ضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، اليوم، هو المحامي والكاتب السوري، الناشط في مجال حقوق الإنسان، ميشال شماس، المقيم حاليًا في ألمانيا.
شماس من مواليد مدينة حمص عام 1961، وهو حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، وأستاذ في المحاماة، وهو عضو في “لجنة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير” في سورية، وعضو في “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” في برلين (LS)، وخبير قانوني مشارك في “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” في بيروت، وفي برامج “الوكالة الألمانية للتعاون الدولي” (giz) حول حقوق الإسكان والأراضي والممتلكات في سورية.
ساهم ضيفنا مع رفاقه في الدفاع عن آلاف المعتقلين، ولا سيّما أمام محكمة الإرهاب في سورية. ويُعدُّ ملف الدفاع عن المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والضمير، في سجون نظام الأسد، وملاحقة مرتكبي جرائم القتل والتعذيب بحقّ السوريين، من أبرز الملفات الحقوقية التي يهتم بها، إضافة إلى ملف محاربة الفساد في (سوريا الأسد).
كتب شماس كثيرًا من المقالات، في الصحف السورية واللبنانية والألمانية وفي مواقع النشر الإلكترونية، التي تؤكد أهمية قضايا حقوق الإنسان، ومواجهة الفساد، كما كتب دراسات قانونية عن إصلاح القضاء والمحاماة، وسيادة القانون والإصلاح الدستوري وقضايا معتقلي الرأي والضمير ومحكمة الإرهاب ومحكمة الميدان العسكرية في سورية. وقد شارك في كثير من المؤتمرات المتعلّقة بسورية، وفي عدد من مؤتمرات المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
هنا نصّ الحوار:
بداية، هل لك أن تضعنا في الجو العامّ لما يحدث في قاعات وأروقة المحاكم الألمانية بعد بدء محاكمة الضابطين السابقين في استخبارات نظام بشار الأسد، “أنور رسلان” و”إياد الغريب”، بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، وبعد توقيف الطبيب “علاء موسى”، في 22 حزيران/ يونيو الماضي، من قبل النيابة الفدرالية الألمانية، بسبب الاشتباه بتورّطه في عمليات تعذيب داخل مشفى وسجن عسكري تابع للنظام؟
قبل الحديث عن محاكمة “العقيد أنور رسلان” و”المساعد إياد الغريب” لا بدّ من أن نوضح للسادة القرّاء الأساس القانوني الذي قامت عليه هذه المحاكمة وكلّ القضايا التي رُفعت في أوروبا بحقّ المتّهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية، كالقتل والتعذيب والاغتصاب والتهجير.. إلخ.
إنّ الدّعاوى التي أُقيمت في أوروبا، ومنها محاكمة “أنور رسلان“، الضابط في استخبارات الأسد، أُقيمت استنادًا لمبدأ الولاية القضائية العالمية، هذا المبدأ الذي يستمد شرعيته من قواعد القانون الدولي الإنساني، وإن القانون الدولي لحقوق الإنسان يجرّم مرتكبي الانتهاكات الجسيمة والجرائم الخطيرة المنصوص عليها في الاتّفاقيات والعهود الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، كما جاء في اتّفاقيات جنيف الأربعة عام 1949، وفي ما نصّت عليه اتّفاقية لاهاي، عام 1954، لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، وفي بروتوكولها الثاني عام 1999، وفي اتّفاقية عام 1984 لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية اللاإنسانية أو المهينة، وفي الاتّفاقية الدولية، عام 2006، التي كانت بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وفي الانتهاكات الخطيرة المنصوص عنها في المادة “3” المشتركة في اتّفاقيات جنيف الأربع، عام 1949، وبروتوكولها الإضافي الثاني، عام 1977، وكذلك الجرائم المدرجة في المادة الثامنة من النظام الأساسي لـ “المحكمة الجنائية الدولية” عام 1988.
إنّ تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية يفترض تضامنًا عالميًا لإحقاق الحقّ ومنع الإفلات من العقاب، وحرمان المجرمين من ملاذ آمن أينما كانوا. بعض الدول ضيقت نطاق تطبيق هذا المبدأ، كما هو الحال في معظم الدول الأوروبية التي أتاحت تشريعاتها ملاحقة المجرمين أو من يُشتبه بارتكابهم جرائم خارج حدودها، كالقتل والخطف والتعذيب والتهجير والتطهير العرقي، ومنها جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية، لكنّها اشترطت أن يكون المشتبه به مقيمًا على أراضيها، أو أن تكون الضحية تحمل جنسيتها. لكن بعض الدول الأوروبية وسّعت نطاق تطبيق مبدأ الولاية القضائية، كما هو الحال في ألمانيا والنمسا والسويد والنرويج، حيث سمحت تشريعاتها الوطنية بملاحقة المشتبه بهم، حتّى لو لم يكونوا على أراضيها أو ليس لهم مكان إقامة فيها، إذ يكفي أن تكون الضحية مقيمة في أراضي أيّ دولة من تلك الدول الأربعة المذكورة، لكي يُباشَر تقديم الادّعاء ضدّ المشتبه به، إلى السلطات المختصّة.

بالعودة إلى سير المحاكمة والأجواء المحيطة، نجد أن المحاكمة تجري علنًا، وأن أبواب المحكمة مشرعة لجميع وسائل الإعلام ومن يرغب بالحضور من الناس، حتّى نهاية شهر تمّوز/ يوليو 2020 تكون المحكمة قد عقدت 21 جلسة، استمعت فيها إلى شهادات عدد من الشهود، أبرزها شهادة الأستاذ أنور البني والمخرج السينمائي فراس فياض، وقد أكدت جميع الشهادات، سواء أكانت بصفة مدّعين أم بصفة شهود، على أنّ التعذيب كان يُمارس مُمنهجًا عند أجهزة الأمن السورية وفي مراكز الاعتقال، وقد قال الأستاذ البني في شهادته: “إنّ التعذيب كان يُمارس، منذ السبعينيات، بهدف استخراج المعلومات، لكن بعد عام 2011 أصبح هدف التعذيب الرئيسي هو الإذلال، وفي كثير من الأحيان يجري التعذيب أمام أقارب النساء وعائلاتهنّ”، وركزت معظم الشهادات على حدوث التعذيب في (فرع الخطيب) حيث كان يعمل فيه المتّهم “أنور رسلان” بصفته رئيس قسم التحقيق، والمتّهم “إياد الغريب” بصفته (صفّ ضابط) في الفرع المذكور. أحد الشهود أصرّ على تسمية نظام الأسد بالمافيا فقال: “نحنا ما عنّا دولة.. فيكي تتخيلي حضرة القاضي؟ ما عنّا دولة.. بس عنّا مافيا”.
أمّا بالنسبة إلى موضوع توقيف الطبيب “علاء موسى” المتّهم بارتكاب جرائم تعذيب بحقّ المعتقلين، حيث كان يعمل في المستشفى العسكري بحمص، فلم يرشح أيّ شيء من التحقيقات التي تجريها الشرطة معه، ولا يمكننا معرفة الاتّهامات التي وُجّهت إليه، إلّا بعد إحالته إلى المحكمة، كما حصل مع المتّهمين “أنور رسلان” و”إياد الغريب“.
وفي هذه المناسبة اسمحوا لي أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى الصحافية لونا وطفة التي تبذل جهودًا مضنية لوضع الناس في صورة ما يحدث داخل المحكمة، عبر التقارير التي تُعدّها، وكذلك عبر تغطيتها النشاط المرافق للمحكمة، حيث تقوم بعض الناشطات بإقامة معرض صور لعشرات المعتقلين والمختفين قسريًا أمام مدخل مبنى المحكمة في مدينة “كوبلنز” بالتزامن مع كلّ جلسة.
ذكرت صحيفة “الراين” الألمانية، نهاية نيسان/ أبريل الماضي، أنّ الجلسة التي عُقدت في محكمة “كوبلنز” بمقاطعة “راينلاند بفالتس”، لمحاكمة الضابط “أنور رسلان”، تضمنت (تحكيمًا قانونيًا) من خلال عرض الوضع السياسي في سورية، في عامي 2011 و2012، وتوسع (التحكيم القانوني) ليشمل الوضع التاريخي منذ انقلاب حافظ الأسد واستلامه السلطة حتّى وصول بشار الأسد إلى الحكم، وقيام الثورة السورية 2011. هل لك أن توضّح لنا معنى ذلك من الناحية القانونية؟ وما هي أسباب عرض المحكمة للواقع القانوني والتاريخي لسورية في حقبة حكم آل الأسد؟
حتّى تستطيع المحكمة في أيّ بلد أن تحكم في القضية المعروضة أمامها، لا تكتفي بدراسة الأدلة المعروضة أمامها، بل تلجأ إلى دراسة الظروف المحيطة بالقضية كافة. فما بالك بقاضٍ ينظر في قضية جرت أحداثها في بلد آخر، كما في قضية “أنور رسلان” و”إياد الغريب“، فالجريمة وقعت في سورية، والمتّهمان سوريان ويقفان في محكمة ألمانية، ولهذا كان لا بدّ للمحكمة، حتّى تستطيع أن تحكم في هذه القضية، من أن يكون لديها إحاطة كاملة عن الوضع في سورية، من مختلف النواحي، السياسية والقانونية والاقتصادية، لذلك قررت المحكمة الاستماع إلى شهادة شهود يقدّمون للمحكمة المعلومات التي تساعدها في فهم ما جرى ويجري في سورية، وبناءً على ذلك، استدعت المحكمة المحامي الأستاذ أنور البني لتستمع إلى شهادته، ليس بصفته ضحية، بل بصفته (خبيرًا قانونيًا) وله خبرة واسعة في النضال من أجل حقوق الإنسان، وتعرّض للاعتقال أكثر من مرّة، ويملك معرفة جيدة بالوضع السوري، وخصوصًا عمل الأجهزة الأمنية، إذ قدّم في شهادته تصورًا شاملًا، عن الواقع السياسي وهيكلية الأجهزة ودورها وعملها في سورية، وهي المحكمة ستستمع أيضًا إلى شهود آخرين، لتأخذ معلومات عن التعذيب والاعتقال.
إنجازات مهمة على طريق تحقيق العدالة
بوجود ما يسمّى “الصلاحية العالمية” في عدد من الدول الغربية مثل: ألمانيا والنمسا والسويد والنروج، كيف استثمر ناشطو المجتمع المدني والحقوقيون السوريون هذه “الصلاحية” لملاحقة مجرمي الحرب من أركان نظام الأسد؟ ومن ثمّ أرجو أن توضح لنا ما الذي حقّقتموه، بصفتكم ناشطين حقوقيين، من خلال المحاكمات المرفوعة من قبل ضحايا التعذيب، في أكثر من محكمة، في ألمانيا والسويد وهولندا، بعد رفع هذه الدّعاوى؟
بدأنا العمل في “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، منذ عام 2015، بالبحث عن طريقة تساعدنا في ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة والتعذيب وجرائم ضدّ الإنسانية في سورية، بعد أن أيقنّا أنّ روسيا مصرّة على منع مجلس الأمن من إحالة مرتبكي تلك الجرائم إلى المحاكمة أمام “المحكمة الجنائية الدولية” أو إنشاء محكمة دولية خاصّة، على غرار المحكمة الخاصّة بيوغسلافيا السابقة، فوجدنا ضالتنا في اللجوء إلى مبدأ “الصلاحية العالمية” الذي يتيح، كما أسلفت سابقًا، محاكمة المجرمين خارج أوطانهم، ووجدنا أنّ أربع دول أوروبية تأخذ بهذا المبدأ، واستطعنا بالتعاون مع المحامين والناشطين في “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” و”مجموعة ملفات قيصر” و”المركز السوري لحرية الإعلام والتعبير”، وبالتعاون مع منظمات أوروبية تُعنى بحقوق الإنسان، وفي مقدّمهم “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” في ألمانيا، فتحَ طريق كانت مغلقة أمام ملاحقة من أجرم بحقّ الشعب السوري، فخلال أربع سنوات من العمل الدؤوب والمضني نجحنا في إقامة سبع قضايا في ألمانيا والنمسا والسويد والنرويج وفرنسا وسويسرا، ضدّ مسؤولين عن التعذيب في السجون والمعتقلات، وفي مقدّمهم بشار الأسد، وشقيقه اللواء ماهر الأسد، واللواء علي مملوك، وضد رفعت الأسد (عم بشار)، وقد أعلن المدعي العامّ في فرنسا وألمانيا إصدار مذكرات توقيف بحق اللواء علي مملوك (مدير المكتب الوطني)، واللواء جميل حسن (المدير السابق لإدارة المخابرات الجوية)، واللواء عبد السلام فجر محمود (رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات الجوية)، وصدرت مذكرات توقيف أخرى لكنّها بقيت طيّ الكتمان.
ويجب ألا ننسى أنّ الفضل الأساس في إقامة هذه الدّعاوى يعود، بالدرجة الأولى، إلى المدّعين والشهود الأبطال، فلولا شجاعتهم بتقديم شهادتهم لما كانت هذه الدّعاوى، ولما كنّا شاهدنا بعض المجرمين خلف القضبان في السجون الألمانية.
إنّنا نرى في المحاكمات الجارية الآن في ألمانيا والسويد وسويسرا والنرويج والنمسا وفرنسا، خطوة أولى ومهمّة على طريق تحقيق العدالة في سورية، وقد شجعت هذه المحاكمات، ولا سيّما محاكمة “أنور رسلان” و”إياد الغريب“، وتوقيف الطبيب “علاء موسى“، الكثيرَ من السوريين المتردّدين بخصوص التواصل معنا، للإدلاء بشهادتهم حول مرتكبي الجرائم، ونأمل أن تتوسّع هذه المحاكمات في المستقبل لتشمل الدول الأوروبية كافة. ونعتقد أنّ هذه المحاكمات تشكّل لنا اليوم تحدّيًا مهمًا في الاستفادة والتعلم واكتساب الخبرات القانونية في مثل هذا النوع من المحاكمات، ووضعها في خدمة العدالة في أيّ محاكمات يمكن أن تجري في سورية مستقبلًا.
يلاحظ في القضايا المعروضة أمام المحاكم الأوروبية أنّ هناك مجرمين يحاكمون بتهمة ارتكاب “جرائم ضدّ الإنسانية”، وأن آخرين يحاكمون بتهمة ارتكاب “جرائم حرب”. سؤالي: ما الفرق بين هذه الجرائم وهاتين التّهمتين؟
جرائم الحرب تستهدف فقط الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف السارية في الحروب والنزاعات الدولية المسلّحة وغير الدولية، بينما الجرائم ضدّ الإنسانية أوسع وأشمل، فهي تطبق على الأفعال التي تُرتكب، سواء أكانت في أوقات الحروب والنزاعات المسلّحة، أم في الأوقات الأخرى، كأوقات السلم.

هل هناك تنسيق بين الهيئات والمراكز الحقوقية والقانونية السورية في أوروبا للعمل المشترك في المحاكم الأوروبية والمحافل الدولية؟ ومن ثمّ ما الذي ينبغي أن تفعله هذه الهيئات والمراكز كي نتمكّن من رؤية المزيد من هذه المحاكمات؟
بالتأكيد، يوجد تنسيق بين بعض المراكز والهيئات الحقوقية في مجال ملاحقة مرتكبي الجرائم أمام المحاكم الأوروبية، لكن، مع الأسف، هذا التنسيق ليس بالمستوى الذي نطمح إليه، كما هو الحال بين جميع المنظمات السورية على اختلاف نشاطاتها وعملها، ونأمل في المستقبل أن نتجاوز هذا الخلل، لتتوطّد العلاقة بين جميع المنظمات والمراكز السورية، ولا سيّما المهتمّة بالدفاع عن حقوق الإنسان وملاحقة مجرمي الحرب، بمزيدٍ من توحيد الجهود على أساسٍ من الثقة المتبادلة، وعلى أسّس علمية صحيحة، بعيدًا عن التفرّد و”الشللية”، وإلّا ستبقى جهودنا، على أهمّيّة ما تحقّق منها، دون المستوى الذي نريد تحقيقه.
ملف المعتقلين آخر ورقة سيساوم عليها الأسد
بتقديرك، ما أثر هذه المحاكمات على العملية السياسية والحلّ المستقبلي في سورية؟
ليس لدينا أوهام أو مبالغة في الآثار التي يمكن أن تتركها المحاكمات الجارية في أوروبا اليوم، وكما قلت، إنّها مجرد خطوة على طريق طويل وشاق، لكنّنا نراها خطوة مهمّة، وهي، بلا شكّ، ستترك تأثيرًا لا يستهان به على مسار الحلّ ومستقبل سورية، فهي، من جهة، ستقلّص من الملاذات الآمنة التي يفكر المجرمون باللجوء إليها، ومن جهة أخرى، ستؤكّد أن لا مفرّ من محاسبتهم ومعاقبتهم مهما طال الزمن.. وإنّ إدراج أسماء هؤلاء المجرمين المتّهمين بارتكاب جرائم تعذيب وحرب وإبادة، وجرائم ضدّ الإنسانية، سيحول دون أن يكون لهم أيّ دور في مستقبل سورية، وفوق ذلك سيعطي جرعة أمل مهمّة للضحايا وذويهم، كي لا يفقدوا الأمل في تحقيق العدالة، طالما هناك سوريون يواصلون جهودهم في سبيل ملاحقة المجرمين، ومحاكمتهم وإبقاء باب العدالة مفتوحًا.
هذه المحاكمات التي تجري الآن في أوروبا لمجرمي الحرب السوريين، إن لم تكن لها غاية سوى إظهار أدلّة على ما حدث ويحدث في سورية، علنًا كما هي الآن، لكفاها ذلك.
ما رأيك وتقييمك لحراك ونضال المرأة السورية في أوروبا، وبخاصّة أمهات وشقيقات وزوجات المعتقلين والمفقودين والمختفين قسريًا؟ وهل ترون أنهن يؤدين دورهن المطلوب؟
وصلت المرأة السورية إلى منابر عالمية، وكُرّمت في مناسبات عدة، وحصدت جوائز عدة، تقديرًا لجهودها في المجالات كافة، مثل توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، والعلوم، والعمل الميداني والإعلامي، والحريات السياسية والمدنية في سورية. وكان ذلك فرصة مهمّة لإيصال صوت المرأة السورية إلى صناع القرار، على المستويين المحلي والدولي، وللتذكير بالمأساة السورية.
إنّ المرأة لا تقلّ شأنًا عن الرجل، لا بل تتفوق عليه في كثير من المجالات.
وعلى الرغم من أنّ النساء السوريات، خصوصًا الناجيات من الاعتقال وزوجات وبنات وأمهات المعتقلين الموجودات في أوروبا، قد لعبن دورًا مهمًّا في تسليط الضوء على مأساة المعتقلات والمعتقلين المختفين قسريًا في السجون السورية، بقيت هذه الجهود فردية في معظم الأحيان، وكان يمكن لهذه الجهود أن تكون مثمرة وفعّالة، لو لم تكن الحركة النّسويّة في سورية وفي بلدان اللجوء مشرذمة ومنقسمة في أطر وتجمّعات مختلفة ومتباينة في ما بينها؛ فهي تفتقر إلى الأدوات والآليّات التي يمكن أن تساعدها في توحيد جهودها في أطر نّسويّة بعيدًا عن التسلّط الذكوري.
إنّ الحركة النّسويّة في سورية وفي الشتات مدعوّة اليوم إلى خلق البدائل والآليّات من خلال بذل المزيد من الجهود والنضال، بعيدًا عن الهيمنة الذكورية والكبت والقمع والاستبداد الذي مورس وما زال يُمارس على السوريين ذكورًا وإناثًا، منذ عقود طويلة، والذي ترك أثارًا مدمّرة في وعينا وثقافتنا.
إنّ نضال النساء السوريات يشكّل جزءً أساسيًا ومهمًّا من نضال الشعب السوري، من أجل استعادة حريته وكرامته، ويجب علينا جميعنا، نحن الرجال، أن نكون سندًا وعونًا لهنّ في نضالهنّ، فالمجتمع، أيّ مجتمع، لن يستطيع أن يسير ويتقدّم بساق واحدة، بل لا بدّ من أن يسير بكلتا ساقيه، المرأة والرجل.
ما الجديد في ملف المعتقلين والمفقودين والمختفين قسريًا في سجون النظام، وفي معتقلات القوى المتحاربة في الأراضي السورية، وبخاصّة مع انتشار “فيروس كورونا” (كوفيد -19) بهذا التسارع، في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد الذي يعمل على إخفاء المعلومات الصحيحة حول مدى انتشار الجائحة بمناطق نفوذه؟
في الوقت الذي يواصل فيه وباء “فيروس كورونا” انتشاره في العالم بأسره، حاصدًا مئات الآلاف من الضحايا، وفيهم من كانوا يعيشون في أفضل الظروف الصحية والمعيشية. يواصل النظام السوري احتجاز عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون وأقبية استخباراته، ضاربًا بعرض الحائط كلّ المناشدات الدولية، ومن ضمنها طلبات الأمم المتحدة والمبعوث الدولي إلى سورية، بالسماح للمنظمات الإنسانية بالوصول إلى مرافق الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية، لتقديم الدعم الطبي والغذائي للمعتقلين وإنقاذ حياتهم من خطر تفشي الفيروس القاتل، كما ناشدته الأمم المتحدة بالكشف عن مصيرهم وأماكن احتجازهم ووضعهم القانوني، وطالبته أيضًا برفع درجة الطوارئ الطبية والعناية الصحية في السجون، وطالبته بالإفراج عن معتقلي الرأي والضمير فورًا من دون قيد أو شرط، ولا سيّما النساء والأطفال والحالات الإنسانية من كبار العمر والمصابين بأمراض مزمنة، لكنّ نظام الأسد لم يستجب لتك النداءات، واستمرّ في تجاهلها بإنكاره وجود معتقلين لديه، ومع الأسف، يتمسك النظام السوري بملف المعتقلين كآخر ورقة يساوم عليها في أيّ حلّ للقضية السورية.
ومع الأسف أيضًا، أوضاع المعتقلين في سجون الميلشيات المسلّحة المناوئة للأسد ليست بأحسن حالًا من أوضاع المعتقلين في سجونه.
في هذا السياق، يجب بيان أنّ المنظمات السورية المعنية بحقوق الإنسان تكثّف تحركاتها من خلال الاعتصامات والمظاهرات في كثير من الدول الأوروبية، للضغط على حكوماتها من أجل إنقاذ المعتقلين، كما أصدرت عشرات البيانات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ووصلت أصوات المعتقلين إلى داخل مجلس الأمن، عبر زميلتي المحامية نورا غازي الصفدي التي قالت أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي، يوم 16 حزيران/ يونيو الماضي: إنّ “العالم كلّه يتّحد في خوفه من فيروس كورونا، لكن، على أقلّ تقدير، لم لا نتّحد على إرادة اتّخاذ قرار لحماية المعتقلين في السجون السورية من هذا الفيروس الذي يضعهم في خطر مضاعف”.
لم نتوقف عن المطالبة بإطلاق سراح جميع المعتقلين والمختفين قسريًا، سواء أكانوا في سجون الأسد أم في سجون الميلشيات المسلّحة، ولن نصمت تجاه هذه المأساة، وسنبقى نصرخ حتّى يتمّ إطلاق سراحهم.

“قانون قيصر” أداة استثمار بيد أميركا لتحقيق مصالحها
أتوقف معك لسؤالك عن مخاوفك من تبعات “قانون قيصر” على الشعب السوري، في ظلّ خشية دولية من شبح مجاعة ستشمل نحو 83 % من السوريين في الداخل؟
إن “قانون قيصر” سيزيد من مأساة السوريين، لأن نظام الأسد سيعكس تأثير هذا القانون على الناس، حتّى يقول للعالم: إنّ “قانون قيصر” صدر لمعاقبة الشعب السوري. لكن قناعتي وقناعة كثير من السوريين هي أن مأساة الشعب السوري لم تبدأ بدخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ، في 17 حزيران/ يونيو الماضي، ولا مع العقوبات الدولية الأميركية والأوروبية، بل هي موجودة باستمرار نظام الأسد جاثمًا على صدور السوريين، فهو المأساة الحقيقية، وهو السبب في كلّ العقوبات الدولية، مثل “قانون قصير” وغيره من العقوبات.
كلّ ما أرجوه ألّا تطول مأساة السوريين، بخاصّة قضية المعتقلين والمختفين قسريًا في سجون الأسد والميليشيات المسلّحة.
لا أعتقد أنّ أميركا أصدرت “قانون قيصر” لإجبار الأسد فعلًا على القبول بالقرار 2254 وإجراء انتقال سياسي، وإنقاذ حياة عشرات الآلاف من المعتقلين في سجونه، وأعتقد أنها أصدرته لاستثماره في صراع النفوذ مع روسيا والصين وإيران، واستخدامه وسيلة ضغط على خصومها لتحقيق مصالحها. ولو كانت أميركا، فعلًا، تريد إزاحة الأسد، أو إجباره على القبول بتنفيذ القرار 2254، وإجراء انتقال سياسي وإطلاق سراح المعتقلين. إلخ، لفعلت ذلك منذ عام 2011، وهي قادرة على فعل ذلك، وهذه ليست قناعتي فحسب، بل قناعة معظم السوريين، موالاة ومعارضة.
ربّما يطيح “قانون قصير” نظام الأسد، وربّما يعيطه متنفّسًا وفرصة للبقاء مرّة أخرى، كما فعلوا في موضوع السلاح الكيمياوي، فكانت الشروط التي وضعها الأميركيون لا تتضمن إزاحة الأسد أو فرض حلّ سياسي.
قلتها، وأكرر قولها هنا: لا أعوّل على الإدارة الأميركية، بل أعوّل على جهود الشرفاء من بنات وأبناء سورية وشرفاء العالم. كلّ الدول المتدخّلة في سورية، تبحث عن تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى، وآخر همّها حياة الشعب السوري.
أكرر قولي: لو أرادت أميركا إسقاط نظام الأسد لفعلت ذلك منذ آذار/ مارس 2011، فكيف تسقطه وهو الذي وفّر لها الفرصة لاحتلال جزء عزيز من سورية، كما وفّر ذلك لروسيا وإيران وتركيا؟
يرى ناشطون سوريون من الداخل أنّ “إدانة الجرائم، التي نقل صورها الضابط المنشق المعروف باسم (قيصر) أو (سيزر)، وإدانة منفذيها، والمطالبة بمحاكمتهم ومحاكمة المسؤولين عنها أمام محكمة دولية، أمرٌ لا يقبل الجدل، لكن التعويل على أميركا في هذا الشأن، والتهليل للقانون الذي أصدرته ليخدم أطماعها ومصالحها، ليس إلّا سذاجة سياسيّة، لن يدفع ثمنها سوى الشعب السوري المنهك”. ما تعليقك؟
في الحقيقة، “قانون قيصر” لا علاقة له بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سورية، ولا بالمحاكمات الجارية في أوروبا، وليس له صلاحية إنشاء محاكم. ولا أظن أحدًا يعوّل على هذا الأمر، وإذا كان هناك من متحمسين لهذا القانون، فمردُّ ذلك، برأيهم، يعود إلى أنّ هذا القانون سوف يقطع الطريق أمام إمكانيّة تعويم نظام الأسد.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بخصوص المنتقدين لـ “قانون قيصر”، أين كانوا عندما شرّد نظام الأسد ملايين السوريين ودمّر بيوتهم؟ أين كانوا عندما حاصرت قوّات الأسد السكان في حمص وحلب ودير الزور ودرعا وإدلب والزبداني والغوطة وداريا ومخيّم اليرموك وغيرها من المدن والمناطق السورية، وقطعت عنهم الماء والغذاء والدواء؟ ولماذا صمتوا ولم نسمع منهم انتقادًا واحدًا للفيتو الروسي-الصيني الإجرامي في وجه المساعدات الإنسانية، التي يُراد حصرها بيد الأسد، لحرمان أكثر من سبعة ملايين مواطن سوري في الشمال.
إنّ ممارسات الأسد وسياساته طيلة السنوات السابقة تفوق، في آثارها الاقتصادية الكارثية، الآثار التي سيتركها “قانون قصير”.
بالتأكيد، نتألم لمعاناة السوريين، سواء أكانوا في مناطق سيطرة الأسد أم خارجها، ونأمل خلاص السوريين والسوريات كافة من هذه المعاناة.
ألا توافق سائلك الرأي، أنّ جميع القوى الموجودة اليوم -النظام، أطياف وقوى المعارضة، الفصائل المسلّحة، أمراء الحرب من أصحاب الرايات السوداء- هي قوى أمرٍ واقع، فرضت نفسها على السوريين؟ ثم ما هو البديل للخروج من عنق الزجاجة بعد كلّ ما وصلنا إليه من كوارث، ولا سيّما أنّ الوقائع تؤكّد عدم وجود إرادة بين طرفي الصراع الرئيسين (الروس والأميركان) لإنهاء الأزمة، وهذا سيزيد من فرص الاستثمار بالدم السوري؟
إذا كان الأمر يعود لي في اقتراح طريقة ملائمة للخروج من المأساة التي نعيشها اليوم، فإنّني سأعيد ما سبق أن اقترحته عام 2012، في دمشق، وهو أن نضغط على الأمم المتّحدة ومجلس الأمن كي يصدروا قرارًا بوضع سورية تحت وصاية الأمم المتّحدة، فيكلّف مجلس الأمن دولةً لإدارة أمور السوريين، لمدة علاجية ملائمة، يستطيع السوريون خلالها الجلوس مع بعضهم، ومناقشة مستقبل بلدهم، بعيدًا عن الاستبداد والعنف والتطرف.
لكن، اليوم، تبدو المأساة السورية أكثر تعقيدًا، ولا يبدو في الأفق أيّ بارقة أمل لوضع حدّ لهذه المأساة، في ظلّ الاحتلالات المتعدّدة للأراضي السورية، وارتهان كلّ من نظام الأسد والقوى السورية المناوئة له، للدول المتدخّلة في الشأن السوري.
وكان يمكن للقرار الدولي 2254، الذي اعتمد “بيان جنيف” أساسًا للحلّ في سورية، أن يشكّل مدخلًا للحلّ في سورية، عبر تطبيق فقراته كما وردت، وليس كما فعلت روسيا، إذ وضعت العربة قبل الحصان، وفرضت رؤيتها لتطبيق القرار المذكور، باختيار العملية الدستورية، وهي المرحلة الأخيرة قبل الانتخابات كمدخل للحلّ. إن روسيا تجاوزت الاتّفاق على وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين وتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، يوكل إليها إجراء مراجعة بعض القوانين، كقانون الانتخاب وقانون الأحزاب، وإعداد دستور جديد للبلاد، ثم تكون بعد ذلك انتخابات رئاسية وبرلمانية بإشراف دولي.
تحتاج سورية اليوم إلى مرحلة تلي تثبيت وقف إطلاق النار، فالبلاد في حالة دمار وخراب شبه كامل، بشريًا واقتصاديًا، وهي تحتاج، بالتأكيد، إلى مدة علاجية لوقف الانهيار في المجتمع، وسلوك طريق التعافي من المأساة الرهيبة التي تعيشها.
هذه المدة العلاجية تحتاج إلى وقت لا يقلّ عن سنتين. ولن تتعافى سورية من محنتها، إن بقي في الحكم من ساهم في تدميرها، وكان بإمكانه تفادي ذلك ولم يفعل.
تفترض المرحلة الانتقالية، بدايةً، وقفَ العمل بالدستور الحالي، ووقف العمل بالقوانين المقيّدة للحرية والمحاكم الاستثنائية، وإصدار إعلان دستوري مؤقت، يتضمن عددًا من المبادئ الأساسية، لا تتعدى أصابع اليدين، وفي مقدّمها التأكيد على الالتزام بوحدة واستقلال سورية وتنوّعها الثقافي والقومي والديني، والتأكيد على مدنيّة وديمقراطية الدولة ومبدأ تداول السلطة سلميًا، ومبدأ سيادة القانون والمساواة فيه وأمامه للسوريين والسوريات كافة، والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في الاتّفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، ولا سيّما المتعلّقة بحقوق الطفل والمرأة وحرّيّة الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد، وعدم التمييز بين السوريين والسوريات لأيّ سبب كان، والتأكيد على استقلالية القضاء، بصفته الضامن للحريات والحقوق، وعدم إصدار أيّ قانون أو تشريع ينتهك هذه المبادئ.
ويجب التأكيد على أن يتضمن الإعلان الدستوري طريقة تشكيل الحكومة المؤقّتة لإدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، وعلى أن يراعى في تشكيلها التنوّع السياسي والقومي والديني للسوريين، وضرورة منحها الصلاحيات التنفيذية كافة، وبعض الصلاحيات التشريعية، بما لا يتناقض مع أحكام الإعلان الدستوري. وفور تشكيل الحكومة تعلن قبولها كافّة المساعدات الخارجية غير المشروطة، وتباشر بإعادة بناء ما تهدم، وتهيئ الظروف الملائمة لعودة اللاجئين بأقصى سرعة ممكنة، وتعيد تأهيل وتشغيل الإدارات والمؤسّسات، وضبط الأمن، والعمل على كلّ ما يخفف المعاناة عن جميع السوريين. ثم تعيد هيكلة السلطة القضائية وتأمين استقلالها، وتباشر بسحب السلاح وحصر استخدامه بقوى الجيش والأمن، على أن يُعاد تأهليهما على أسّس وطنية احترافية، وإخضاعهما لسلطة الحكومة ورقابة السلطة القضائية، وإحالة من توّرط منهم بقتل السوريين إلى المحاكم.
ويتضمن الإعلان الدستوري أيضًا، النصّ على إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية يأتي في مقدّمة مهامها إطلاق سراح المعتقلين كافة، والكشف عن مصير المفقودين، وإنشاء صندوق لتعويض الضحايا، وإجراء مصالحة وطنية، وتخليد ذكرى الضحايا، والنظر في تشكيل محاكم وطنية لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب أو جرائم ضدّ الإنسانية، وغيرها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وتستمر هذه الهيئة في عملها حتّى إتمام عملها.
أخيرًا، يجب أن ينصّ الإعلان الدستوري على تشكيل جمعية وطنية، يُنتخب نصف أعضائها من الشعب، وتعمل على إصدار قانون للانتخابات، وصياغة مشروع دستور جديد للبلاد، وعند الانتهاء من صياغة مشروع الدستور، تسلّمه للحكومة المؤقّتة التي تقوم بعرضه على الاستفتاء الشعبي، وبعد أن يحوز الدستور على موافقة الشعب، تباشر الحكومة المؤقّتة بتهيئة الأجواء الأمنية والسياسية والإعلامية والأمنية لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية، بإشراف ورقابة منظمات المجتمع الأهلي المحلي والعربي والدولي، وفقًا لمواد الدستور الجديد، حيث تنتهي مهمّة الحكومة المؤقّتة بعد إعلان نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية وتشكيل الحكومة الجديدة.
بعد انسداد آفاق الحلّ الروسي في سورية، برأيك، ما الذي يترتب على القيادة الروسية فعله في هذا الوقت تحديدًا؟ وأين هي واشنطن مما يجري في المنطقة؟
اسمح لي ان أجيب بسؤال هنا، هل ستستمع لنا القيادة الروسية إذا قلنا لها يجب أن تفعلي كذا وكذا، فهي تنظر إلى سورية كحلبة صراع في مواجهة النفوذ الأميركي، وكمختبر لأسلحتها، وآخر همّها الشعب السوري؟
المتتبع لمسار الأحداث في سورية منذ آذار/ مارس 2011 سيكتشف من دون عناء أن روسيا كان باستطاعتها -لو أرادت- مساعدة الشعب السوري في إحداث تغيير ديمقراطي في طريقة الحكم، بما يمنع انزلاق سورية نحو المجهول، وبما يلبي على الأقلّ جزءً من طموحات الشعب السوري، وفي الوقت نفسه يحفظ مصالح روسيا. لكنها فضّلت الترّيث في تقديم المساعدة، وتعمّدت عدم الضغط على النظام للتنازل والقبول بإحداث تغييرات في إدارة الحكم، لأنّ حكام روسيا أساسًا غيرُ مقتنعين بمفهوم الديمقراطية، لأنّهم يعدونها منتجًا غربيًا فحسب.
والأهمّ من ذلك أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وجد في الأحداث التي تعصف بسورية، فرصةً تاريخية قد لا تتكرر، فرصة تمكّنه من إعادة روسيا إلى المسرح الدولي بعد أن انكفأ دورها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لذلك تركت موسكو الأمور تتصاعد في سورية إلى حدِّ الانهيار، وفي الوقت نفسه أخذت تضع العراقيل أمام أيّ مسعى دولي لحلّ الأزمة السورية، على ندرته، تمهيدًا للقبض على سورية، وهذا الأمر الذي سيمكّنها فيما بعد، من فرض شروطها على المجتمع الدولي، في طريقة الحلّ في سورية، ثم تحسّن موقعها التفاوضي مع دول أوروبا، في إطار الصراع الدائر على النفوذ، والحرب الخفية مع أميركا، وفي ما يخفف من الضغط المتزايد عليها بعد ضمّها شبه “جزيرة القرم” وتدخلها في أحداث أوكرانيا، يُضاف إلى ذلك استغلالها قضية اللاجئين والإرهاب الدولي، وإبراز نفسها أمام العالم كشريك مهمّ، لا يمكن الاستغناء عنه في محاربة الإرهاب العابر للحدود، وأنّها أصبحت قوّة عالمية لا تقلّ عن قوّة أميركا، ويجب أن تُعامل على هذا الأساس.
ليست روسيا وحدها التي تستغل وجودها العسكري في سورية لإعادة تموضعها الدولي كقطب ثانٍ في مواجهة أميركا، فالأخيرة وضعت لها رِجلًا في سورية لمنع روسيا من استثمار تدخلها العسكري، بل هناك أيضًا قوى إقليمية أخرى متدخّلة في سورية، كإيران وتركيا اللتان تطمحان إلى إعادة رسم المنطقة بما يناسب مصالحهما.
وإذا كانت روسيا حريصةً على الشعب السوري كما تدّعي، فعليها الكفّ أوّلًا: عن دعم من ساهم بتدمير البلاد وقتل مئات الآلاف من السوريات والسوريين، وثانيًا: بصفتها الدولة الأكثر تأثيرًا في سورية، بحكم تواجدها العسكري الكبير في مختلف الأراضي السورية، عليها أن تساعد السوريين في إخراج إيران وميلشياتها وكلّ المسلّحين والقوى المحتلّة، من الأراضي السورية، وأن تعمل على تسهيل التقاء السوريين ببعضهم، ومساعدتهم على لملمة جراحهم وإعادة بناء دولتهم، بعيدًا عن القتل والتدمير والاستبداد والتطرف.
وعلى الولايات المتّحدة الأميركية، بالمقابل، الكفّ عن استخدام سورية كساحة صراع بينها وبين روسيا وإيران، وأن تعمل بصدق لإنهاء هذه المأساة.
باختصار، من دون التوافق الروسي-الأميركي، لا يمكن تنفيذ القرارات الدولية المتعقلة بسورية، وفي مقدّمها القرار 2254، الذي يتحدّث بوضوح عن بدء عملية سياسية جامعة بقيادة سورية، تلبّي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لـ “بيان جنيف”، الذي حدّد الخطوات الواجب اتّباعها، وفي مقدّمها إنشاء هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية.
سورية بعد كلّ هذا المخاض، إلى أين؟ وما هو تصوّركم لنموذج الدولة الأفضل في سورية المستقبل؟
أثبتت المأساة التي نعيشها اليوم، كم نحن بحاجة إلى دولة مدنية ديمقراطية، تقف على مسافة واحدة من جميع أبنائها، بمختلف قُواهم السياسية، وبغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم وأعراقهم وألوانهم.
أجل، دولة مدنية ديمقراطية، تشارك فيها المرأة إلى جانب الرجل على قدم المساواة، دولة مدنية ديمقراطية يُحترم فيها الرأي والرأي الآخر المختلف، دولة مدنية ديمقراطية يسود فيها القانون على الحكام قبل المحكومين، دولة مدنية ديمقراطية، يكون فيها القضاء سلطة قوية ومستقلّة، يخضع لأحكامها الحاكم قبل المحكوم، دولة مدنية ديمقراطية، تسعى فيها القوى والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني للفوز بثقة الشعب، عبر انتخابات حرّة ونزيهة، بدءً من المختار وصولًا إلى منصب رئيس الجمهورية.
هذه الأفكار يمكن بلورتها كمبادئ وأسّس لسورية التي نريد العيش فيها مستقبلًا، بصفتها مبادئ دستورية لا يجوز الإخلال بها على النحو التالي:
- سورية دولة حرّة تتمتع بوحدة جغرافية سياسية ذات سيادة كاملة، وهي جزء من منظومة عربية وإقليمية ودولية، وتلتزم بالمواثيق والعهود الدولية التي يقرها الشعب السوري عبر مؤسّساته الديمقراطية.
- سورية دولة مدنية ديمقراطية، ينمو تداول السلطة فيها سلميًا، حيث تكون السيادة فيها للشعب الذي يعبّر عن إرادته عبر انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة، وللسوريين والسوريات كافة الحقّ بالمشاركة السياسية الكاملة، وتولي المناصب العامّة من دون تمييز، والتنظيم السياسي، وتكوين الأحزاب والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، على أساس سلمي لا عنفي.
- تقوم الدولة السورية على مبدأ فصل السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى التوازن بينها. وتقوم على تداول السلطة سلميًا، ومبدأ المواطنة المتساوية، واستقلال القضاء، وذلك بما لا يتضارب مع قوانين الدولة ودستورها، وتُتّخذ فيها القرارات الإدارية في إطار عالٍ من اللامركزية.
- تحترم الدولة السورية القوانين والأنظمة والتنوّع الثقافي السوريين والسوريات كافة، وتضمن لهم ممارسة حقوقهم الثقافية وشعائرهم الدينية، مع عدم الإخلال بمبدأ فصل الانتماء القومي والديني عن سياسة الدولة.
- يتساوى جميع السوريين والسوريات في القانون وأمامه، ولهم الحقوق ذاتها، وعليهم الواجبات ذاتها، ويحصلون على جنسيتهم منذ الولادة لأب أو أمّ سوريين، ولا يجوز التمييز بينهم بسبب الدين أو العرق أو القومية أو الجنس أو الرأي السياسي أو أيّ سبب آخر. وتُّعد المواثيق والعهود الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان مرجعية أساسية في حماية حقوق الإنسان.
- للسوريين والسوريات حرّيّة الفكر والمعتقد وحقّ التعبير عن آرائهم بحرّيّة وعلانية، بعيدًا عن التكفير والكراهية والعنف بين الطوائف والأديان والقوميات.
ولهم الحقّ في وجود إعلام مستقلّ وحرّ، وحقّ تداول المعلومات والوصول إليها بحرّيّة، وتضمن لهم قوانين الدولة حرية التظاهر والإضراب السلميّين.
- للسوريين والسوريات كافة، الحقّ في العدالة الكاملة، وفي حماية سلطة قضائية تتمتع بالاستقلالية التامّة والحياد والنزاهة والموارد اللازمة لإحقاق العدل. ويُحظر إنشاء أيّ محاكم أو لجان استثنائية، ويُمنع تحصين أيّ تصرف أو قرار أو إجراء أو قانون من الرقابة القضائية، ويُحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
- للسوريين والسوريات حقّ التمتع بالحياة والسلامة الشخصية التي لا يجوز انتهاكها، ولا يجوز توقيف أيّ شخص أو تحرّي مسكنه إلّا بمذكرة قضائية، كما لا يجوز تعريض أيّ شخص للتعذيب والإيذاء البدني أو المعنوي أو المعاملة الحاطّة من الكرامة الإنسانية. ويُعدّ التعذيب جريمة مستمرّة لا تسقط بالتقادم.
- للسوريين والسوريات الحق بالتعليم والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي والبيئة النظيفة، والتمتع بالملكية الخاصّة، وفي حرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامتهم داخل حدود الدولة ومغادرتها والعودة إليها.
- مؤسّسات الجيش والشرطة والقوى الأمنية هي وحدها المخوّلة بحمل السلاح واستعماله لحماية المواطنين والدفاع عن الوطن حصرًا. ويُحظّر على أفرادها التدخل في العمل السياسي، وهي غير محصّنة، مثلها في ذلك مثل مؤسّسات الدولة الأخرى، وتخضع في عملها للحكومة المنتخبة، وتكون مسؤولة عن أعمالهم وتصرفاتهم أمام البرلمان والقضاء.
باختصار، إنّ الاتّفاق على المبادئ العشرة المشار إليها أعلاه، بصفتها مبادئ دستورية، وبجعلها أساسًا ومرتكزًا لبناء سورية الجديدة، هو أمر له أهمّيّة كبيرة، لقطع الطريق أمام عودة الاستبداد، ومنع تكرار ما حدث مرّة أخرى، ويساعدنا على فتح الطريق أمام السوريين والسوريات، للخروج من هذه المأساة التي لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلًا لها، وإن تأسيس نظام حكم جديد يرتكز على تلك المبادئ، يستطيع أن ينقل سورية من حالة الفوضى والبؤس والصراعات إلى حالة الاستقرار والبناء.