ضيف (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) اليوم، رسام الكاريكاتير السوري السويدي سعد حاجو (مواليد دمشق عام 1968) الذي وصل اسمه إلى العالمية، والذي عُرفَ في الأوساط السورية والعربية من قبل اندلاع ثورة السوريين في آذار/ مارس 2011، بأعماله الساخرة التهكمية، ورسوماته الكاشفة لأبعاد الصراع بين القامع والمقموع، وبين نظام القوة وصدق الحقيقة، والتي تجمع بين فن النخبة وصوت الناس. وكان سلاحه الأول في ما أبدع من رسومات تمسّكه بالحريات العامة، من دون الاكتراث بأي خطوط حمراء تضعها المؤسسات الرسمية أو الأجهزة الأمنية، فكان بذلك “فنان الشعب الثائر” بامتياز.

صاحب «بلاد العنف أوطاني»، الفائز بجائزة “إيفيكو” للكاريكاتور السياسي في السويد عام 2015، والذي عُرفَ عنه منذ بداياته الفنية براعته في صنع الأفكار ضمن لعبة جمالية، فهو يقدم رسوماته في أحيان كثيرة مدعومةً بالكلمة الشعرية الثاقبة في الزمن السوري الثوري العصيب. وتميز بجرأته في نقد دولة الفساد الفاشلة، ومواجهة آلة القتل والاستبداد الأسدية الإيرانية الروسية، وكان وما يزال مدافعًا مقدامًا عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمواطنة، لتكون سورية الجديدة دولة مؤسساتية ترتكز إلى سيادة القانون والشرعية الشعبية، ولكل السوريين، مهما اختلفت أعراقهم ومشاربهم السياسية والفكرية أو تنوعت انتماءاتهم الدينية وطوائفهم ومذاهبهم…

هنا نص الحوار معه:

كيف يفضّل سعد حاجو أن يقدّم نفسه لقراء (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) كمواطن سوري ورسام كاريكاتير يعيش في المنفى؟

أودّ لو سمحتَ لي أن أبدأ الجواب بنصّ أغنية كتبتها، وكان يعمل على تلحينها الموسيقي الشاب سعيد ميرخان، لكنه رحل عن عالمنا قبل إتمامها عن عمر يناهز 29 عامًا، آخر مرة غادرت دمشق، وأنا أودع والدتي وكانت في جنينتها تجلس في ظل شجرة الليمون قرب ياسمينتها تحتسي القهوة، قالت لي: “أنت يا سعد عم تنسى لأنك برات البلد، وأنا عم أنسى لأني جوات البلد.. الله يحميك”!

والدتي رحلت عن عالمنا في عمان بعيدةً عن ياسمينتها الدمشقية (والياسمينة هنا ليست على سبيل المجاز). كتَبت هذا النص حين بدأ الناس بالتظاهر في وجه الطغيان:

كنْت جوات البلد… جواتي قلب

صرتْ برات البلد… جواتي قلب

نفس القلب

واتغَربت

اشتَقْلي البلد

ما الشوق طول عمرُه شَهْم!

عيوني عالبُعد صاروا ناضور

وصرت ناطور الفَجْر

هداك اليوم… من يومين… مدري أكتَر

قبل الصبح… وش البرد… قبل مانام

من بين ندَف التلج

بَين سهم… شَقشَق صبح

اشتَقْلي البلد!

نفس البلد

طاير متل السهم

حن البلد… بَين سهم.

أنا رسام كاريكاتور سوري مستقل من عائلة كردية معروفة، أرسم بيدي اليُسرى، طولي 190 سم، لاعب كرة سلة سابق، ألعب الشطرنج، ولا أفقه شيئًا عن طاولة الزهر. من مواليد دمشق، أقمت في بيروت منذ العام 1993، وبدأت فيها بنشر رسوماتي الكاريكاتورية. حاليًا أعيش في مملكة السويد وأحمل الجنسيتين السورية والسويدية.

حياة حافلة بالعطاء بين دمشق وبيروت واستوكهولم، حدّثنا عن أبرز مواسم العطاء.

النشر الأسبوعي في الملحق الثقافي في جريدة “النهار” البيروتية كانت البداية الأمثل لي كشاب يعشق الكاريكاتور، كان للروائي والصحفي إلياس خوري، مُدير تحرير الملحق -حينذاك- الدور الأساس في تشجيعي، ونشر أعمالي بلا أي رقابة، بدعم من المخرج والصحفي محمد سويد، والشاعر الراحل بسام حجار، اللذين كانا يُشرفان على تحرير الملحق آنذاك. بعدها بسنتين (1995) زكّاني رساما الكاريكاتور المصريان الراحلان: بهجت عثمان ومحي الدين اللباد، كي أبدأ بالنشر اليومي في جريدة “السفير”. نشرت فيها مدة عشرين عامًا رسمين يوميًا: الأول سياسي في صفحة الرأي تحت عنوان “انظر الشكل!”، والثاني اجتماعي إنساني في الصفحة الأخيرة في زاوية ثابتة حملت عدة عناوين؛ كان آخرها “تهكّم عن بعد”. أول نافذة فُتحت لي على أوروبا كانت بفضل الصديق الصحفي خالد صاغية، فعن طريقه عام 2000 تم نشر رسم لي في جريدة “كورييه إنترناسيونال” الأسبوعية الباريسية، ما زالت الجريدة تقوم بنشر رسوماتي حتى الساعة. بعد إقامتي في السويد وخلال فترة قصيرة نسبيًا، بدأت بالنشر في العام 2009 في جريدة “فولك بلادت” (جريدة الشعب)، “الشعب هنا -في السويد- لا يُريد إسقاط النظام بعد”.

الناس أبعد نظرًا من نخبتهم

زواجك من رسامة الكاريكاتير الفنانة السورية سحر برهان، ماذا أضاف لك على الصعيد الشخصي والمهني؟

هي أكثر من رسامة كاريكاتور، فنانة تشكيلية مُعاصرة شديدة الموهبة، ناقدة لماحة، عينها البصرية ثاقبة، ضحكتها مجلجلة، عِندها إباء وأَنَفة وذات شَكيمة.

إذا نظرنا إلى الوراء، هل تأثرت تجربتك في مراحلها الأولى بأشخاص أو أعمال معينة؟ ومن قبل ما هي العوامل التي أسهمت في تشكيل تجربتك الفنية البصرية؟

التأثير الأعمق والأكثر رسوخًا مصدره أخي وربيعي خلدون، حيث كانت موهبته الفنية ومنذ الصغر فريدة ومكتملة؛ أدخلني إلى هذا العالم ثم خرج منه لأسباب خاصة به. بعدها كان لتعرفي على الفنان ناصر نعساني كبير الأثر، عبر تواصلي معه لاحظت بعيني المجردة تمرده على الأنماط السائدة، وتعلمت منه كيف يمكن للمرء أن يعشق مهنته كرسام كاريكاتور وفنان رسوم متحركة حتى التماهي، ثم تم اللقاء بيني وبين الفنان وليد قارصلي، فغدت صداقتنا المحفز الأكبر لي وله على ابتكار أفكار لم تكن لتخطر على بالنا فُرادى، نفذنا مجموعة من الأعمال الفنية الساخرة رسمًا ونظمًا أسميناها “الحذافير”، ووقعناها باسم فني مشترك “سعدوقة” (دمج بين اسمي سعد حاجو و وليد قارصلي) مستوحى من “الدعسوقة” وهي حشرة مفيدة جدًا في المكافحة البيولوجية ضد الحشرات المضرة.

ما الذي أضافته ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى لأعمالك الفنية من أفكار ومواضيع ميدانية على الأرض؟

رسمة لسعد حاجو رفعها ثوار صفاقس في تونس عام 2011

لطالما كان الناس أبعد نظرًا من نخبتهم، أخف دمًا من رسامي الكاريكاتور، أطول صبرًا من مُستبديهم، أشجع من مثقفيهم، وأكثر جرأة من صحفييهم. منذ اندلاع التظاهرات في تونس والجزائر -رجعتُ إلى أرشيفي ووجدت أن التظاهرات بدأت في البلدين، ولكنها قُمعت فخَبَت في الجزائر وآتَتْ أُكُلها في تونس- رفع المتظاهرون في مدينة صفاقس (جنوب تونس) كاريكاتورًا لي عن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي كنت قد نشرته في جريدة “السفير”.

تابعت بعدها إنتاج رسومات يومية وبكثافة، حتى وصلت التظاهرات إلى درعا ودمشق وحمص، فحصلت اِنعطافة فنية في أسلوبي، اتجهت نحو المُباشرة، وفي أول عمل لي في نيسان/ أبريل 2011، استعرت وتصرفت فيه بجملة شهيرة للراحل نهاد قلعي: “إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في سوريا، يجب علينا أن نعرف ماذا جرى في درعا”، وحين هتف المتظاهرون في الشام أغنية (طير وفرقع يا “بشار”) رسمت بشار الأسد ورأسه ينفجر “بُشارًا”. وبعدها “فرطِت مسبحة الأفكار”، حتى تاريخ هذا الحوار.

أين تضع نفسك بين ما يُنْتَج عربيًا؟ وكيف تنظر إلى الكاريكاتير العربي بعد ثورات الربيع العربي بموجتيه الأولى والثانية؟

رسام كاريكاتور على باب الله، مُعجب بلافتات كفرنبل، وبجرأة الفنانين الشباب الذين واجهوا الجلاد من الداخل، وكشفوا جُبن الطاغية وزيف المجتمع الدولي الداعم للطغيان.

الموجة الثانية من ثورات الربيع العربيكانت أصعب وأكثر دموية، ترافقت مع استعادة الطغاة وحاشيتهم أنفاسهم، وقاموا بسن رماح مالهم الفاسد المُفسد للبدء بالثورة المُضادة، وظهر المرتزقة على طرفي الصراع. وقد فرضَ هذا ضرورة تغيير أدوات التعبير وتطويرها. وجعلها أكثر تنبهًا. هل نجحنا؟ لست متأكدًا. تم التضييق على رسامي الداخل حتى غدا معظمهم خارج البلد، الإعلام البديل لم يتلقف الشباب والشابات، ونخر الفساد مؤسساته، أعيد إنتاج منظومة المحسوبية وتمسيح الجوخ. قمنا بإنتاج معارض مشتركة في عدد من مدن العالم بمجهود ذاتي. فَقدَ جُل الرسامين ثقتهم بالجسم الرسمي للمعارضة. وقرر معظمنا العودة إلى العمل بشكل فردي مستقل عبر منصاتنا الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي، لنكتشف أن الذي حظي بنصيب الأسد من الاستفادة من نتاجنا كان المدعو مارك زوكربرغ.

الثورة هي عملية نضال يومي

قلتَ في حوار سابق: “الثورة صنعت هوية الكاريكاتيرين السوريين”. من خلال تجربتك، كيف تأثر فن الكاريكاتير السوري بالثورة؟

قبل الثورة، قمت برسم جميع الحكام العرب، ومن ضمنهم بشار الأسد ولكن مرات قليلة، وكذلك فعل زملائي وزميلاتي، بعد الثورة، رفع الناس سقف التعبير، بل حطموه حين حطموا تماثيل الطغاة، استفدنا من مخزوننا البلاغي من استعارة وكناية وتورية بصرية، وأضفنا إليه تقنية الإفصاح والمباشرة، لتتكون معالم وهوية واضحة وجديدة للكاريكاتور السوري، امتزجت فيها مهارة ما قبل الثورة البصرية مع مخزون محلي لغوي وروح فكاهية جماعية، استُخدمت رموز جديدة تقصد أحداثًا بعينها، وتسمي الأمور بمسمياتها والأشخاص بأسمائهم، من مثل “بطة” و”فلاشة” و”مربع أمني” و”أختي كانت ترجع عالبيت الساعة ثلاثة وما حدا يحكي معها”، وفي مصر “البلحة”، وفي تونس “فهمتكم”، وفي ليبيا “من أنتم!”، وفي اليمن “فاتكم القطار” و”ساعة البغدادي الرولكس”… إلخ! أشعر بأننا الآن في مرحلة إعادة تقييم، وبحاجة إلى نقد الذات لا إلى جلدها ولا إلى إلقاء اللوم على النظام الحاكم فقط وعلى المجتمع الدولي الداعم لنظم الطغيان، والمستعمل لحق النقض (الفيتو) عشرات المرات لمنع سقوط الأنظمة. الثورة هي عملية نضال يومي، تحتاج إلى النفس الطويل والخيال الخصب والديناميكية للتفاعل والتأثير بمسار الأحداث. الكاريكاتور مصنع للأفكار الخلاقة، عليه الابتعاد عن اجترار ما أنتجه حتى الجيد منه، ما كان فريدًا في بداية الثورة غدا مألوفًا وربما نمطيًا الآن، فلنبحث إذن عن وسائل أجدى.

هل عشتَ حالة من الصراع بين عدم القدرة على تصوير ما يحدث في بلدك من قتل ودمار وتشريد، ضمن شروط العمل الفني، وبين ضرورة التعبير عنه؟

لا لم أعش هذه الحالة، كان كل همي ألّا أنقل الدماء من المشهد إلى رسوماتي، وكثير من الحالات كانت بليغة بحد ذاتها صادمة وتراجيدية، ولا تحتاج إلى أي تعبير إضافي بل تحتاج إلى مجرد الصمت والتأمل، على صعيد آخر كان أداء الحكام والمسؤولين أكثر كاريكاتورية من قدرتي عن التعبير عنها. ولاحظت أنه في الوقتِ الذي يتزايدُ فيه قيام الأغلبية -عبر وسائل التواصل الاجتماعي- بالسخرية من كل شيء تقريبًا؛ يجد رسامو الكاريكاتور أنفسَهم مرغمين على الجدية في تناول القضايا العامة.

هل كنت مهددًا بالاعتقال في وقت ما خلال فترة عملك بجريدتي “النهار” و”السفير”، ما بين عامي 1995 و2005؟ وكيف كنت تتهرب من مواجهة الرقابة والأجهزة الأمنية؟

مجرد أنك سوري يعني أنك مُهدد، وعملي كرسام كاريكاتور يزيد من احتمالات التهديد، لم أنشر يومًا في جريدة سورية رسمية أو مستقلة (هل من مؤسسة مستقلة في سورية!) كانت الرسائل المبطنة والصريحة، تصلني إلى لبنان عن طريق المقربين من مركز القرار، المنع من السفر أو إعطاء السماح بمغادرة لمرة واحدة، أو مُراجعة فرع من أجل شرب فنجان قهوة، كان ذلك أمرًا اعتياديًا، مع أنني لا أحب شرب القهوة وأُعتبر شريب شاي من الدرجة الأولى، كان قراري منذ البداية الابتعاد عن أي سلطة أو مركز قرار، وعدم الاطمئنان لأي وعد من وعود التغيير الزائفة، أو الخلاص في تبديل طقم الحرس القديم بطقم من الحرس الجديد، لاحظ اختيار كلمة “حرس” وما فيها من دلالات، ابتعدت قدر الإمكان عن دوائر العنف كي أتمكن من التعبير عن أفكاري بحرية.

هناك أنواع أُخرى من التهديد، وهي حين يُرسل أحد أصحاب النفوذ (إن كان رئيسًا أو زعيم حزب) عبر أحد زبانيته رسالة شفهية، فحواها أنه مُعجب بأعمالك، يعقبها عادة طلب مبطن لتقديم فروض الطاعة له عبر قبول تحديد موعد للزيارة، الحل عندي كان -ولم يزل- تجاهل هذه الرسائل جملة وتفصيلًا، ورفع سقف النقد الكاريكاتوري لإرسال رسالة مُضادة. لا أؤمن بنظرية المستبد العادل ولا بنظرية مجرم الحرب خفيف الظل.

دماء أكرم رسلان ورائد الفارس وأصابع علي فرزات، تضحيات جسيمة قدّمها رسامون ومبدعون سوريون في معركتهم ضد الاستبدادين السياسي والديني. سؤالي: كيف لفن الكاريكاتير أن يساهم في إسقاط الطغاة؟

عبر متابعة الرسم والنقد، لا كللًا ولا مللًا. بحسب إريك فروم “حياة الطاغية السادية تكون محرومة من الإنتاجية والفرح، فيغدو هدفه تحويل العجز إلى خبرة القدرة على كل شيء”. بإنجاز الفرح المُضاد وفضح عجزه عن الإنتاج، نقوم بالمساهمة في خلخلة صورته المتماسكة المزيفة ومن ثم إسقاطها. نستطيع أن نطبق نصيحة الفيلسوف الصقلي جورجياس الذي عاش بين (483-375 ق.م)، “اُقتل جدية خصمك بالدعابة، واُقتل دعابته بالجدية”.

لعب فنّ الكاريكاتير في كثير من الأحيان في بلداننا العربية دورًا سلبيًا، تمثل في “تنفيس الاحتقان”. من خلال تجربتك، ما هو الدور الأساس لفن الكاريكاتير في مجتمعاتنا العربية التي تحكمها رقابة مشددة؟

حين نضحك من أجل المتعة فقط، تتحول ذاكرتُنا إلى ذاكرة سمكة، وكذلك حين نخفف الاحتقان بنكتة تُعزر في باطنها سلطة الدولة، لاحظ كيف أن نكت دريد لحام عن أجهزة المُخابرات تعزر الخوف من جبروتها على المدى الطويل، أما التهكم، وهو أعلى مراحل السخرية وأكثرها استفزازًا، فلا يُمحى من الذاكرة بسهولة، التهكم يشل الخصم ويجعله محطًا للسخرية، عبر التهكم، تبقى ضرورة حل المشكلة حاضرة في الأذهان لتقض مضاجع أصحاب القرار خاصة حين تتداولها العامة وتعيد إنتاجها بقوالب متنوعة. الطغاة على أنواعهم مهووسون بتدمير الأنفس والأمكنة والمدن، كي يجدوا معادلًا خارجيًا للدمار والخواء الذي يسكنهم، هنا تغدو وظيفة الكاريكاتور إعادة ترميم المفاهيم والإشارة إلى مواطن الانهيار وأسبابه، للمشاركة في إعادة بناء الإنسان والمكان، بهذا المعنى يكون الضحك زلزالًا مُعاكسًا، يُعيد بناء ما هدمه الطغيان.

أقمتَ في بيروت عدة معارض لرسوماتك من بينها «كار الأفكار» (1997)، «أحرف النصب أن لن كي لا ننسى» (1998)، «الصباح رباح» (1999). و«كل ما هو آت آت» (2003). سؤالي: كيف تختار عناوين معارضك، وهل يُشكلُ العنوان مدخلًا للرسالة التي ترغب في إيصالها إلى الجمهور؟

تأتي العناوين معي بالسليقة، أهمية العنوان تُعادل أحيانًا العمل أو المعرض نفسه، فهو يعلق بالذاكرة ويقوم الناس بتذكيرك بالمعرض عبر اسمه، وهو أحد أهم ركائز الترويج للأعمال، ويساعد في انتشارها، أعتمد في اختيار العناوين على المخزون المشترك بيني وبين المتلقي، العنوان كلمة سر (باسوورد) يشعر معها الجمهور أنه مرحب به في المعرض فيدخل المعرض آمنًا.

ما الهدف الذي وضعته من وراء تنظيم معرض لرسومك مع الفنان البولوني بافل كوزنسكي، بعنوان «الضحكة النواس»، في أيلول/ سبتمبر 2013 في مدينة “نورشوبنغ” السويدية؟

لطالما آمنت أن الثقافة بين الشعوب تشاركية وليست تصادمية، نفس العضلات في وجوهنا تتحرك حين نضحك، في العام 2004 كنت عضو لجنة تحكيم في مسابقة دولية، لفت نظري كاريكاتور منفذ بأسلوب خاص وفريد فمنحته صوتي، حاز الرسم على جائزة تقديرية، صاحب الفكرة كان بافل كوزنتسكي حصد أكثر من 200 جائزة دولية بعدها، في لقاء معه -بعد سنوات- أخبرني بأن تلك الجائزة كانت الأولى له، وكان ذلك الرسم الكاريكاتوري أول عمل ينفذه، بعد أن قرر تغيير مساره، من فنان حديث التخرج ينتمي إلى مدرسة الواقعية القصوى إلى عالم الكاريكاتور، نشأت بيننا صداقة، اتفقنا على تنظيم معرض مشترك في “نورشوبنغ” في السويد، وفي معرض أبو ظبي الدولي للكتاب عام 2014، اسميته «الضحكة النواس» كان هدف المعرض إظهار أن أفكار الكاريكاتور هي أعمال فنية يدوم أثرها طويلًا، ويمكن اقتناؤها كأي عمل فني آخر، وتعليقها على الجدران وتداولها مرات ومرات عبر وسائط التواصل الاجتماعي. فكرة “النواس” مبنية على مبدأ أن غنى الثقافة ونموها لا يتم إلى عبر رحلة نواسية بين حضارتين جيئةً وذهابًا مرة واحدة على الأقل، لاحظ أن الموشحات نشأت في بلاد الشام كحلب مثلًا، وذهبت إلى الأندلس، ثم عادت مجددًا إلى بلاد الشام لتكتمل هويتها التي وصلت فيها إلينا.

ماذا عن الجمهور غير العربي مع لوحاتك؟ وإلى أي مدى وصل فن الكاريكاتير السوري إلى العالم؟

عبر مأساتنا، وصلنا مع الأسف إلى أطراف المعمورة، أثره هنا أقل من أثره هناك، فصلاح الدين الأيوبي بطل في بلدي، وهنا عدو، ولكن يحظى باحترام، ولكن هنا في السويد مثلًا أُضحك القراء بطرق مختلفة، على سبيل المثال بعد جائحة “كورونا”، أصدرت وزارة الصحة إرشادًا بضرورة المحافظة على مسافة المتر ونصف المتر، بينك وبين الآخرين، فرسمت مواطنَين سويديين قبل “كورونا” شديدي التباعد عن بعضهما، بعد “كورونا” اقتربا من بعضهما مسافة المتر ونصف المتر، التباعد الاجتماعي في العالم غدا في السويد تقارُبًا.

«حاجو بقى»، سيكون عنوان كتابي الثالث

أصدرت كتابين في رسوم الكاريكاتور الأول «كل ما هو آت آت» (2003)، والثاني كتاب «بلاد العنف أوطاني» (2009). كيف تقيم تجربتك مع هذين الكتابين والإقبال الجماهيري عليهما؟ ومن ثم متى سنرى كتابك الثالث، وماذا سيكون مضمونه؟

الأول كان كتيّبًا، نفد سريعًا بعد نشره وتوزيعه في المكتبات في لبنان، الثاني كتاب استعادي لخمسة عشر عامًا من عملي في جريدة “السفير”، وهو ذو جودة فنية طباعية عالية، حقق نسبة مبيع عالية أيضًا، لم أعد أملك سوى نسختين منه، والغريب أن أكثر طالبي شرائه -بحسب مؤشرات شركات التوزيع حينها- كانوا من السعودية، بالرغم من وجود رسومات ناقدة لكافة الرؤساء والملوك العرب، ومنهم ولي العهد السعودي حينها. وأنا بصدد إصدار كتابي الثالث بالعربية والإنجليزية، تحت عنوان «حاجو بقى»، فيه توثيق بشكل كبير لمجمل الأعمال التي توفقت في إنتاجها منذ العام 2011، مع بعض الاستعادة لأعمال قديمة أعدت تنفيذها، أطرح في جزءٍ من الكتاب سؤالًا عن سبب توقفنا عن رؤية بعضنا، وعن عدم التعاطف بين الأفراد والمجموعات، الكتاب الآن في مراحله الفنية الأخيرة، بأيدٍ أمينة للمترجم والصديق جاك أسود، وهو أكثر من مترجم فهو يملك عينًا فنية ثاقبة وعقلًا معرفيًا نقديًا أرشيفيًا إبداعيًا، ملاحظاته تؤخر الطباعة والنشر، ولكنها تغني الكتاب وتضبطه. كما أنني أهمّ بإطلاق مجموعة من الرسومات المتحركة ثلاثية الأبعاد، مع فريق عملي المكون من ضياء حمصي، استشارة فنية لـ سحر برهان، موسيقى دياب ميقري ومحمد سامي، في قناتي اليوتيوبية التي تحمل اسم (حاجو بقى) أيضًا.

يرى زميلك ومواطنك رسام الكاريكاتير علي فرزات أن الرسم من خلال التقنيات الحديثة هو مثل “قبلة من خلف الزجاج حيث لا حرارة فيها”. ما هو تعليقك؟

أفهم تعلق الصديق علي فرزات بالحبر والورق، أنا أعشق مثله رائحتهما، ولكنني لا أتفق معه بالنسبة للتقنيات الحديثة، كل أفكارنا تبدأ في الرأس في العقل غير ملموسة، أو في الأحلام، أحلامنا وأفكارنا تشبه الديجيتال والواقع الافتراضي، لطالما اعتقدتُ أن “آفاتاري”، وليس أنا، هو من يقوم بابتكار الأفكار، حين دخلت بحذر إلى العالم الرقمي كان همي ألا تتحكم الأدوات في أسلوبي، وألا تفرض علي شروطها، فتغدو أعمالي شبيهة بأعمال كثير من زملائي التي لا أستطيع أحيانًا التمييز بينها، لكني حين وجدت الراسمة والأقلام الرقمية المناسبة دخلت مغارة علي بابا الرقمية، ولم أخرج منها؛ أنا شخص يحن إلى المستقبل وليس إلى الماضي.

ما رأيك وتقييمك للطاقات الفنية الإبداعية الشابة التي فجرتها الثورة، وما ملاحظاتك على الكاريكاتير الذي ظهر مرافقًا للثورة السورية، خاصة المُفردات البصرية والجرأة في مواجهة الاستبداد؟

تقييمي الإجمالي شديد الإيجابية، أغلب الشباب والشابات من رسامي الكاريكاتور و”الفوتو-آرت” أصدقائي، أخشى فقط على بعضهم من المديح والإطراء السابق لنضوج تجربتهم وتمكنهم من أدواتهم، مما يؤدي بهم إلى ارتباكات في معرفة ما يتقنونه وما يحتاجون إلى صقله، عدا ذلك، أنا أسألهم عن كل جديد يحصل في عالم الترويج والنشر الرقمي والمصفوفات وطرق الانتشار وآخر التطورات التقنية. لم تتوفر لهم منصات بمستوى طاقتهم وإبداعهم وتمردهم وهمتهم.

شاركتَ عام 2012 في تأسيس “تجمع التشكيليين السوريين المستقلين”، الذين يدعمون الثورة السورية. لماذا خبا دور التجمّع ولم يعد له أي نشاط يذكر؟

“كل البدايات ورود”، نحن ما زلنا إقصائيين ونظن أننا نحتكر الحقيقة، ونعتقد أن صحة رأيي لا تمر إلا عبر بطلان رأيك، امتلكنا العين الثالثة التي رأت واستشرفت ضرورة قلب الطاولة على المستبدين، لكن ما زالت تنقصنا الأذن الثالثة المسؤولة عن الإنصات من دون مواقف مسبقة تجاه ما سيقال أو ما سيتم القيام به، كذلك تشظينا بين معارضة الداخل التي لا تعترف بمعارضة الخارج، ومعارضة الخارج التي لا ترى معارضة في الداخل، علمًا أن كثيرًا من معارضي الداخل كانوا يومًا معارضي الخارج. وأحيانًا أيضًا يكفي أن يدخل أو تدخل شخصية ثقيلة الظل إلى مؤسسة، فيتفرق الجمع هربًا منها.

كيف تلقيت خبر الفوز بجائزة “إيفيكو” للكاريكاتور (2015)، التي تُعد أرفع جائزة للكاريكاتور السياسي في السويد؟ من الذي خطر ببالك في تلك اللحظة بالذات؟ ومن ثم ما قيمة الجوائز الفنية بالنسبة للفنان؟

تلقيتها بفرح ومفاجأة، كوني أساسًا أحترم اسم الفنان السويدي المرتبطة باسمه الجائزة أعني إيفرت كارلسون، يتم اختيار الفائز من دون محسوبيات أو توصية من سعادته أو فخامته، تُمنح الجائزة عبر التصويت ديمقراطيًا في اللجنة، وكوني أول حائز غير مولود في إسكندنافيا كان طيبُ أثر منحي إياها أكبر.

أذكر أنني أهديتها لرسام الكاريكاتير السوري الشهيد أكرم رسلان، ولأصابع الرسام علي فرزات، كون خبر استشهاد أكرم تحت التعذيب كان قد ثبت. أصدقكَ القول؛ على المستوى العميق في داخلي، الجوائز لا تعنيني، قدرتي على الاستمرار في الرسم وابتكار الأفكار ومشاركة المتعة والبهجة والفائدة مع الآخرين تعنيني بشدة. أنا مؤمن بأن الكاريكاتورَ يَفْتحُ ثُقوبًا في سُدودِ اليقين.