إلى أي زاوية في حياتي أجد فيها شيئًا من السياسة، وبما أني أكتب منطَلقًا مما يشغلني من أحاسيس وهواجس مرتبطة بالحياة التي أعيش؛ فقد كانت السياسة حاضرة بقوة، ولكنها ليست متفرّدة بل تعيش في الكتابة كما في الحياة إلى جانب كل مشاغلي الآخرى.

هل يعرف الشاعر ياسر خنجر لمن يكتب؟ ومن هو القارئ الذي يكتب له؟ وهل هناك جمهور حقيقي ومنظور يتأثّر بشعرك ويؤثّر فيه؟

القارئ الذي أكتب له متغيّرٌ دائمًا، لكل قصيدةٍ قارئٌ مختلفٌ في مخيلتي. الأساس لذلك هو أني أكتب مُنطلقًا من حالةٍ حسّيّةٍ وشعورية تستدعي في كل قصيدة مختلفة أن يكون القارئ مرتبطًا بتفاصيلها على نحو أو آخر.

من أعمال ياسر خنجر

القارئ المتخيّل الدائم لما أكتب هو ذلك الكائن الغريب الذي يعيش داخلي، وخاصة في اللحظات التي لا يُملي عليّ فيها ما يجب وما لا يُستحب ولا يفرض قوانينه، في لحظات الحرية من الرقابة الخارجية أو الموروثة تلك، أجدني أقرأ ما كتبت على مسامع نفسي، وأترك لذائقتي المتجرّدة من كل شيء أن تلغي هذا النص أو تعيد تركيب ذاك. أتردد كثيرًا في نشر أو مشاركة أي حرف، قبل أن يتقاطع أولًا مع ذائقتي الشخصية، وحين تتضعضع ثقتي أو تختلط عليّ الموازين، ألجأ إلى بعض الأصدقاء الجميلين الذين نتقاسم الهواجس معًا، لأختبر النص على مسامعهم وأراقب وجوههم دون أن ينتبهوا، فربما أعثر على مكامن الضعف أو التشتت، وقد نتشارك البوح بعد ذلك تجاه ما كان يُقلقني في النص، هؤلاء الأصدقاء هم الغربال الأول الذي يعبر منه كل ما أكتب. وفي الحديث عن جمهور شعرٍ حقيقيّ، أعتقد أن الإجابة تبدأ من السؤال: ما هو الشعر الحقيقي؟ ذائقة الناس تجاه الشعر متباينة جدًا، فهنالك من يجد أن الشعر الحقيقي هو ذاك القادر على إطراب المسامع، وآخرون يجدون الشعر الحقيقي في قدرة النص على نبش الأسئلة، وربما يذهب البعض إلى أن الشعر الحقيقي هو التزام النص بالقافية والبحور، وقد لا يطلقون اسم “شعر” على كل النصوص الحديثة. بالنسبة إلي، الشعر هو تلك الحالة التي يستطيع فيها الشاعر أن ينقل مزاجه، أحاسيسه وأفكاره إلى القارئ، بذائقة لغوية وحسّيّة خاصة، وكلما استطاع القارئ أن يجد في القصيدة ما يعنيه، نجح الشاعر في خلق جوّ عام متناغم وامتلَكَ قدرةً على التأثير.

ماذا عن المنفى، الشتات، الوطن، الأرض.. في قصائدك؟

المنفى حاضرٌ، ما دمتُ أجد نفسي منفيًّا في ذاتي، والشتات أيضًا حاضرٌ ما دمتُ لا أشعر باكتمالي، أما الوطن فهو الغاية التي لم أدركها بعد، والأرض امتداد لجسمي، وجميعها أجزاء من تركيب الهوية التي تشغلني، فلا أنا أستطيع الافتكاك منها، ولا هي تجد طريقًا أبعد من هواجسي.

هل ترى أنّ الشعر يحتمل احتواء تفاصيل مأساتنا السورية؟ وهل يستطيع أن يعيد تركيب حياتنا كما نريد؟

من أعمال ياسر خنجر

ليس من وظائف الشعر، باعتقادي، أن ينشغل بأي شيء خارج انشغال الشاعر عن تلك التفاصيل. المأساة السورية، بكل ما فيها من وجع ومذابح، وبكل ما فيها من حبّ وقليل من الفرح، وبكل ما خلقته من أمل وضرورة الانعتاق من قبضة الغول وبشاعته، حاضرةٌ في الشعر بقدر ما ينغمس الشاعر نفسه في أحداثها، وتكون مؤثّرة به، أو يسعى هو إلى التأثير فيها. الشعر منفتح على كل احتمالات البوح والمواضيع، أما الشاعر فهو من يختار وفق مزاجه وأهوائه، وبحسب انشغالاته، أي بابٍ سيفتح للقصيدة.

أحاول أن أرمم ذاتي في المأساة من خلال الكتابة، وأفشل في غالبية المحاولات إن لم يكن كلها، ولكني أواصل هذه المحاولات لكي تكون ذاكرة شخصية تجاه التفاصيل التي أعيشها، ولكي تكون أيضًا سيرة حسّية لا تهدف إلى كتابة التاريخ بقدر ما تهدف إلى حفظ ذاكرة هذه المرحلة أو تلك.

الشعر السوري صوت الناس الحقيقي

وأنت تقف في مواجهة قمع من جهتين: الاحتلال الإسرائيلي من جهة والنظام الأسدي من جهة أخرى، أسألك: ما مهمة الشعر؟ وما دور الشاعر اليوم، بعد نحو عقد على اندلاع ثورات الربيع العربي؟

الاحتلال والاستبداد يكملان بعضهما، ويستمد كلّ منهما أسباب بقائه من الآخر، وهما النقيض الصريح لمطلب كل إنسان حرّ. في المقابل فإن الشعر هو حالة شبه مطلقة من الحرية والسعي وراء الجمالي في الوجود.

على الشاعر أن ينتبه أولًا إلى المسافة التي يقف عليها من أعداء مشروعه الإنساني والجمالي، وأن لا يقع في مصيدة المفاضلة بين ما هو مكتمل البشاعة وما هو أقل بشاعة، بين الوحش الجائع الذي يفترس الآن ضحاياه ووحش آخر متخم من فرائسه، كل مفاضلة من هذا القبيل يقع فيها شاعرٌ تُقرّبه من الهاوية، إن لم يكن قد سقط فيها، فالوحوش والمجرمون لا يمكن أن يتصالحوا مع القيم العليا التي يقدسها الشعر، ولا يحتمل الشعر أن يتحوّل إلى زينة لهؤلاء.

لا أدّعي بأي شكل أن الشعر قادرٌ على هزيمة الاحتلال أو الاستبداد، ولكن عليه أولًا أن لا يتحوّل إلى نقيضه، وأن يتمسك بعلاقته المباشرة مع نداء الحرية ورغبة الانعتاق من فم البشاعة.

هنالك حلمٌ وأمل ينتظران أن يلتفت إليهما شاعر وأن يكنّس عنهما الغبار، هنالك حبّ وحزن يبحثان عمّن يضيء العتمة حولهما، وهنالك جراحٌ كثيرة لا بدّ من شاعرٍ يضمدها، فذاك أحد السبل إلى النجاة.

بتقديرك، لماذا لم تكن الفنون، وبخاصة الشعر، حاضرةً في الجولان المحتل قدر حضور الفعل السياسي النضالي، وتكون لها بذلك هوية خاصة؟

بداية، لا بدّ من الانتباه إلى أن الجولان المحتل صغيرٌ بتعداد سكانه الذين لم يتجاوزوا 25 ألف إنسان، كانت ظروفهم الخاصة بوقوعهم تحت الاحتلال هي العامل المركزي بوضعهم على الخريطة، وتحديدًا في بداية الثمانينيات، عندما أعلنوا موقفهم البطولي برفض قرار الضمّ وإضرابهم الشهير بعد ذلك مباشرة، في حين لم يكن للدولة السورية أي دور حقيقي في دعمهم. من هنا كان حضور الدور السياسي والنضالي طاغيًا على صورتهم. أما الحقيقة فهي أن الجولان وسكانه المقيمين حاليًا هنا يعيشون حالة من التنوّع والغنى والتعدّد، تمامًا كما يعيش أي مجتمع منفتح على الحياة.

لا أوافق تمامًا على أن الفنون لم تكن حاضرة في تجربة الجولان، فهنالك العديد من الفنانين والموسيقيين والكتّاب الذين كان لهم حضور مميز ورائد أحيانًا، أما الهوية الخاصة للفنون في حالتنا، فلا يمكن أن تكون لمجموعة صغيرة من الناس ينظرون إلى أنفسهم كجزء لا يتجزأ من مجتمعهم السوري وامتداد طبيعي لثقافته، من ناحية أخرى، إن الفنون تأخذ هويتها من عاملين أساسيين: الأول هو العمق الطبيعي لثقافة المشتغل في الفنون، ونحن سوريون بالكامل في هذه الحالة، والعامل الثاني هو القضايا التي تتناولها هذه الفنون، وعندئذ تبدأ الهوية الفلسطينية بأخذ صورتها ودورها المركزي في تشكيل المواضيع التي تتناولها الفنون. ولأن هوية أي جماعة من الناس قابلة للتمدّد والتقلّص، فقد اكتسبنا كثيرًا من الخصائص الفلسطينية في القسم الأكبر من شكل حياتنا اليومي وطبيعته، وبقينا سوريين على قدر ما يحتمل التاريخ والتراث أن يكون حاضرًا في انتمائنا، لذا أردد دائمًا إني سوري الانتماء والمزاج بمعانيهما التاريخية والمتوارثة، وأيضًا فلسطيني الظروف والمعيشة اليومية. هذا المزج بين الهويتين له كثير من الجوانب المضيئة، ويمنحنا كثيرًا من الاتساع والغنى، ولكنه في الوقت نفسه يفتح نافذة لكثير من الشوائب.

هل كانت الثورة السورية نِعمة أم نقمة على خريطة الشعر السوري الحديث؟ وكيف تفسّر ذلك؟

ليست الثورة -باعتقادي- رفاهية نذهب إليها مع ربطة عنق أو فنجان قهوة، هي ضرورة يجب أن تكتمل مقوماتها لتتمكن من الوصول إلى الهدف المنشود، والشعرُ -كما الفنون جميعها- لا بدّ أن يكون جزءًا طبيعيًا ومكملًا لما يعيشه مَن يتعاملون معه. هنالك كثير من الجوانب المميزة التي أضاءتها الثورة السورية في إبداعات الشعراء والفنانين، ربما كان أبرزها في الشعر نزوعه إلى الارتباط بالتفاصيل الحيّة التي يعيشها الناس، وتنازله عن عروش المجاز المفرط في التعقيد، وكانت الثورة نعمة بأن فتحت عيوننا أكثر على شعراء أنبياء كتبوا مفهوم الثورة في قصائدهم، قبل حدوثها بسنوات طوال، وأيضًا نبّهتنا إلى شعراء يكتبون نقيض ما يعيشه الناس.

في الوقت نفسه، صار الباب مفتوحًا للاطّلاع على إبداعات المبدعين من دون الرضوخ إلى رقابة اتحاد الكتّاب وقيوده، وهنا قد يجد البعض أن هذا الأمر فسح المجال أمام الغثّ والمبتذل من الفنون أن يطفو أيضًا، ولكني لا أرى بأسًا في ذلك؛ فالحياة ما زالت تحتمل بعض الرداءة في الفنون، وما دامت الحياة نفسها على قدر كبير من الرداءة، فكل إنسان يستطيع أن يختار ما يناسبه.

تمرّ المنطقة العربية اليوم بتحوّلات عميقة؛ فهل ينعكس ذلك على كتابتك الشعرية؟

ما أكتبه متأثّر دائمًا بالحياة التي أعيشها ويسعى إلى التأثير فيها. لا أكتب عادة من ترفٍ، وإنما بعد إرهاقٍ شديد، لذلك أفترض أنني أعيش الواقع أولًا، أصغي إلى إيقاعه، أحاول فهمه قبل أن أتبعه أو أغيّر وجهتي عنه. لست حجرًا فلا أتغيّر ولا ماءً أتقمّص شكل الإناء، لذلك أفترض أن كل حدثٍ أو تحوّلٍ يؤثّر في الواقع الذي أعيشه سيجد انعكاسًا في ما أكتب، ولكن بعد أن أكون قد وقفت على مسافة واضحة منه.

برأيك، ما الذي قدّمه الشعر السوري الحديث في عشرية الثورة للعالم؟

الجانب الرئيسي الذي أنظر إليه هو أن الشعر السوري الحديث استطاع في كثير من الأحيان أن يكون صوت الناس الحقيقي ويقدّمه إلى العالم، أن ينقل معاناتهم وآلامهم وآمالهم أيضًا. لا يستطيع الشعر أن يوقف المجزرة، ولكنه قد يحفظ الشعور بها للتاريخ، ومن الصعب حين نكون داخل هذه المجزرة أن لا ننشغل بها، قد لا يكون صوت الشعراء السوريين حاضرًا في الحيّز العام قدر حضور الكارثة، ولكن هذا طبيعي لأن الحياة الواقعية أكثر أهمية وتأثيرًا من الكتابة عنها، أليست هي الأساس! وبعض الشعراء كان لهم بصمة ودفعوا أثمانًا باهظة، إن كان في معايشتهم للثورة أو في السجن أو في النهايات الفجائعية. وما زلت لا أستطيع الفصل بين التجربة الحياتية للشاعر وبين إنتاجه، وأخلط بينهما.

أخطاء كثيرة واكبت مسار الثورة

يأخذنا الحديث معك من الشعر إلى السياسة، لأسألك: كيف ترى وضع الثورة السورية اليوم؟ أين نحن؟ وإلى أين ماضون؟ ما الذي يقلقك؟ وما الذي تأمله؟

الثورة بالنسبة إلي ليست فقط فعلًا سياسيًا يبدأ في لحظة وينتهي في أخرى، إنها ضرورة وجودية في حالتنا السورية، ولا بدّ منها. صحيح أنها ليست حاضرة الآن، ولكن كل أسبابها قائمة، لقد انتصر السلاح العسكري الأقوى ولم ينهر الحلم في بناء وطن حرٍ للسوريين، الثورة ليست الحربَ. الإحباطات كثيرة والدم ما زال ينزف، ولكن في قلوبنا رغبة في الانعتاق والتحرر لا يمكن أن تخمد الآن. صحيح أنها قد لا تتحقق ولكنها لا تموت، وستجد طريقًا للمضيّ نحو غدٍ آخر. لا أمتلك الآن أي قدرة على الحديث عن مجريات الثورة، لشدّة ما أشعر بالتعب والتشوش، ما أثق به تمامًا هو أني أنتمي إلى الثورة، ليس حين تنجح فحسب، بل ما دامت دوافعها قائمة.

الكلام على إخفاقات الثورة وانكساراتها يُحبطنا جميعًا. هل تشعر بندمٍ على ما حصل؟ وهل تقول يا ليت هذه الهبّة الشعبية السلمية بخواتيمها الكارثية لم تكن؟!

الدرس الرئيسي الذي تعلمته من تجاربي، وخاصة تجربة السجن، هو أن لا أندم على شيء، إلّا إذا كان الفعل نفسه خطأ. ما حدث في سورية من ثورة أو هبّة شعبية كان يجب أن يحدث، وفي الحقيقة أعترف أني كنت من الساذجين، ولم أتخيل أن بشاعة السلطة قد تصل إلى هذه الدرجة المفرطة من الذبح والدمار، وأن تتحوّل كل سورية إلى مقبرة واحدة كبيرة، وعلى الرغم من تحوّل سورية الحالية إلى مقبرة، فإن الحلم لم يُقتل بعد، ويجب أن نحميه أولًا ودائمًا.

لا أشعر بالندم، وأعرف أن أخطاءً كثيرة واكبت مسار الثورة، وكان بعضها كارثيًا، هذه الأخطاء هي ما يجب أن تكون موضع ندم، والأهمّ من ذلك أن نتعلم منها الدروس، كي لا تتكرر في الثورة القادمة. وما دام هناك ظلم فلا بدّ من ثورة، ولكن علينا التأكد أننا ذاهبون مع بقية الثائرين إلى الهدف ذاته، لا أن تكون الثورة عربة تشدّها أحصنة في اتّجاهات مختلفة، ويركبها قطّاع الطرق والأحلام.

منذ انطلاق الثورة حتى اللحظة السورية الراهنة، بكل دمويتها وألمها، يُؤثِر كثيرٌ من المثقّفين السوريين الصمت، فيما ينحاز بعضهم إلى النظام الأسدي، أبرزهم الشاعر أدونيس. كيف تفسّر ذلك؟

بالنسبة إلي، إن الفنون جميعها لا يمكن أن تنطلق إلّا من دافع إنساني وجودي لا يقبل أي جريمة في الكون، وينحاز بالمطلق إلى الأبرياء والضحايا. كلّ مثقّف أو فنان يختار مرّة واحدة أن يقف في صف الجلاد، ولا يحمل صوت الضحية، يسقط في موقفه من كل اعتبار إنساني، وفي حالات عديدة يتحوّل إلى شريك في المجزرة، حين يُقدِم على تبريرها. بكل تأكيد ليس على المثقّف أن يلعب دور السياسي، ولكن عليه أولًا أن يضع القيم الأخلاقية في أعلى سلم أولوياته، وإذا لم يفعل ذلك، فلا يمكن الرهان على ما يبدع بأي شكل من الأشكال.

أتساءل أحيانًا: لو كان أقرب الناس إليّ ظالمًا، ورأيت أنه يتعمد الإيذاء؛ فهل من الممكن أن أدافع عنه وأحمل رؤيته؟ أجزم أن لا، إذْ لا موقف أخلاقيًا في ذلك، وكل من يفعل يكون متواطئًا وشريكًا. أما المصيبة التي أبقي لها الباب مفتوحًا بعض الشي فهي الافتراض الضعيف أن هذا المثقّف أو ذاك ممن يدافعون عن المجرمين لديهم انعدام نظر ورؤية، وهم غير مطلعين على ما يحدث حقيقة أو هم لا يفهمونه، وفي هذه الحالة تكون الكارثة بإعطائهم دورًا فاعلًا ومؤثّرًا، لأنهم حتمًا يقودون المجتمع إلى موازين مختلّة، لا يمكن أن ترفع من وعيه ولا أن ترتقي به إلى المصفّ الثقافي أو الإنساني المرجو. هنالك تعريف رائج ومتداول، ويحمل كثيرًا من المعاني الحقيقة وهو “مثقّف السلطة” الذي يقف على النقيض من دور المثقّف الحقيقي أو المثقّف العضوي الذي نظّر له غرامشي، وكما أن شرائح المجتمع المهيمَن عليها ليست جزءًا من قلق مثقّفي السلطة، علينا أن لا نستمد تصوراتنا تجاه الحياة من هؤلاء المثقّفين.

كيف ترى أنّ حافظ الأسد خان الجولان وحرمَك العيش في سورية وأداءَ واجبك كاملًا؟

الجولان موجود تحت الاحتلال، لأن حافظ الأسد أعلن البلاغ رقم 66 قبل أن يدخل أي جندي إسرائيلي إلى القنيطرة، وهو بذلك سلّم بلدي إلى المحتل الإسرائيلي هديّة عبثيّة. لا يمكن أن نقف أمام حدث كبير وفي غاية الأهمية، مثل سقوط الجولان في يد الاحتلال، دون البحث عن الأسباب ومراجعة الأخطاء ومحاسبة مرتكبيها. ثم بعد ذلك، حدثت خيانة لا تقل بشاعة، حين أعلن حافظ الأسد “تحرير الجولان” واستعادته من قبضة الاحتلال الإسرائيلي، حين رفع العلم السوري على أحد مباني القنيطرة المدمرة بعد حرب 1973، وهو بذلك وضع نفسه أمام السوريين كقائد محرر، ووضعنا في الجزء الذي ما زال يخضع للاحتلال أمام سؤال ذاتي عمّن نكون، إذا كان الجولان قد تحرر!

وفي الحديث عن خيانات حافظ الأسد، لا أقصد سقوط الجولان فقط، ولكن أن تتحوّل سورية إلى “سوريا الأسد” وأن يحكمها مجرم يمارس كل بشاعات السلطة والتحكم، بادّعاء أن سورية تعيش مواجهة لاستعادة الجولان (وفلسطين)، وهو بالتالي يُبيح لعصاباته أن ترتكب جرائمها بسببي، لهذا كنت أقول مع القائلين إن سورية تأخذ حصّة الجولان من الموت والقتل.

حين انطلقت الثورة، كان كل حلمي أن أكون من الثائرين، أن أسهم في استرداد حقنا بالعيش الحر الكريم، وأن نكون شركاء في وطن حقيقي لا تصوغ حياة الناس فيه عصابةٌ تفرض الخوف والرعب ولا تتردد في أي بشاعة تجاه الأبرياء، ولكن خيانة حرب الأيام الستة حرمتني من سوريتي التي أحلم أن أكون جزءًا طبيعيًا منها، ولكيلا يساء فهمي فأنا أيضًا حُرمت من سوريتي في كل التفاصيل، وليس في حق الثورة فقط، وهذا قد يبدو رفاهية مفرطة أمام معاناة السوريين الذين يتلخص حلمهم اليوم بمغادرة سورية أو الهرب من جحيمها، لكنه الفارق الجوهري بين سورية الوطن و”سوريا الأسد” التي تحوّلت إلى مذبحة لا متناهية.

نتوقف معك عند تجربة اعتقالك في سجون الاحتلال الإسرائيلي مرتين: الأولى دامت سبع سنوات ونصف (ما بين و1997 و2004)، والثانية (في السابع من حزيران/ يونيو 2011 حتى أيّار/ مايو 2012) على ضوء ذكرى النكسة، وقد حُكم عليك حينذاك بالسجن الفعلي 11 شهرًا، إضافة إلى ثمانية أشهر حبس منزلي. ما هو أول ما تعلمته من تجربة السجن؟ وما الذي أخذه السجن منك؟ وماذا قدّمت لك تلك التجربة؟

في السجن، تعلمت أول ما تعلمت أن الحلم أجمل من الواقع وأنقى، وأن الخيال أوسع، ولكنهما حين يسعيان إلى تحقيق جماليتهما في الواقع سيصطدمان بالحقيقة. لا بأس، حتى ولو انكسر جناحٌ أو تعثّرت في الأفق غيمة، طالما أني أعرف حدود الحلم فتلك حدود نفسي، ولا بدّ من خيالٍ في الحياة لأمتلك القدرة على ترميم ذلك الجانح المكسور أو لمصاحبة تلك الغيمة. ربما أخذ السجن منّي كل شيء، سنوات الشباب التي انقضت هناك تشعرني ببعض الأسى، لأنها لا يمكن أن ترجع، ولكني أحبّ نفسي الآن وأعرف تمامًا أني نتيجة طبيعية لكل تجاربي في الحياة، وهذا ما يشعرني بالرضى والقبول.

أخذ السجن منّي كل شيء، ولكني رفضت أن أعطيه أي شيء من أحلامي. اليوم أحاول إعادة صياغة ما ضاع منّي، فأصدقائي الأقرب هم في الجيل الذي غُيّبت عنه، أعيش معهم كل تفاصيل المرحلة، أحمل لهم بعض تجاربي ويحملون إليّ تجاربهم، نتشارك الفرح والحزن، نتقاسم الأمنيات، أحاول أن أعيد تركيب كل القطع الناقصة من عمري، وبفضلهم أستطيع أن أكتمل وأن أكمل طريقي في حوارٍ دائم بين الحلم والواقع.

بأي سورية تحلم؟ وهل لديك أمل في مستقبل أفضل لهذا البلد؟

ورثتُ التفاؤلَ في الأبجدية 

فلا زادَ حرفٌ على لُغتي،

ولا نقَصَت أغنية.

وَحدهُ اليأسُ يستدرجُ الموتَ،

موتى نكونُ إذا انتَصَرت فكرةٌ يابسة.

خاسرٌ كلّ سيفٍ يُحاوِلُ أن يقطعَ الضوءَ مِن رحمِهِ

فقد عوّدتنا الجنائزُ حينَ نُشيّعُ أصحابنا،

أن نُغطي القبورَ بباقاتِ وردٍ

ونصرخَ أن خاسرٌ كلّ سيفٍ

يُحاولُ أن يقطعَ الضوءَ مِن رحمهِ.