يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الكاتبة والإعلامية الفلسطينية السورية سعاد قطناني، معدّة البرامج التلفزيونية التي اشتُهرت ببرنامجها “يا حرّية“، الذي عُرض على شاشة (تلفزيون سوريا) المعارض، وهو برنامج يوثّق بصريًا تجارب المعتقلين السوريين السابقين في السجون الأسدية، كاشفًا عن الوجه الوحشي الحقيقي للنظام الأسدي الدموي، ومؤكدًا الروح الجبارة للإنسان السوري، في إيجاد أساليب الخلاص من قسوة هذه التجربة.

عملت ضيفتنا على نقل شهادات وحكايات المعتقلين والمعتقلات، عن السجن والسجّان -كما رُوِيَت لها- على الورق، مفرّغة مع النصوص الكثير من وجع روحها، وهي تسرد أحلام وآمال ومخاوف وأوجاع من عاشوا قسوة التجربة التي امتدت سنوات طويلة.. فكان كتابها الثالث الموسوم بـ «الشرّاقة.. ما قيل وما لم يقل في برنامج يا حرية»، الصادر عن “دار موزاييك للدراسات والنشر” في إسطنبول، والذي جاء في (370 صفحة من القطع الكبير)، وهو يحتوي -في جزئه الأول- على اثنتي عشرة حكاية موجعة، استندت إلى شهادات عددٍ من المعتقلات والمعتقلين السياسيين السابقين في سجون النظام الاستبدادي الطائفي الوحشي الجاثم على صدور السوريين منذ أكثر من خمسة عقود، وهم: الكاتب مصطفى خليفة صاحب رواية «القوقعة»؛ والمناضلة فدوى محمود زوجة المناضل عبد العزيز الخير، المغيّب منذ عام 2012 في أقبية الأجهزة الأمنية الأسدية؛ ومالك داغستاني؛ ومحمد برو؛ وتهامة معروف؛ ورياض أولر؛ وحسن النيفي؛ وإبراهيم بيرقدار؛ ورزان محمد؛ وباسل هيلم؛ ونظمي محمد؛ وعمر الشغري.

صاحبة (انكسار الصورةBBC )، من مواليد مدينة اللاذقية، لأبٍ فلسطيني الأصل من أبناء مدينة يافا المحتلة، وهي خريجة كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق، وتحمل شهادة في “أساسيات الإعلام والاتصال” من كلية كونستوغا في كندا، وتزيد خبرتها في الإعلام المرئي على خمسة عشر عامًا، وقد عملت في تلفزيونات (الشارقة، وإنفينتي، وبي بي سي عربي، وتلفزيون سوريا). ولها كثير من المقالات في العديد من الصحف والمنابر الإلكترونية العربية والدولية.

هنا نصّ حوارنا مع صاحبة «عشر عجاف»..

في البداية، كيف تقدّم سعاد قطناني، ابنة الثورتين الفلسطينية والسورية، نفسها لقرّاء مركز حرمون للدراسات المعاصرة؟

أنا فعلًا فلسطينية سورية، وهذا التماهي بين فلسطينيتي وسوريتي لم يكن وليد اللحظة، بل هو وعي لذاتي وذاكرتي، للتاريخ والجغرافيا اللذين انغمست روحي فيهما، فأنا وُلدت لاجئة فلسطينية في سورية، لعائلة مكونة من عشرة أبناء وبنات، وُلدت في مدينة اللاذقية، ولكني لا أذكر منها سوى نتف صغيرة، لأنني غادرتها طفلة للعيش وعائلتي في مدينة دمشق؛ دمشق التي حفظتها عن ظهر قلب، بشوارعها وحاراتها.. بفرحها وحزنها، فيها تشكلت بداية وعيي للحياة وبذرة وعيي السياسي، حيث عرفت والدي وهو خلف القضبان في سجن المزة، كسجين سياسي، وأذكر تمامًا، وأنا في الصفّ الأول، أني تأخرتُ عن المدرسة في أحد أيام زيارة أبي -كم هو راسخ بالذاكرة ذلك اليوم، فبعد كل هذا العمر ما زلتُ أذكر أنه كان يوم ثلاثاء- يومَها أجبتُ ردًا على سؤال: “لماذا تأخرتِ؟!”، بالشرح للمعلمة أني “كنتُ في زيارة والدي في السجن”، فقاطعتني بكلّ صلف وبصوت عال، أمام رفاقي في الصف: “إيه أكيد أبوكِ عامل شي جريمة ولا سارق، ما؟!”، فأجبتها: “أبي سجين سياسي”! فما كان منها إلا أن انتفضت وهاجت وأخرستني. فعدتُ إلى مقعدي، وصوت صرير قلم الرصاص على دفتري يحفر في روحي!

هل يمكن لطفل أن يعي ماذا تعني كلمة “سجين سياسي”، في ذلك الوقت، وأن يستعملها كآلية دفاع عن الكرامة والقيم النبيلة؟! هكذا -بكل بساطة- دخلَت السياسة والحرية وفلسطين وسورية إلى قاموس مفرداتي وحياتي منذ البدايات، هذه المكوّنات شكّلتني، وشكلت سعاد التي هي أنا الآن، والتي تكره الظلم، بكل أشكاله وتلاوينه، وتكره الاستبداد والطغيان والاحتلال، وتنحاز إلى الحريات والإنسان. درسْتُ الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق، وبعد تخرجي بعامين غادرتها، وبدأت بشق طريقي الإعلامي.

كل شيء في سورية كان يُنذر بالكارثة

على الرغم من أنّ السؤال عن البدايات مكرّر، تظلّ للبدايات نكهتها الخاصة؟ ماذا تخبرينا عن خطواتك الأولى في عالم “مهنة المتاعب”؟

أستطيع القول إنّ بداياتي الحقيقية كانت في تلفزيون الشارقة، إذ بدأت كمراسلة ومعدّة تقارير، ثم عملت كمذيعة أخبار في تلفزيون وإذاعة الشارقة، وقمتُ بإعداد وتقديم العديد من البرامج ذات العيار الثقيل، مثل برنامج «قراءات من الصحافة الأجنبية» أو «المجلة المرئية» و«أروقة التميز»، و«كتاب الأسبوع»، وغيرها من البرامج. ما يميّز هذه الفترة “التأسيسية” على مستوى العمل الإعلامي الحقيقي، أني وجدتُ في تلفزيون الشارقة، مع توجهه الوطني والقومي -آنذاك- وتبنّيه لقضية فلسطين، ضالتي، فكانت المساحة مفتوحة للقول والتعبير عن هذا الهمّ، وكنت كلّ يوم -بالعمل الجاد والدؤوب- أضيفُ رصيدًا إلى خبراتي ومعارفي الإعلامية، إن كان على مستوى الثقافة أو على مستوى التكنيك. في هذا المكان، عرفت أنّ الوسط الإعلامي صغيرٌ جدًا، مهما كان واسعًا، وعرفت أنّ سمعة الإعلامي تسبقه إلى أي مكان، ولهذا كنتُ حريصة على ألّا أقدّم إلا ما أقتنع وأؤمن به، وألا أتنازل عن مبادئي وقيمي.

بعد عملي في تلفزيون الشارقة، عملت في تلفزيون (إنفينيتي)، وكانت لي فيه تجربة مهمة جدًا، كان عنوانها الاجتهاد والعمل على تشكيل كياني الإعلامي، بمعنى الهوية الإعلامية لسعاد قطناني، عملت خمس سنوات، كمذيعة أولى ومعدة برامج في “إنفينيتي”، وعملت بجد، ولكن -مع الأسف- يبدو أنّ التجارب التي تبدأ بأحلام كبيرة، من دون خطط إستراتيجية للتطوير، تنتهي وإن طال بها الزمن، حيث إنّ هذا التلفزيون انتهى بعد مغادرتي، وانتقل كادره إلى محطات أخرى متفرقة. يمكن القول: إنّ التعامل الإعلامي بشكل عام، في تلك الفترة، كان مع القضايا السياسية أبسط، وكانت طريقة معالجة الأمور والتعامل معها أكثر سلاسة، ففلسطين محتلة من نهرها إلى بحرها، والموقف من احتلال العراق كان واضحًا، وآنذاك لم تكن الحريّات في البلاد العربية مثارَ جدل أو تناول في الإعلام العربي الذي كان بمعظمه تابعًا للحكومات. أما الآن، فقد تغيّر الإعلام كليًا عمّا كان وقتها، إذ وُلدت محطات كثيرة، وارتفعت جرعة المنافسة، وارتفعت نسبة الضوابط الإعلامية في بعض الأماكن، ونُسفت إلى حدٍّ كبير في أماكن أخرى، وزاد التمويل والحاجة إلى الإعلام الموجّه كميةَ الاستقطاب والشرخ والانقسام في القنوات الإعلامية، وبتنا اليوم نقرأ الفوارق والشروخ في طريقة تقديم الخبر الذي صار علامة مميزة للمرحلة، وتستطيع ببساطة أن تعرف توجّه القناة، من خلال “منظومة التعابير” التي تصوغها كلّ محطة بحسب توجهها.

متى تركتِ سورية؟ ولماذا؟، وإلى أين أودت بكِ دروب الثورة والحرب؟

غادرت سورية بعد زواجي، وعملنا أنا وزوجي في الإمارات، وذلك في بداية عام 2000، وصارت سورية بالنسبة إلينا، كحال كل المغتربين، مكانًا للأهل والأحبة والأصدقاء، نعود إليها في الصيف، ونلتقي بهم في رحلة قصيرة، لكني في كل عام كنت أشعر أن سورية التي أعرفها تبتعد، فالفقر كان يزداد، والشرخ الاجتماعي يكبر، والفساد كان يضرب عميقًا في بنية المجتمع، كنت أرى موظفين ما زالوا في أوّل السلّم الوظيفي، ومع ذلك يمتلكون سيارات فخمة تصطف أمام بيوتهم في أحزمه الفقر، كنت ألحظ أنّ هناك شيئًا كبيرًا يحدث تحت السطح، كان النظام يفتك بالمجتمع، بانفتاحه وشراهته لأموال الخليج والاستثمارات، على حساب البنية الاقتصادية للبلاد، كان كل شيء يُنذر بالكارثة!

في نهاية 2008، هاجرنا إلى كندا بحثًا عن “وطن احتياط”، في حال لفظتنا الجغرافيا والعروبة، لأنّ العودة إلى سورية أصبحت شبه مستحيلة مع التخوف الأمني الذي أصبح يطارد كل من له وجهة نظر مختلفة؛ وهناك ونحن في كندا بدأت ثورات الربيع العربي تشتعل، وكانت قلوبنا معها تشتعل؛ الأصوات التي سمعتها في البدايات تصدح في سوق الحريقة “الشعب السوري ما بينذل…” أعادت لسورية مكانتها في قلبي وروحي، نسيت النوم، وكنت أتابع ما يحدث لحظة بلحظة، هناك شيء قد تحرّك، والحجر الذي رُمي في البركة الراكدة قد قلب العالم وقلب كياني. عام 2013، بدأت إجراءات الانتقال إلى بريطانيا، بعد قبولي في مسابقة للعمل في تلفزيون (بي بي سي)، وعملت هناك عامين، ثم عدت إلى الإمارات، وبعدها جئت إلى إسطنبول وعملت في “تلفزيون سوريا” كمذيعة ومنتجة ومعدة، وحققت أيقونة قلبي برنامج “يا حرية”، ومن ثم عملت كمديرة لقسم البرامج، وبعدها تفرغت لكتاباتي، وهذا ما كان.

ننتقل إلى الحديث عن آخر إصداراتك: «الشرّاقة.. ما قيل وما لم يقل في برنامج يا حرية» الصادر الشهر الماضي، ماذا تخبرينا عنه؟

الكتاب هو عبارة عن حكايات لناجين وناجيات من معتقلات الأسد الأب والابن، ويحتوي على اثنتي عشرة حكاية، تغطي ما يقرب من خمسين عامًا من محاولات النظام في سورية لإعدام الحياة السياسية وقتل السياسة والرأي في المجتمع السوري. في هذا الكتاب، أعدتُ صياغة الأسئلة والأجوبة لتصير سردًا وحكاية، استعدتُ ملاحظات كنت كتبتها في أثناء التحضير للقاء، كما استحضرت وجع اللقاء وأثره فيّ. الكتاب يحتوي على ما قيل وما لم يُقل في (الجزء الأول) من شهادات “يا حرية”، في 367 صفحة، وأهم ما يحتويه هذا الكتاب إضافة إلى التوثيق المكتوب أنني وضعت فيه ما لم أستطع وضعه في ثلاثين دقيقة تلفزيونية مصورة، وهي مدّة البرنامج، خاصة أنّ الشهود تحدثوا وباحوا بهمومهم وآلامهم، ساعات عديدة أمام عدسة الكاميرا.

ما الغايات والمقاصد من توثيق أو تأريخ قصص الناجين والناجيات من معتقلات الدكتاتورية الأسدية؟

في الصفحات الأولى من كتابي «الشرّاقة..» إهدائي، وهو “إلى المعتقلين الذين رحلوا في أقبية الأسد المعتمة، ولم نسمع حكاياتهم”. وهذا الإهداء برمزيته يحمل كثيرًا من الوجع المدفون في أرواح من رحلوا بحثًا عن حرية أصبحت صعبة المنال، ويعيدنا إلى السؤال: لماذا نكتب الحكايات ونوثق الألم؟ إننا نكتب كي نوثق اللحظة بلسان من عانوا وعاشوا الألم، وكي تكون هذه التجارب عبرة للأجيال القادمة، ليعملوا على ألا يتكرر ما حدث وما زال يحدث، في زنازين وأقبية الأنظمة الاستبدادية، نكتب كي تبقى هذه الآلام ماثلة وشاهدة على صمود شعب وآلامه، أنا متأكدة أنّ كل هذا الألم سيزول، وستبقى هذه الحكايات لتروي للأجيال القادمة التي ترفل بالحرية أنّ الثمن كان غاليًا، وأن عليهم ألا يفرّطوا بأي مكسب دفع السوريون كثيرًا في سبيله من أرواحهم وأحلامهم ومستقبلهم، وإنّ توثيق هذا الألم الموصوم بمعتقلات الاستبداد الأسدية سيُعيد رسم وتشكيل العدل، وستكون هذه المواد شاهدًا في المحكمة وفي وجه المتورطين، وأملًا في بناء دولة العدالة والرفاه والديمقراطية.

حكايات حفرت عميقًا في الروح

استوقفتنا، في العنوان الفرعي للكتاب، الإشارة إلى “ما لم يُقل في برنامج يا حرية”، ونسألك: هل كانت هناك رقابة على ما يُطرح في برنامجك من جهة الإشراف؟ وهل كان هناك سقف محدد للعمل، بسبب ضغط سياسي من جهة ما، أو بسبب خوف الضيوف من سلطة ما؟ ولماذا لم يُبثّ كلّ ما قيل على لسان ضيوفك؟!

في العنوان الفرعي للكتاب، اخترتُ أن أشير إلى أنه يحتوي على “ما لم يقل في برنامج يا حرية”، لأنّ التوثيق البصري ومعايير العمل التلفزيوني، في كثير من الأحيان، لا تحتمل قول كل ما ورد على لسان الناجين من سجون الأسد، فداحة الشهادات والمعايير التحريرية التي أعمل وفقها في التلفزيون تختلف تمامًا عمّا يمكن قوله كتابةً، وأود أن أشير هنا إلى أنه لم يمارس أي أحد أي نوع من الرقابة على ما أريد قوله في البرنامج ، فكانت معاييري هي معايير العمل التلفزيوني والضوابط التي أعرف تمامًا ما يمكن عرضه أو قوله على الشاشة الصغيرة، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، من المهم التذكير أنّ البرنامج المعروض على الشاشة مدته نصف ساعة، ولكن اللقاء، كما ذكرت سابقًا، كان يتجاوز ساعتين على أقل تقدير، كنت أبحث أثناء لقائي معهم/معهن عن الاسترسال في الحكاية، حتى تصل إلى مرحلة البوح، وكنت أسأل وأحفر وألتقط إشارات أو عبارات في حديث الضيوف حتى تتدفق الذاكرة، ولهذا كانت الاستطرادات كثيرة، وهذه الذاكرة المتدفقة كانت تقفز من الماضي إلى الحاضر لتوثق ألمها الروحي العميق، وفي هذا السياق، كان صعبًا جدًا التعامل مع هذه الذاكرة في العمل التلفزيوني المحكوم بنصف ساعة، فكنت أكثف وأختزل لكي تتماسك الحكاية، وصلت اللقاءات مع بعض الناجين إلى خمس أو ست ساعات، هذا عدا ملاحظاتي التي كنت أدونها قبل وأثناء اللقاء، كان كل شيء يوحي إلي أن هذا التدفق لا بدّ أن أجد له إطارًا يستوعبه، وأستطيع من خلاله أن أضيء كل جوانب التجربة، فاحتفظت بكل ملاحظاتي وأوراقي المبعثرة، واحتفظت بانطباعاتي وانفعالاتي لحظة اللقاء وقد أعطت النصّ طابعًا حكائيًا، فكان هذا الكتاب الذي يحتوي على ما قيل وما لم يقل في برنامج “يا حرية”.

ما أبرز الصعوبات والعراقيل التي واجهتك وأنت تعملين لإنجاز حلقات برنامجك “يا حرية”، وما أبرز القصص التي استوقفتك في مرحلة التصوير؟

سأتحدث عن سياق من الألم رافقني في هذا البرنامج، في مرحلة التحضير واللقاء ثم المونتاج كاملًا وكتابة المشاهد الدرامية وغيرها من العمليات الفنية. قبل إجراء هذه اللقاءات، بحثت في خمسين اسمًا لمعتقلين ومعتقلات في سجون الأسد، كنت أدوّن هذه الأسماء ضمن جداول، وأضع أماكن إقامة الناجين والناجيات وبعض الملاحظات، كي أتمكن من الوصول إليهن/إليهم؛ أكثر ما أوجعني هو أن بعض هؤلاء الذين دوّنت أسماءهم وكنت بصدد التواصل معهم توفوا قبل أن أصل إليهم، مثل الناجي علي عبد الناصر ملص، الذي توفي في الريحانية قبل أن أسمعه وهو يحكي حكايته، كان تعرّض لتعذيب وحشي في أثناء اعتقاله، حتى إن سجانه رماه في أرض خالية مع الموتى، وهكذا نجى من الموت ليحيا، كنت أريد سماع حكايته، ولكن القهر قتله، حين عرفت بوفاته بكيتُه وكأني أعرفه، فأبقيت اسمه في مدونتي، ولكني ظللته بالأسود، وكذلك أوجعني خبر عودة مازن الحمادة إلى دمشق، كنت قد تواصلت معه ووافق على اللقاء، لكنه عاد واعتذر وقال: “أنا متعَب، متعب جدًا ولا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك”.

كان العمل بمجمله مؤلمًا في كل مراحله، سافرت إلى مناطق كثيرة في تركيا، لألتقي بضيوفي في بيوتهم، وسافرت إلى فرنسا وريفها وإلى مناطق نائية فُرز اللاجئون إليها، ووصلت إلى ألمانيا والعديد من مدنها، والسويد، كما سافرت إلى العديد من البلاد العربية لتكون أماكن إقامة الناجين جزءًا من الشهادة والحكاية بكل ما تحمله من تفاصيل، وفي كل هذه اللقاءات، لقينا الترحيب وحسن الاستقبال وكأننا نزور بيتًا من بيوت أهلنا وإخوتنا، وهم كذلك. وما أصعبَ لحظات الوداع، وخاصة أن تلك اللحظات كانت تشي أنها المرة الأخيرة التي يمكن أن أراهم فيها وجهًا لوجه! كان يؤلمني انفلات الدموع من عقالها، أو حتى ابتلاعها، لا أستطيع أن أذكر قصة بعينها آلمتني؛ فكل الحكايات كانت تحفر عميقًا في روحي، كنتُ أهرب من الألم بالعمل لحدِّ الإجهاد، في تلك الفترة نسيت كيف كنت أنام، ونسيت كيف كنت آكل، كان كل شيء يخرج عن سياقاته الإنسانية العادية، ويضعني في مواجهة مع الألم وواجب توثيقه، كنت أخشى ألا يسعفني الوقت في قول كل ما يجب قوله، كنت أمام مهمّة إنسانية وأخلاقية وواجب عليّ إتمامه، وهكذا فعلت.

في أثناء إجراء لقاءات “يا حرية”، وفي جميع أجزائها، لم أكن أبحث عن البطل أو البطلة، كنت أبحث عن الإنسان، ودائمًا حين يتجوهر الإنسان يصيرُ بطلًا دون ادعاء، وهذه المواجهة بين أفراد العائلة زوج وزوجة أو إخوة أو أقرباء في غرفة التحقيق فيها كثير من الحكايات، حكايات الروح التي شقها وجع لا بُرء منه، حكاية إنسان لم تنل منه التجربة ولم تخرجه عن طوره ولا عن إنسانيته، بعد أن سمعت حكاية إحدى المعتقلات: كيف تمت مواجهتها والاعتداء عليها أمام زوجها، عدتُ إلى المنزل، وقضيتُ ليلتي وأنا أبكي، لم أستطع يومها أن أحكي الحكاية لزوجي، كنت أحتاج إلى وقت حتى أبتلع كل ذلك الألم وأستطيع حكاية ما جرى، ثم أعدت سرد الحكاية من خلال البرنامج. إن عَرض هذا العمق من المواجهات كان يستدعي كثيرًا من التركيز، سواء أثناء كتابة المشاهد الدرامية المرافقة أو من خلال التركيز على ملامح الوجه، على الصمت، على ارتجاف الصوت، على التنهيدة، كلها أدوات كانت تُظهر عمق ووجع هذه المواجهات، ربما يذكر أحد الزملاء ما حدث، وأنا أفرغ الحلقة بعد التسجيل، لا أعرف ما حدث لي، ولكني وأنا أجلس خلف جهازي مع زملائي، فجأة أجهشت ببكاء لم أعرف أن أوقفه!!

أثناء تصوير حلقة من برنامج يا حرية مع السيدة فدوى محمود
أثناء تصوير حلقة من برنامج يا حرية مع الروائي مصطفى خليفة صاحب (القوقعة)
أثناء تصوير حلقة من برنامج يا حرية مع المعتقل السياسي السابق خالد العقلة (مانديلا سورية)

بتقديرك، إلى أي مدًى تُظهر مثل هذه الوثائق البصرية الفاضحة وحشيةَ النظام الاستبدادي الطائفي، وتجهض محاولاته المستميتة لمسح كل هذه الآلام والعذابات من ذاكرة السوريين بالدرجة الأولى؟

لم أكن أسعى من خلال برنامج “يا حرية” لأن أحاكي من عايشوا التجربة وعرفوها وتجرعوا آلامها فحسب، ولكن كان يهمني جدًا أن أصل إلى من يشيحون بوجوههم عن الانتهاكات الفاضحة لنظام البطش الأسدي، ومن ثم إلى حشد الرأي العام السوري والعربي والعالمي ضد هذه الانتهاكات، فلم يعد مقبولًا القول “إني لم أكن أعرف ما يحدث في سجون الأسد ومعتقلاته”، هذه التعرية كشفت الجانب الإنساني من تجربة الموت اليومي الذي يعانيه السوريون ، فإما أن تكون مع نظام القتل وإما أن تكون مع الإنسان، هكذا يمكن فرز الأمور بطريقة أسهل، ولا يمكن التواري وراء مقولات الإرهاب والدفاع عن الوطن والمؤامرة الكونية على نظام ممانع؛ وعلى ذكر تعبير “ممانع”، استضفت أيضًا معتقلين فلسطينيين، ممن يدّعي النظام الدفاع عنهم وعن قضيتهم، فكان الراحل سلامة كيلة موجودًا ليكمل صورة النظام في سورية كنظام مستبد قاتل حاول أن يستخدم فلسطين كغطاء لسوءته. أما بالنسبة إلى مسح الآلام والعذابات من ذاكرة السوريين فلم ينجح النظام بفعل ذلك، بل فشل فشلًا ذريعًا؛ فهناك من الشباب والشابات الذين وُلدوا بعد مجزرة حماة، قابلتهم وعرفت منهم أنهم قد ورثوا الذاكرة والألم بالرغم من كل محاولات النظام تغطية وطمس الجريمة، الجريمة لا تموت والذاكرة لا تموت، وسرد الحكاية هو ما يبقيها حاضرة في وجدان وذاكرة الشعوب، مهما حاول الطغيان محوها، وأجزم أن ما يفعله النظام الآن من جرائم أعاد فتح الجرح والذاكرة على كل جرائمه السابقة.

ما تفاصيل سعي جهات دولية لاعتماد برنامج “يا حرية” كوثيقة حقوقية ضد الدكتاتورية وأدواتها التنفيذية؟ وماذا عنى لك ذلك؟

بالفعل، تواصل معي وفدٌ رسميٌ من الأمم المتحدة، بهدف وضع آليات للتعاون لتعزيز قيم العدالة وحقوق الإنسان والمساءلة بحق مرتكبي جرائم الحرب والجرائم الإنسانية ضد الشعب السوري، وبناء عليه قمت بشرح آليات ومنهجية العمل الذي اتبعته لتوثيق الشهادات والتحقق من صدقيتها، من خلال ملف متكامل تم تسليمه لهم. أن تسعى جهات دولية لاعتماد هذا البوح العميق الذي جاء في برنامج “يا حرية”، كوثيقة إنسانية ضد الدكتاتورية وأدواتها التنفيذية، هو شيء جيد جدًا وإنجاز أفخر به، وهذا الاعتماد لن يتوقف عند البرنامج فقط، بل سيشمل الكتب التي أعمل على إنجازها، وأولها كتاب «الشرّاقة..» في جزئه الأول، هذا الاعتماد يعني لي أني في الطريق الصحيح في مهمتي الإعلامية التي تضع الإنسان في أولوياتها، وتُعلي شأن حريته وكرامته، يعني أن بوصلتي الإنسانية صحيحة، وانحيازي إلى الإنسان والحرية لم يتغير قط مع امتداد تجربتي وتشعبها. ومن ناحية أخرى، أعتقد أن تحقيق عملٍ وثائقي، يحتوي على هذا القدر الكبير من الألم والوجع، نسبة مشاهدة كبيرة هو أيضًا إنجاز مهم جدًا لتشكيل رأي عام يرفض الظلم ويناهض الاستبداد، في كل مكان وأي زمان. وفي هذا الإطار، عليّ أن أشكر جميع زملائي الذين شاركوني هذا الإنجاز وهذا النجاح، وقدموا الكثير من الجهد والتعب إيمانًا بهذا العمل وخدمة لقضية الحرية والعدالة.

لا يمكن للطغاة أن يستمروا لولا وجود إسرائيل

نبقى في عوالم مؤلّفاتك، لنسألك عن كتابك «عشر عجاف» الصادر عن “دار موزاييك” أيضًا في 2020. لِمَ «عشر عجاف»؟ أهو اعتراف منك بانكسار حلم الربيع السوري؟

منذ نهايات عام 2010، نحن نتعايش مع أحلام تعملقت في دواخلنا، لأنّ ما كان يحدث جميلًا لدرجة أننا لم نصدق أنّ هذا يحدث في بلادنا، كان كلّ ما يحدث في بداياته أجمل مما كنّا نتخيل أو نتوقع، مرت السنوات العشر وكانت عجافًا، أصبحت كابوسًا مرًا وموجعًا، ولم تصل بنا إلى ناصية أحلامنا في بلاد ديمقراطية يسودها العدل والكرامة، وصحيح أنّ تلك السنوات مرت بصعوبة، لكن الحلم لم ينكسر، ولن ينكسر، بالتأكيد تعرجت مسالك ودروب تحقيقه وصار الطريق أطول وأصعب، لكن الأمل بالوصول إلى الغايات المرجوة من الثورة ما زال موجودًا بقوة، وهذا الكتاب هو رصدٌ لأفراحنا الصغيرة وآمالنا التي اشتعلت خلال عشر سنوات مضت، لم يكن سهلًا عليّ استعادتها، كان عليّ أن أَقلب الصفحة بما فيها وما عليها، ولهذا استعدت بعض ما كتبته خلال العقد الماضي؛ قرأته بعين أخرى، وشعرت مع كل كلمة كتبتها بالغصة؛ غصة من اتقاد الحلم إلى درجة النور المتقد في روحي، وغصة خوف من انتظار ما لم يأتِ. وقد تكون هذه العودة لهذه النصوص محاولة لحصر مدى الاختلاف، بين ما كنته وما صرت إليه، وما كانه العالم وما صار إليه!

الثورات في العالم العربي فاجأتني، كما فاجأت الجميع، انطلقت في أثناء إقامتي في كندا، ولا أنسى ذلك الأمل الذي أيقظته بداخلي والنور الذي أشعلته فيّ، في ذلك الوقت؛ شعرت بأنّ الثورات ضد الاستبداد المتمترس في بلداننا قد رمت حجرًا كبيرًا في بركة الركود العربي، وشعرت بأن هذه الثورات هي الطريق الأقصر نحو فلسطين، فلا يمكن لإسرائيل أن تستمر مع وجود شعوب حرة وبلاد ديمقراطية تحيط بها، وفي الوقت ذاته لا يمكن للطغاة أن يستمروا من دون وجود إسرائيل، هكذا كانت المعادلة في وجداني، ببساطة، ومع كل هتاف في أي بلد عربي أو تظاهرة؛ كانت فلسطين تقترب، وكان الحلم بحياة كريمة لي وللسوريين يقترب أكثر.

في بدايات الحراك العربي، شعرت بفلسطينيتي أكثر، ولكن مع أول هتافات شارع الحريقة في دمشق؛ صرت قريبة جدًا من سوريتي، ولأول مرة شعرت بأني سورية بقدر ما أنا فلسطينية، وصرت سورية فلسطينية، استذكرت كل حارات الشام، كل المدن، كل الشوارع التي مشيت فيها، وصرت أبحث عن أصدقائي في (فيسبوك): هل هم مع الثورة؟ أين صاروا الآن؟ وصارت ثورة سورية هي ثورتي. من يستعيد حكاية الثورة تؤلمه مآلاتها: القتل والحصار والتجويع من جانب، وحكاية اللجوء من جانب آخر، لا يمكن استعادة السنوات العشرة دون التوقف عند بحر ابتلع الأحلام والأطفال في رحلة اللجوء نحو الموت، لا يمكن المرور على عشر سنوات دون الوقوف عند مراكب أقلعت لتصير توابيت للموت. أستعيد مقالاتي واحدًا تلو الآخر، وأغوص أكثر في يوميات الحزن والخوف والتشظّي، وكأننا نعيش في سنوات الجوع ووباء الطاعون، فمن ثورة سلمية مزينة بشعارات الحرية والكرامة والسعي لبناء دولة القانون والمواطنة، إلى تشظّي الفصائل المسلّحة، سواء بالهدف أو الرؤيا أو الوسيلة، ومن ثم ظهور تنظيم (داعش) الذي لم يكن سوى بقعة سوداء جاءت لتلطخ الحرية بالخوف، وتخلط مطالب الحق بالإرهاب، جاء هذا التنظيم ليغسل وجه الدكتاتوريات في الغرب، وعند “الديمقراطيات العريقة”، لتصبح الأنظمة الفاسدة أفضل من شرور (داعش)! أين كان الحلم وأين صرنا؟! أرجو أن تكون العشرية القادمة أفضل، وأدوّن فيها انتصار الإنسان على الاحتلال والظلم والطغيان.

صدر لك أيضًا كتاب «انكسار الصورة BBC » (دمشق – 2007)، ما الذي دفعك إلى تأليفه؟ وماذا تحدثينا عن ظروف كتابته ومضمونه؟

الكتاب هو عبارة عن شهادة لما عايشته من تجربة إعلامية وإنسانية، في (بي بي سي) القسم العربي في لندن. في بداية عملي في (بي بي سي) بدأت كتابة يومياتي لتحقيق شيء من التوازن النفسي، نتيجة الغربة والضغط الشديد الذي كنت أتعرض له، وكنت أحاول في بداية مجيئي إلى لندن أن أقاوم الهزيمة، وأعتبر أنّ البقاء مقاومة، والصمود مقاومة، بالرغم من المعاناة على المستوى النفسي، بين ما تريد أن تقوله وما يمكن قوله، بين الحقيقة وتحريفها، وكل ذلك ليس لأنني أمتلك الحقيقة أو أدعي أني أحيط بجوانبها كافة، بل لأنّ المطلوب لم يكن أكثر من أن يكون القول رصدًا لما يحدث لا تزييفًا للواقع، ضمن هذا الظرف، اكتشفت أنّ الكتابة وتدوين يومياتي هي الوسيلة الوحيدة التي تساعدني في الاحتمال وتصبّرني على البقاء، وبقي الكلام على الورق الأبيض صدى ليومياتي وصراعاتي.. مع استمرار المعاناة، استمرت الكتابة، لم يكن في نيتي تأليف كتاب، ولكن بعد مرور أول عام، صارت الكتابة آلية توثيق لما يجري ويحدث معي، من لحظة اختيار الموضوع حتى تحريره وبثّه على الهواء، وباتت كل تخميناتي، عن الانحياز إلى الدكتاتوريات أو إلى الاحتلال الإسرائيلي، آلية عمل، أنا لم أضع هذه الاستنتاجات، ولكن يمكن لأي قارئ للكتاب أن يصل إلى هذه النتيجة ببساطة.

بعد مرور عامين على عملي في (بي بي سي)، قدّمت اعتراضًا رسميًا على سياساتهم التحريرية إلى أعلى المستويات، ليس إلى (بي بي سي) عربي فقط، بل إلى أعلى المستويات في (بي بي سي) العالمية، ولكني لم أصل إلى أي نتيجة، فقدمت استقالتي، وعدت من لندن إلى الإمارات. كان لدي أكثر من سبعمئة صفحة من توثيق اليوميات، عاودت تنقيحها وقراءتها وكتابتها، بعد أن خرجت من التجربة، لم أكن متأكدة أن ما أكتبه هو كتاب وشهادة حقيقية على يوميات العمل في (بي بي سي) حتى استشرتُ الكاتب والناقد الأستاذ صبحي حديدي، بمخطوطي، وطلبت رأيه، وقد أخبرني أنه سيقول رأيه بكل صراحة، فبعثت له المخطوط، ورد عليّ بالشكل التالي: “هنالك ضرورات، مهنية وأخلاقية، قبل تلك السياسية؛ تستحثّ على نشر هذا النصّ. التداخل بين الذاتي والموضوعي في اليوميات، متوازن وجيد؛ رغم أنّ إدخال جرعة، ولو بسيطة، من التفاصيل الشخصية (الحياة اليومية، العلاقات خارج العمل، لندن، الجالية العربية…) قد تشكّل فارقًا أيضًا.. في كل حال، النصّ شهادة شجاعة وصادقة، وهو بالتالي جدير بالنشر، حتمًا”. هذه الكلمات دفعتني إلى العمل فورًا على نشر الكتاب، وأستطيع أن أقول إنّ هذا الكتاب ما يزال يحظى بقراءة جيدة، وفي أثناء هبّة القدس الأخيرة، تواصل معي كتّاب ومثقّفون ليؤكدوا انحياز (بي بي سي)، واستشهدوا على ذلك بما ورد في كتابي.

في كتاب (انكسار الصورة BBC )، تسلّطين الضوء على ما يجري من تواطؤ في أروقة قسم الأخبار، في واحدة من أعرق المؤسسات الإعلامية في العالم، بين صنّاع الخبر وأنظمة الاستبداد، وكيف يتم تحريف الحقائق الساطعة، بذريعة الحياد والموضوعية، فكان أن رُوقبتِ وعُزلتِ وحُوربتِ، لينتهي الأمر بك إلى مغادرة (بي بي سي)، ولندن بأسرها. كيف بدأ اكتشاف “الخراب”، وطرائق الانحياز، وانكشاف المستور في غرفة صناعة الأخبار البريطانية؟ وما أبرز فصول المواجهة بينك وبين إدارة المؤسسة؟

من الصعب عليّ جدًا استعادة التجربة واستعادة تفاصيلها، ما يمكن قوله في هذا الباب كثيرٌ جدًا، وهناك كثير من التفاصيل التي يصعب عليّ سردها لكثرتها، ولكني سأورد مقطعًا صغيرًا، ويمكن للقارئ أن يتبين مدى الألم الذي سببته هذه التجربة لي، وذلك بعد اتخاذي قرار مغادرة (بي بي سي)، ذلك المكان الذي حلمت طوال عمري أن أكون أحد أركانه: “مشاعري متضاربة، ولا أنكر أنه يعزّ عليّ ترك العمل دون البحث عن بديل، أو إيجاد أي فرصة في أي مكان آخر. راجعتُ أفكاري، هل يمكن أن أجلس في البيت أستجدي العمل بعد كلّ سنوات الخبرة التي راكمتها؟! أقول لنفسي: ربّما سيحدث هذا، وربما أكثر، ولكني لن أتراجع. باتت خسارة نفسي هي المقابل لبقائي، في إحدى الفترات كنت أعتقد أنّ وجودي هو مكسب لقول الحق في منبر من أهمّ المنابر العالمية، ولكن وبعد تنحيتي عن الملف السوري بشكل تام، لم يبق لبقائي أي معنى، حتى بالنسبة للقضية الفلسطينية خلال الفترة السابقة التي تخلّلتها موجة من الغضب والتظاهرات، كانت تقاريري تهمّش، وفي أحيان أخرى تهمش المواضيع المتعلقة بفلسطين، بشكل واضح ومعلن، فماذا أفعل إذًا!”. لقد كان كل شيء يسير عكس قناعاتي، في زمنٍ كنّا أكثر ما نحتاج إليه هو وسيلة إعلامية ترصد الحقيقة، كما هي من دون تحريف، لأنّ رصدها كما هي بحدِّ ذاته انتصارٌ للحق والعدل وخطوة على طريق الكرامة.

الفقد، الرحيل، الغربة، اللجوء، الشتات، المنفى… ما تأثير كل هذه المفردات في كتاباتك؟

ببساطة، كل هذه المفردات هي عجينة روحي، هي ذلك التاريخ الذي عشته بفرحه وألمه، هي تلك الجغرافيا التي لفحتني شمسها وتنشقت هواءها بعطره ونشاز روائحه، من كل ذلك تشكلت ذاتي، وبالتأكيد ستراها واضحة أو ترى ظلالها في كل ما أكتبه أو أقدمه على شاشة التلفزيون.

القابض على القِيم الأولى للثورة السورية كالقابض على الجمر

ماذا تعني لك لحظة الكتابة؟ وما الذي يحرككِ للكتابة؟

الكتابة هي سموّ الذات في لحظة بوح لترسم الروح حروفًا فوق الورق. كل كتابة هي جهد عقلي ونفسي عال، يتم فيه استحضار الوعي بما يدور حولك والاستنجاد بالخبرات المعرفية وتطويعها لتخدم المعنى وقول المبتغى أو المطلوب، هذا من حيث الكتابة كفعل إنساني عام، ولكن لم تكن الكتابة في يوم من الأيام، بالنسبة لي، عملًا روتينيًا عاديًا، الكتابة بالنسبة لي هي عصارة روحي وأفكاري، وإذا لم أُعايش أو أرى ما يستفزني في أعماقي، فمن الصعب عليّ جدًا أن أكتب، ودائمًا وأبدًا حين أبدأ بالكتابة، أسألُ نفسي: لمن أكتب؟ وهل أستطيع الصمت؟ وإذا كان الجواب (لا)؛ فسأبدأ الكتابة. في بعض الأحيان، كان الصمت يبتلعني، وأشعر أنّ الكلام يتراكم كسكاكين في روحي، ولا أعلم متى ولا كيف سيخرج، ولكنه كان يخرج! وحين أكتب وأنشر، تصير كلماتي وقعًا عند الآخرين وأثرًا قد لا أستطيع تتبعه.

هل تختلف الكتابة بعيدًا عن رقابة السلطة الأمنية التي تتحكّم في مصاير السوريين منذ أكثر من خمسة عقود؟

الكتابة تحتاجُ إلى الشجاعة، في أي مكان وزمان، فما بالك بأن تكون في ظل سلطات أمنية تلاحق الأحرف والكلمات، ولا تريدها سوى تطبيل رخيص على إيقاع “القائد الملهم”. الكتابة هي انعتاق من الخوف، ونحن نعرف أنّ من كتبَ كلمة حقّ -في ظل النظام القمعي والاستبدادي في سورية- قضى إما قتلًا وإما تعذيبًا وتنكيلًا في السجون، الكلمة غالية جدًا في سورية وفي عالمنا العربي، ومن يستطيع الانعتاق من خوفه المعشش منذ الطفولة في روحه، والتخلص من رقابة ذاته على ذاته سيكتب، بالتأكيد، ما هو مختلف، وما هو حرّ، وما هو جدير بالقراءة.

برأيك، إلى أي مدًى ساهمت الثورة في فعل التغيير في المشهد السوري؟

الثورة بحدِّ ذاتها هي التغيير وفعل التغيير الذي شمل المشهد السوري، فقراءة المشهد السوري قبل الثورة تختلف تمامًا عما حدث بعدها، انقلبت الأفكار والمعايير عند البعض، وتشظّت المصطلحات والرؤى، وفي كثير من الأحيان، اختلطت المفاهيم وضاعت البوصلة، وصار القابض على القيم الأولى للثورة كالقابض على الجمر، وصار المخاض عنده أكثر ألمًا ووجعًا، وفعل التغيير يبدأ بهؤلاء المؤمنين بقيم وشعارات الثورة الأولى، لذلك نحتاج إلى قيادة واعية وبوصلة وطنية وأخلاقية تجمع هؤلاء تحت رايتها حتى تصل هذه الثورة إلى غايتها في بناء وطن ديمقراطي حرّ وكريم.

سحب البساط من تحت أقدام نظام الأسد

من منظورك، ما المهمة الأساسية للإعلام السوري البديل في اللحظة الراهنة؟ وما الذي تنتظرينه من الأجيال الإعلامية الشابة؟

سأقف أولًا عند تعبير “الإعلام البديل”، فهل المقصود بهذا التعبير الإعلام الذي عمل فيه ناشطون سوريون بعيدًا عن رقابة النظام وإعلامه الرسمي، أم المقصود بهذا التعبير الإعلام السوري البديل لإعلام النظام، الإعلام المعارض الحرّ الذي يعمل لتكريس قيم الديمقراطية والحرية؟ إذا كان المقصود هو عمل الناشطين الذين خرجوا وأرواحهم على أكفهم ووقفوا ضد النظام وآلته الإعلامية، فهؤلاء يجب ترشيد عملهم، وإخضاعه للضوابط الإعلامية المهنية، ويجب العمل على إدخاله في مرحلة الاحتراف، ولنعلن نهاية مرحلة التجريب، فكم من الوجوه التي تألّقت قبل عشر سنوات ثم انطفأت، وفي بعض الأحيان ضاعت بوصلتها الإعلامية؛ هذه الوجوه قد لا تنجح في تقديم مادة إعلامية قيمة، بينما نجحت في تغطية الحرب ضمن معطيات الموت والحياة، وهذا موضوع يجب دراسته والعمل عليه من قبل المؤسسات الإعلامية. بالتأكيد، يجب الاستفادة من هذه الوجوه والخبرات والوصول بها إلى عمل احترافي أو محاولة التفكير في انتقالها إلى العمل التوثيقي والبحثي، وهذا موضوع كبير يجب العمل عليه بصورة حِرَفية. أما إذا كان المقصود المحطات والإعلام المعارض الذي يشكل بديلًا لإعلام النظام، فيجب الخروج من العمل وفق آليات “الوجوه الثورية” والتجريب بها والاتكاء على حضورها، والانتقال إلى العمل الاحترافي مع محترفي إعلام، وأن تكون البوصلة واضحة بشأن مطلب المواطنة والديمقراطية وشعارات وقيم الثورة في بداياتها، وعدم الإذعان لقوى الأمر الواقعة على الأرض، من المهم أيضًا تدريب كوادر ترفد هذا الحقل بمزيد من الإعلاميين الشباب، وأود التركيز هنا على ضرورة أن يسعى هذا الإعلام إلى سحب البساط من تحت أقدام نظام الأسد، ومحاكاة السوريين في كل أماكن انتشارهم، والتعريف عن نفسه على أنه إعلام سوري عربي، لا إعلام محلي ضيق، لأنّ سورية هي جزء من محيطها تاريخيًا وجغرافيًا وانتماء، ويجب إعادة النظر في هذه الاعتبارات، حتى يتم الكلام عن إعلام بديل لإعلام النظام الذي يعتبر نفسه جزءًا لا يتجزأ من محيطه بكل تفاصيله ويحاول تسويق روايته على كل هذه المستويات.

أنتظر من الأجيال الشابة كثيرًا من المسؤولية والجدية والعمل على رفد الذات بالمعارف، وعلى مَن قادته الصدفة أو الواسطة إلى هذا المجال، إما أن يعمل من نفسه إعلاميًا مهنيًا وإما أن يبتعد؛ لأنّ هذا المكان ليس مكانه، وليتح المجال للمجدّين والمخلصين لرسالة هي الأهم في هذا التوقيت، لتشكيل صورة جديدة عن سورية التي نحب؛ سورية فيها نُخب إعلامية وثقافية تقود إعلام هذا المجتمع وتلمّ شمله بوعي ومعرفة ودراية، من دون أن تترك الأمور للصدف. خلال عشر سنوات، وقبلها أربعين عامًا، كرّس النظام الشق المجتمعي والطائفي بين الناس، ولا يمكن كسر هذا النمط إلا بإعلاميين وإعلاميات ملمين بمبادئ الإعلام وحرفيته وواعين بمهمتهم الملقاة على أكتافهم، ويَزيِنونَ كلماتهم بميزان الأخلاق والوطنية والإيمان ببناء هذا الوطن.

مع الراحل سلامة كيلة

من معين تجربتك المهنية، ما المعوقات التي تواجهها النساء السوريات في العمل الإعلامي اليوم، وتحُدُّ من دورهن خاصة مع التشكيك (الذكوري) بأهميّة الأدوار التي تقوم بها النساء في مختلف الميادين؟

بشكل عام، النساء يعانين التهميش في كثير من الحقول، لا في الحقل الإعلامي وحده، أما بالنسبة إلى النساء السوريات في العمل الإعلامي، فبإمكاننا القول -بنظرة بسيطة جدًا إلى المراسلين العاملين في الداخل السوري- إنّ وجود مراسلات سوريات ما زال قليلًا ومحدودًا، وهذا يدل أولًا على طبيعة البيئة التي تحتضن الحدث السوري وطبيعة القوى المسيطرة عليها ميدانيًا وعدم تشجيعها لهذا الدور الذي يمكن للنساء أن يقمن به، وثانيًا عدم إصرار القنوات التي تعمل في هذه الساحات على الاستفادة من هذا الكادر النسائي وتفعيل دوره ليكون الخطوة الأولى باتجاه دور حقيقي للمرأة في هذا المجال، ولا ننكر بروز بعض الأسماء المهمة لسيدات قُمن بهذه المهمة بالرغم من معاناتهن، بسبب التشكيك بمهنيتهن وحضورهن، ولكن -كما ذكرت- في بيئةٍ تخلو من أدنى درجات المساواة والحقوق الإنسانية، تصبح النساء الحلقة الأضعف، ويتضح هذا التهميش بجلاء، إما باستبعادهن وإما بتنميط أشكالهن ضمن إطار معين لا يمكن الخروج منه، فبعض المؤسسات تسعى لتكريس الحضور الإعلامي النسائي، ولكن ذلك الحضور لا يكون، في كثير من الأحيان، أكثر من ديكور، لإعطاء صورة حضارية أساسها وموضوعها الشكل و”الميك آب” واللباس، بعيدًا عن الهمّ اليومي ومدى القدرة على مناقشة مواضيع حساسة وساخنة وذات بعد ثقافي وإنساني وسياسي، وهنا يأتي دور الإعلاميات للعمل على تغيير فكرة عمل المرأة في الإعلام، وتغيير النمط المأخوذ من بعض محطات التسلية، عن كونهن “باربي” أو لوحة جميلة، لها مدة صلاحية محددة بالعمر، وشكل يحاكي الدور والوظيفة في مجالات أخرى من الحياة، وهذا التعامل غير إنساني وغير مهني، وفيه شيء من العنصرية، لكنه مع الأسف موجود بكثرة في الحقل الإعلامي، وبإمكان أي شخص يعمل في هذا الحقل أن يسمع كلمات مثل “نريد مذيعة صغيرة وحلوة”، في حين لا ينطبق هذا المطلب على الشباب، حيث يكون المطلوبُ ذا خبرة وثقافة وحضور. يجب أن تنتهي عملية تسخيف وتسطيح المرأة ووجودها، وأن يكون هناك إيمان بأنّ وجودها وعملها وإنجازاتها هو جزء من إنجازات الجميع ونجاحهم معًا في هذا الحقل الشائك.

إلى أيّ مدًى تستطيع فيه كتابة اليومي المشاركة في توثيق اللحظة السورية الراهنة، وهل استطاع السوريون، عبر يومياتهم وعبر نضالاتهم التي يدفعون أثمانها باهظًا، تأسيسَ فضاء ثقافي عام مختلف عمّا عاشوه طوال نصف قرن من حكم الدكتاتورية الأسدية؟

استطاع السوريون تأسيس فضاء ثقافي مختلف تمامًا عمّا عايشوه طوال نصف قرن، هذا صحيح، وهذا الفضاء تشكل على أرضية انكسار حاجز الخوف وتعالي صرخات الحرية، ولكن هذا الفضاء فيه كثير من الفوضى، وقد تختلط فيه المفاهيم أحيانًا، ويختلط فيه العام بالخاص، وتنتشر فيه ثقافة التخوين والتشكيك، أمام كل اختلاف بالرأي في أي قضية ومع أي أحد؛ ومن أهم مظاهر هذا الفضاء حالة التجييش ضد فكرة أو شخص أو موضوع، تحت بند “أنا ابن الثورة وكل ما عداي متسلقون”! ولأنّ هذا الفضاء جديد، ويحمل من الأحلام والطموحات والرؤى لمستقبل سورية كثيرًا من وجهات النظر، تجد فيه كثيرًا من الظواهر غير الصحيّة في الوقت الحالي، ولكنه مع مرور الوقت، ومع ضبط الرؤية وتحديد الهدف والبوصلة، يؤسس لحالة الانطلاق من قمقم الاستبداد إلى فضاء الحرية والإبداع.

لو قُيّض لك البدء من جديد، أيّ مسارٍ كنت ستختارين؟ وهل تشعرين بالرضى عما أنجزتِه حتى الآن؟

طريقي كان صعبًا وشاقًا، وما زال كذلك، ولكني في كل مرحلة من مراحل حياتي، حين كنتُ أقرر مغادرة مكان ما، كان هذا القرار موجعًا وصعبًا جدًا في قلبي وروحي، أنا شخصٌ أحبّ مهنتي جدًا، وأشعر بأني خُلقتُ لها، إذا قُيّض لي البدء من جديد، وهذا ما كنت أفعله بعد كل توقّف، فسأبدأ من حيث انتهيت، مع تراكم في الخبرات ورؤية أكثر نضجًا وحبًا لمهنة المتاعب التي أعيتني. أما بالنسبة إلى رضاي عمّا أنجزت حتى الآن، فيمكن القول إني مقتنعة بكل ما قمت به وأنجزته حتى الآن، لكن الرضى بمعناه المطلق يعني الاستسلام لما تمّ إنجازه، وهذا ليس من طبيعتي، فما زال هناك كثير مما يمكن تقديمه والعمل من أجله.

في الختام؛ هل هناك مشاريع كتب ستُنشر لك قريبًا؟

أخذ مني كتاب «الشرّاقة.. ما قيل وما لم يقل في برنامج يا حرية» في جزئه الأول، ما يقرب من عام كامل، كنت قد تفرغت لهذا العمل بشكل تام، والآن بدأت العمل على الجزء الثاني. هذا المشروع لن ينتهي، حتى أنتهي من كتابة الجزء الثالث من «الشرّاقة..»، وعلى كل الأحوال، سأتابع شغفي الإعلامي في مكان يُلبّي رؤيتي الإعلامية.