يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في حوار اليوم، الصحفية والنسوية السورية زينة إرحيم، التي تم اختيارها عام 2016 كواحدة من أقوى 100 امرأة عربية، وفقًا لتصنيف دورية “أرابيان بزنس” التابعة لوكالة “رويترز”، والتي تملك في رصيدها المهني حتى الآن العديد من الجوائز الإعلامية العربية والدولية، ما يؤهلها لحيازة لقب “صائدة الجوائز”، وهي في سنّ السادسة والثلاثين، حيث نالت في عام 2015 أربع جوائز هي: جائزة “مصطفى الحسيني” لأفضل مقال لصحفي عربي شاب، عن مقالها “كريمته الحرمة تنتصر على زينة الصحفية بفارق شريط حدودي”؛ وجائزة “صحافية العام 2015” التي تمنحها منظمة “مراسلون بلا حدود” بمناسبة يوم المرأة العالمي، لعزمها وشجاعتها وتركيزها على البعد الإنساني في الحرب، كما جاء في بيان المنظمة؛ وجائزة “بيتر ماكلر” المخصصة لمكافأة الشجاعة والأخلاق المهنية الصحافية، التي تديرها مؤسسة “غلوبال ميديا فوروم” بشراكة مع منظمة “مراسلون بلا حدود” ووكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس”؛ وفي عام 2016، نالت جائزة “مؤشر الرقابة على حرية التعبير”، التي تمنحها مؤسسة “إندكس أون” البريطانية، إضافة إلى جائزة “الثائرة من أجل السلام”، من رابطة النساء الدولية للسلام والحرية (WILPF) الألمانية.

وفي العام الحالي، تم اختيارها كعضو لجنة تحكيم جوائز “عالم واحد” الصحفية الدولية، لفئة أفضل تغطية صحفية لرائدات الأعمال، وهي من أكبر الجوائز الصحفية البريطانية. أما العام الماضي فقد شاركت في تحكيم جائزة منظمة “مراسلون بلا حدود”، ومقرها الرئيسي فرنسا، إضافة إلى عضويتها في هيئة تحكيم جائزة “لورنزو ناتالي الإعلامية” بدورتها الـ 28، وهي جائزة أطلقتها عام 1992 المديرية العامة للتعاون الدولي والتنمية التابعة للمفوضية الأوروبية. كما تم اختيارها في عام 2019 لتكون عضوًا في هيئة تحكيم مسابقة جائزة مصطفى الحسيني، لأفضل مقال لشاب/ة عربي/ة، التي فازت بها عام 2015.

ضيفتنا تعمل حاليًا كمستشارة تواصل وجندر مع منظمات دولية عدة، وهي من مواليد مدينة إدلب عام 1985. درست الصحافة في جامعة دمشق، وتخرّجت في العام 2006. لتبدأ عملها الصحفي في موقع “سيريانيوز”، قبل انتقالها إلى العمل في قناة “المشرق” (أورينت) منذ تأسيسها في دمشق، لكن الأمر لم يدم طويلًا بسبب إغلاق القناة من قبل أجهزة الأمن السورية عام 2008، لتنتقل بعدها للعمل كصحفية في صحف ومواقع إعلامية عدة، منها صحيفة “الحياة” اللندنية.

في عام 2010 حصلت على منحة من وزارة الخارجية البريطانية لدراسة الماجستير في المملكة المتحدة (تشيفنيغ)، فحصلت على درجة الماجستير في مجال الإعلام الدولي (المرئي والمسموع) من جامعة “سيتي” في لندن، لتعمل لمدة عام في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عربي، بقسم الأخبار والوثائقي، عائدة إثر ذلك إلى الشمال السوري المحرّر، لتغطي الحراك هناك إضافة إلى تدريبها الناشطين الإعلاميين، فكان أن دربت قرابة 100 مواطن/ة صحفي/ة داخل سورية، ثلثهم من النساء.

تعرّضت زينة للخطف عام 2012 من قبل ميليشيات تابعة للنظام السوري في ريف إدلب، لكنها لم تتوقف عن عملها الصحفي. وكان أن قدّمت في عام 2019، في مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” و”يوتيوب” برنامج بعنوان «لا تفتي»، ركزت فيه على الحد الفاصل بين “البروباغندا” الفجّة ومعايير الإعلام المستقل، كجدل يبرز في القرن الحادي والعشرين بفعل قوة التكنولوجيا التي حوّلت كل شخص إلى مراسل صحفي في لحظة ما.

من أعمالها خمسة أفلام قصيرة، تحت عنوان “نساء ثائرات”. ولها إسهامات في أربعة كتب هي: «الإعلام والصراع.. إلى أي حدّ علينا الاقتراب؟»؛ و«نساؤنا في الميدان»؛ و«النساء العربيات تعبرن عن حقائق جديدة»؛ و«الصحافة في زمن الحرب». كما نُشرت لها مقالات في صحف بريطانية مثل “الغارديان، و”الإيكونوميست”، و”ميدل إيست آي” وغيرها.  وبرزت زينة إرحيم خلال السنوات الأخيرة، كمدافعه عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، ومهتمة بقضايا العدالة الجندرية والاجتماعية والمساواة، والتركيز على أصوات المهمشين التي لا تصل إلى وسائل الإعلام والمتابعين بسهولة.

هنا نص حوارنا معها:

لنستهل هذا الحوار بالسؤال عن بداياتكِ الأولى في عالم الصحافة. متى وأين وكيف بدأتِ، في بلدٍ تصنف فيه حرية الصحافة في المراتب الأخيرة منذ سنوات طويلة (المرتبة 174 عالميًا من أصل 180 دولة في 2020)، بحسب منظمات دولية؟

بدأت، نظريًا، عندما قررت أن أدرس الإعلام بعد إنهائي للشهادة الثانوية عام 2002، على الرغم من أنّ شهادتي الثانوية كانت علمية، وقد تقدّمت فعلًا لدراسة العمارة ونجحت في الفحص الأول، إلّا أنني عدلت بعدها عن الفكرة، وتركت شغفي بالرياضيات لأدرس الإعلام بجامعة دمشق.

قرار دراستي للإعلام تحديدًا كان تحديًا كبيرًا، لم يذكر لي أحدهم عندها موضوع الرقابة وآفاق العمل الإعلامي في ظل الدكتاتورية، كانت كلّ الآراء مُركّزة على موضوع كوني امرأة، وهو فرع “للرجال” و”المُتحرّرات”، سمعت جملة “الإعلام محرقة الشرف” عشرات المرات، في الأشهر القليلة التي فصلت قبولي في الجامعة وسفري إليها، مع كثير من التهديد والوعيد عن مستقبل مشؤوم “لن يقبل فيه رجل بالارتباط بي”، فيه تحميلي مسؤولية لـ “تشويهي لسمعة العائلة”. التحدي الثاني كان سفري وحيدة إلى دمشق، حيث تقع الكلية الوحيدة للإعلام، في الوقت الذي كانت كل زميلاتي تدرس في حلب، قريبًا من مدينتنا وأهلها. وككل بنات جيلي من المعزولات عن العالم الخارجي في التسعينيات، كنت مغسولة الدماغ، ولم تأخذ السياسة أي حيّز من تفكيري، إلّا تلك التي أرادني “الأب القائد” أن أعرف بها وأتابعها، كنت أعرف طبعًا أنّ بعض أهلي يكرهون حافظ الأسد، وأن لي العديد من الأقرباء ممن قتلوا أو اختفوا في الثمانينيات، وأعرف أنّ هذه أشياء خطيرة و”أخطاء” عليّ أن أتستّر عليها.

حتى عندما بدأت عملي الصحفي، كنت شغوفة بالقضايا الاجتماعية، فقد كنت متطوعة في “الهلال الأحمر السوري”، وأغلب تغطياتي بقضايا إنسانية أعطي لها الهامش في تلك الفترة، ثم أصبحت نسوية في عام 2008، وأصبحت قضايا العدالة الاجتماعية والنساء محورية في عملي الصحفي، وأيضًا كان هامش هذه القضايا أفضل من غيرها، لكن ذلك لم يدم. فقد استجوبني الأمن العسكري في هذا العام، بسبب نشاطاتي الشبابية واهتمامي بالمجتمع المدني، إضافة إلى كتابتي مادة أتحدث فيها عن “الخوف” على موقع إلكتروني محجوب في سورية.

أصبحت أكثر حذرًا، خاصة بعد أن أغلقت مكاتب قناة “المُشرق” (Orient) في دمشق من قبل الأمن، وكنت أعمل فيها كُمراسلة ومعدة برنامج. لكني استمررت في نشاطاتي وأجريت مقابلات عدّة على قنوات تلفزيونية، أتحدث فيها عن حجب موقع “فيسبوك” في سورية، عن حملات مقاطعة شركتي الاتصالات “سيرياتيل” (Syriatel) و”إم. تي. إن” (MTN)، وأطلقت حملة على “فيسبوك” ضد مسودة رجعية لقانون الأحوال الشخصية كان عنوانها “بدنا نمشي لقدام مو نرجع لورا”، وكانت الأولى من نوعها في سورية.

مع الناشطة الحقوقية المغيبة رزان زيتونة

حدثينا عن المؤثّرات التي أسهمت في تكوين منهجك الصحفي وتطويره، وما الذي يحفزك على مواصلة العمل في مهنة “المتاعب”؟

بعض أساتذتي بالجامعة ساعدوني في التفكير خارج الصندوق و”الحفظ البصم” للمناهج السوفيتية التي كانت تُدرّس على أنها إعلام، وهي ليست سوى “بروباغندا”. وتعلّمت الكثير من التدريبات الصحفية التي حضرتها مع “سيريانيوز” (Syria News) حيث كنت أعمل في ذلك الوقت، بعد توقيعهم لاتفاق مع شبكة “بي بي سي” عربي. أما ما يحفزّني على مواصلة العمل، فهي أشياء كثيرة، منها أنّ الصحافة لم تعد مهنة بالنسبة إلي، بل أصبحت جزءًا مني، أصابني بؤس عندما اضطررت إلى هجرها فترة أثناء إقامتي في مناطق سيطرة المعارضة في شمال سورية، وقتها وجدت حريتي في التعبير تعود مجددًا لتتقلص، ورقابتي الذاتية على ما أكتب أصبحت أشد من قدرتي على الإنتاج، فتوقفت سنوات، كنت فيها أدرب وأشرف وأساعد الصحفيين/ات والمؤسسات وبرامج متعدّدة، لكني لا أنتج أي مواد صحفية. واستمر هذا الوضع حتى وقت قريب، عندما عدت أخيرًا للكتابة شعرت بما كان يؤرقّني، وتأكدت أنّ الصحافة لم تعد مهنة بالنسبة إلي. هي ما أحقق به ذاتي.

زينة مع الناشطة المُغيبة رزان زيتونة خلال تدريب إعلامي في دمشق عام 2007

ما هي أبرز التحديات التي واجهتك في مطالع شبابك كإنسانة وصحفية، في مجتمع سوري عُرف عنه أنه “مجتمع أبوي ذكوري”؟

كما قلت آنفًا، إنّ أول تحدّ واجهته هو أنني كنت الفتاة الوحيدة التي درست الصحافة من إدلب، ففي تلك الفترة، لم يكن هناك صحفيات غيري من المحافظة، بعدها عملت إحداهن مع الإعلام الحكومي فأصبحنا اثنتان. وبالإضافة إلى التحديات والعقبات المتعلقة بعدم ارتدائي للحجاب، ثم دراستي لمهنة “غير مشرفه للنساء”، تتضمن الاختلاط مع الرجال والظهور على التلفاز والعديد من المحظورات الأبوية، أتذكر كيف بدأت النظرة تتغير عني خاصة في المدينة، عندما بدأت أكتب مواد صحفية عن أهلها، أشياء لا يقرؤونها في الصحف الرسمية، وقتها أصبحت أتلقّى اتصالات عدة من أشخاص يعرفون أشخاصًا يعرفون أهلي ليشاركوا معي قصصًا، وتحوّل أغلب أهالي المدينة (ممن استنكروا عملي بالبداية) إلى مصادر موثوقة لي، أتواصل معهم بكل موضوع أعدّه.

شاركتِ كناشطة وصحفية في الثورة منذ بداياتها، وكنتِ حاضرة في الميادين والشوارع، فهل لك أن تحكي لنا عن واقع الصحافة والتدوين وحرية التعبير في الشمال السوري المحرّر قبل مغادرتك لأرض الوطن؟

هذا السؤال جوابه كتابٌ لا بضعة أسطر. من الصعب تعميم أي واقع على كامل سورية، لكني أدّعي أنّ قمع حرية التعبير هو أحد العوامل المُشتركة في أنحاء المناطق السورية باختلاف حُكّامها، فحتى وإن وُجدت أطراف قوية تدعم حرية التعبير أو الحريات الشخصية وحقوق الإنسان، تبقى السلطة العليا بيد الأقوى وهم عادة الأكثر تطرّفًا والأفضل تسليحًا ومهابة.

لا يوجد صحفي/ة مهني/ة ومستقل/ة لم يتعرّض للضغوط والتهديدات، وتشير كل الدراسات والأبحاث التي أعدّتها المنظمات المدنية على تدني مستوى حرية التعبير وحرية الصحافة، وقد شاهدنا كيف مُنعت مجلة “طلعنا على الحرية” من النشر، وتمّت محاكمة فريقها، بسبب نشرها لمادة رأي “تمس الذات الإلهية”، بحسب ما وصفتها المحكمة التي اعتمدت على القانون الكويتي في إصدارها للحكم! كذلك مُنعت العديد من الصحف والمجلات التي كانت توصف بأنها “ثورية”، من دخول المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلّحة، بسبب وجود غلاف أو مواد تدين مقتل الصحفيين الفرنسيين العاملين بصحيفة “شارلي ايبدو” (Charlie Hebdo) الفرنسية. وطبعًا، ملاحقة النظام السوري للصحفيين والقمع الممارس على حرية التعبير لا تحتاج إلى إشارة، وأعتقد أنّ القليل جدًا من الصحافة تُنتج في المناطق الخاضعة لسيطرته، بينما الصبغة العامة هي “البروباغندا” الرسمية والممنهجة.

أعود بك بالذاكرة لتروي لنا كيف عملتِ أنتِ ومجموعة من الناشطات والناشطين في إدلب على تأسيس “لجان التنسيق المحلية” بالمدينة، وأين هم ناشطو تلك الأيام الآن؟

دوري في “لجان التنسيق المحلية” مبني على علاقة ثقة بنيتها مع الناشطة الحقوقية المغيبة رزان زيتونة، والمحامي مازن درويش الذي كان من مؤسسي اللجان معها، ولكن لم يكن له علاقة بـ “تنسيقية إدلب”، وإنما بتأسيس المكتب الإعلامي والعلاقات العامة للجان، الذي توليته (تطوعًا) خلال دراستي للماجستير في جامعة “سيتي” في لندن، وبعدها بعام حتى بدأ عملي مع (بي بي سي) وكان لزامًا علي ترك اللجان، بسبب قواعد العمل الصارمة في (بي بي سي) على الصحفيين بهذا المجال.

كتبت مادة في آذار/ مارس الماضي، أتحدّث فيها عن تأسيس اللجان كما شهدتها، وحاولت فيها البحث عن أخبار من كنت أعمل معهم بأسماء حركية، فوجدت منهم من انضم إلى تنظيم (داعش) وقُتل وهو يحارب في صفوفها، بعد أن كان يوزع مجلة “طلعنا على الحرية” وعليها شعار اللجان متمثلًا بقوس قزح، وآخرون هُجّروا قسريًا من درعا والغوطة وأصبحوا في بلدان أوروبية، إضافة إلى من قتل تحت التعذيب في سجون النظام، ومن خُطف من قِبل (داعش) ولم يبقَ له أثر، إضافة طبعًا إلى من اعتزل كل شيء وبدأ من جديد. إنهم بتنوّعات مصائرهم يجسدون حقيقة ما حصل في البلد في العقد الماضي.

زينة إرحيم في سنوات الثورة السورية الأولى

كاد “الأصدقاء” أن يقتلوني بالخطأ

ما الرسالة التي ترغبين في توجيهها للناشطين المدنيين رائد فارس وحمود جنيد، اللذين طالتهما يد الغدر في مدينته كفرنبل في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018؟

زينة مع الناشط رائد الفارس بعد نجاته من محاولة الاغتيال الأولى في إدلب عام 2014

تعرّفت على رائد وحمود شخصيًا منذ عام 2012، عندما نزلت ضيفة في مكتبهم الإعلامي، وكنت قد كتبت مادة عن رائد وأحمد جلل في صحيفة “الحياة” اللندنية قبلها بعام، بعد أن راجت لافتاتهما ولفت أنظار العالم. أخذت مني كتابة “نعية” رائد التي أوثق فيها معرفتي الطويلة به، أكثر من عام، وسأنشرها في وقت لاحق، كان شخصية استثنائية بعيدة النظر، ومن الناشطين الذين شعرت برفقتهم بالحرية، وكان في العديد من المواقف فعلًا مستعدًا لكي يموت دفاعًا عن حريتي الشخصية. جسّد مع العديد ممن كانوا بالمكتب الإعلامي في البلدة، إضافة إلى غالية رحال، شكل البلد التي تشبه مطالبنا الأولى.

خلال عملك كصحفية ميدانية في الداخل السوري المحرّر، هل حصل أن تعرّضتِ للترهيب من قبل جهة مسلّحة ما؟ ما هي أسباب وتفاصيل تلك الحادثة؟

هذا أيضًا موضوع طويل، لا أستطيع اختصاره بجواب، أي صحفي مستقل يعمل بمناطق نزاع لا يوجد فيها قانون أو سلطة مركزية سيكون بخطر وسيتعرّض للتدخلات والضغوط، فما بالك إذا كانت الصحفية امرأة؟ تحوّلت في السنوات الأخيرة من إقامتي في مناطق سيطرة الفصائل المسلّحة إلى “حرمة” أحتاج إلى رجل يرافقني عندما أتحرك “مُحرم”، حركتي وكلماتي وكل ما أقوم به تحت المجهر، ويجب أن يكون ذلك مدروسًا ومحسوبًا، كتبت «مع رقابة» عن هذا، على مدونتي هنا . وأكثر التهديدات جدّية هي تلك التي أجبرتني على المغادرة، وقد كتبت عنها هنا.

من معين تجربتك الخاصة في العمل الصحفي، ما هي المواقف التي تواجهها الصحفية المحلية والأجنبية في مناطق النزاع المسلّح بشكل عام، وفي شمال سورية (تحديدًا إدلب وريفها) حيث سيطرة الفصائل الإسلامية المتشدّدة؟

للصحفيين الأجانب امتيازات عديدة، أولها هو أنّ حربنا هي عمل بالنسبة إليهم يقضونه ليعودوا لبلدهم، بينما بالنسبة إلى الصحفيين المحليين الحرب هي قصتنا، وضحاياها هم الأهل والأصدقاء، الأحباء السابقون والذكريات، ولا مهرب منها إلّا إليها، وهذا ما يفرض على الصحفيين المحليين قيودًا رقابية أكثر بكثير من أي صحفي أجنبي يستطيع أن يحقق سبقه بحماية جواز سفره بعد الخروج من البلد.

هناك أيضًا، تفكير استعماري متأصل بأذهاننا يعطي الثقة والأفضلية للصحفيين الأجانب، فيؤخذون على محمل الجدّية أكثر من المحليين، حتى وإن تخرّجت من جامعتهم نفسها، تبقين أنت صحفية محلية وهي أجنبية! ولذا في بعض الأحيان تحصل الصحفيات/ين على امتيازات ودخول لقصص أكثر نتيجة لذلك، وربما القمع أقل، على مبدأ أنها “أجنبية”، فليس على السلطات الذكورية المحلية أن “تغار عليها”، فهي ليست “عرضها”، وهذا أيضًا مطابق للتنميط للنساء الأجنبيات. وهناك عدّة عوامل متداخلة تحدد كمية المخاطر ونوعها في كل موقف وبحسب الفصائل الحاكمة بهذا المكان أيضًا.

في أيلول/ سبتمبر 2012 تم توقيفك من قبل أجهزة نظام الأسد الأمنية، وذلك أثناء قيامك بمهمة ميدانية في ريف مدينة إدلب. اروي لنا تفاصيل تلك الأيام، وماذا بقي في ذاكرتك منها؟

تعرّضتُ للخطف من قبل فصائل موالية للنظام في الفوعة بريف إدلب، لكني لم أُسجن، ولم تطل التجربة أكثر من أيام عدّة فقط، خرجت بعدها. كتبت عمّا تعلمته من هذه التجربة، في مادة نشرها مركزكم أخيرًا، بمناسبة عشرية الثورة، وفيها ذكرتُ أنني أُجبرت بالطريقة القاسية على أن أغيّر طريقة تفكيري القاصرة هذه، عندما خُطفتُ في الفوعة عام 2012، في ذلك الوقت فقط، جرّبت معنى أن تضع نفسك حرفيًا في حذاء الآخر، وكاد “الأصدقاء” أن يقتلوني بالخطأ، وأنا أهرب بصحبة “الآخرين” على الحدود بين المعسكرين. لم تختلف عليّ ملامح الفقراء والبؤساء، على طرفَي الحرب، وجدتُ في جانبيها المحايدين الذين لا يريدون أكثر من حياة مملّة، مع المعتدلين الوطنيين العاجزين، والمتطرّفين الغاضبين مسلوبي التفكير، وهم أصحاب الأصوات الأعلى والسلطة الأقوى.

ما هي تفاصيل حادثة سحب السلطات البريطانية لجواز سفرك في أيلول/ سبتمبر 2016 بطلب من نظام الأسد عند دخولك إلى بريطانيا؟

وصلت إلى بريطانيا لأشارك في فعالية بعد حصولي على جائزة “حرية الصحافة”؛ ففوجئت بالمطار بالموظف يخبرني أنّ جواز سفري السوري “مسروق”، بالرغم من أنّ اسمي وبصمتي وتاريخ ميلادي عليه. أخبرته أنّ القصة ليست “حكومة ضد مواطن”، وإنما “نظام ضد صحفية”. فقال لي: “هذه هي القواعد”، مُصادرًا جواز السفر.

أحدث الأمر ضجّة في بريطانيا، وتسببت قصة جوازي في نزولها (أي بريطانيا) مرتبة على “فهرس حرية التعبير”، الذي تعده سنويًا منظمة “مراسلون بلا حدود”. وتم سؤال بوريس جونسون، وكان وقتها وزيرًا، عن الموضوع، وتم أخذ العديد من الإجراءات لمنع حدوث هذا الاستغلال لـ “الورقيات” للضغط على الصحفيين والناشطين بحقوق الإنسان من قبل الدول.

شغف بالصحافة وانحياز إلى الإنسانية

ماذا تحدثينا عن طبيعة عملك كمستشارة إعلام وتواصل وحملات حساسة للجندر في المنطقة العربية، ومتى التحقت به؟

أعمل حاليًا كمستشارة ومدربة إعلامية مع عدة منظمات دولية، كما أشرف على صحفيين وصحفيات من المنطقة العربية ضمن مشروع عن التضليل الإعلامي مع “معهد التنوّع الدولي”، ومقره لندن.

منذ خمس سنوات تقريبًا، أنا أعمل في مجال المناصرة والحملات النسوية وأدرّب على الصحافة الحساسة للجندر والنزاعات في العراق وسورية. كما دربت منظمات نسوية مغربية على التواصل، وسأعمل قريبًا مع منظمات ليبية ومصرية في نفس المجال، إضافة إلى عملي مع بعض المشاريع السورية مثل مشروع “أصوات العدالة” الذي تسعى فيه منظمة “الشارع” السورية لتوثيق جرائم تنظيم (داعش) في سورية والعراق، والمطالبة بالعدالة لضحاياها.

على مدار ثماني سنوات عملتِ في “معهد صحافة الحرب والسلام” (IWPR) في العراق، كمسؤولة التواصل فيه. كيف تنظرين إلى هذه التجربة، وما الذي أضافته إلى مسيرتك المهنية في عالم الصحافة؟

بالتأكيد، كانت تجربة غنية، خرجت منها بالعديد من الأصدقاء والمعارف والخبرات على الصعيد المحلي والدولي.

صدر أخيرًا، عن أكاديمية “الدوتشي فيلي” (WD) الصحفية الألمانية، كتاب باللغة الإنكليزية موسوم بـ «الإعلام والصراع.. إلى أي حدّ علينا الاقتراب؟»، وفيه مادة لك عنوانها «الانحياز نحو الإنسانية». ماذا تخبرينا عن الكتاب بشكل عام، وعن إسهامك فيه على وجه الخصوص؟

غلاف كتاب الصحافة في زمن الحرب

يجمعُ الكتاب الجديد قصصًا من جميع أنحاء العالم، لاستكشاف الأدوار المختلفة التي تلعبها وسائل الإعلام فيما يتعلق بالصراع. ويحاول فيه المؤلّفون من جميع أنحاء العالم تناول مسألة كيفية تغطية العاملين في مجال الإعلام مع النزاع بشكل أفضل. وهو يتضمن التفكير في كيفية التعامل مع فيضان الكراهية عبر شبكة الإنترنت وكيفية التعامل مع الصدمات. فبدلًا من النصوص الأكاديمية والتحليلية، يتألّف الكتاب من أعمال مكتوبة بعناية ومصورة بعناية، وغالبًا ما تكون شخصية. ومساهمتي في هذا الكتاب متوافقة مع سبب شغفي بالعمل الصحفي وشعار مدونتي التي أنشأتها عام 2010، وهو “الانحياز للإنسانية”؛ إذ أجادل بمادتي بأنّ الصحافة التي تأخذ مسافة متساوية من القوي القامع والضعفاء المُهمشين هي ليست صحافة موضوعية، وإنما متحيّزة إلى القوي. وبالتالي الصحافة الموضوعية عليها دائمًا أن تنحاز إلى الأصوات الأكثر تهميشًا.

قبلها نشرت فصلًا في كتاب بعنوان «نساءنا في الميدان»، للمحرّرة الصحفية اللبنانية زهرة حنكير، ولي مساهمة في كتاب «النساء العربيات تعبرن عن حقائق جديدة»، إضافة إلى مساهمة أخرى في كتاب «الصحافة في زمن الحرب» مع “معهد الجزيرة للإعلام”، صدر باللغتين العربية والإنكليزية[1].

حقّقتِ حتى الآن خمسة أفلام بعنوان “نساء ثائرات”. كيف تقيمين هذه التجربة، وإلى ماذا تطمحين في هذا المجال؟

توثيق تجارب النساء المختلفة وما يجري من وجهة نظرهن مسألة بالغة الأهمية بالنسبة إلي، وأشعر بالتواضع والامتنان لثقة النساء بي لمشاركة قصصهن بوساطتي، لكني أعمل بشكل أكبر على تشجيعهن لتوثيق حكاياتهن بكلماتهن وطرقهن الخاصة والمُساعدة في توفير منصّات لهن لفعل هذا، لنخلق منصّات خاصة بنا. فالإنتاج النسائي والنسوي العربي شحيح مقارنة بزملائهم الرجال. والصور، كما المواد الإعلامية والأدبية والسياقات والسرديات، أغلبها مساحات غير صديقة للنساء، وفيها الغلبة والأغلبية للرجال. حاولت من خلال الأفلام القصيرة أن أعطي النساء منصّة يروين فيهن حكاياتهن والمصاعب الإضافية التي يواجهنها بسبب كونهن نساء، فصورت سلسلتين إحداها في سورية والأخرى في تركيا، حاولت أن تكون وثائق بصرية لتوثيق قصص عشر نساء نشطن ليس فقط ضد النظام وإنما ضد القمع الأبوي أيضًا. الأفلام، كما الكتابة والتقارير والفعاليات، كلها وسائلي التي أشارك من خلالها في السعي لعالم أكثر عدالة وحرية.

تم اختيارك عام 2016 من قِبل مجلة “أريبيان بزنس” كواحدة من أقوى 100 امرأة عربية. وفي عام 215 نلت أربع جوائز عربية ودولية هي: جائزة “مصطفى الحسيني” لأفضل مقال لصحفي عربي شاب عن مقالك “كريمته الحرمة تنتصر على زينة الصحفية بفارق شريط حدودي”؛ وجائزة “صحافية العام 2015” التي تمنحها منظمة “مراسلون بلا حدود” بمناسبة يوم المرأة العالمي؛ وجائزة “بيتر ماكلر للصحافة الشجاعة والأخلاقية”؛ وبعد عام (2016) مُنحتِ جائزة “مؤشر الرقابة على حرية التعبير”، التي تمنحها مؤسسة “إندكس أون” البريطانية. وفي العام الماضي، وقع اختيارك لتكوني عضوًا في هيئة تحكيم جائزة “لورنزو ناتالي” الإعلامية. ماذا عنى لك كل هذه النجاحات، وما هي الانطباعات الأولى التي شعرت بها في لحظة الفوز بأول جائزة دولية؟

فزت بعدها بجائزة “الثائرة من أجل السلام” من الرابطة الدولية للنساء من أجل الحرية والسلام الألمانية WILPF. وكنتُ عضو لجنة جائزة حرية الصحافة مع “مراسلون بلا حدود” العام الماضي، وهذا العام أنا بلجنة تحكيم جائزة “عالم واحد”، عن فئة “أفضل المواد الصحفية عن الرائدات”.

بالتأكيد، كنت سعيدة وفخورة جدًا، أهمية الجوائز تأتي مع توسع شبكة العلاقات، ووسعت المنابر التي أصل إليها وأشعرتني بأنّ عملي مُقدّر وله تأثير، بالرغم من تحوّل العديد من المساحات الافتراضية إلى ساحات حرب للتنمر والسميّة، إلّا أنني أحاول استخدام منابري، وتلك التي أستطيع الوصول إليها، لمساعدة الصحفيين والصحفيات والناشطين الذين لم يحظوا بالفرص التي حصلت عليها ويحتاجون إليها.

زينة إرحيم تلقي كلمة أثناء تسلمها جائزة بيتر ماكلر فى نادى الصحافة الوطنى بواشنطن
زينة إرحيم أثناء تسلمها جائزة بيتر ماكلر فى نادى الصحافة الوطنى بواشنطن

ماذا عن تنظيمات الرايات السوداء (“تحرير الشام”/ النصرة سابقًا وأخواتها)، التي تعطي الثورة طابع «الإسلاميّة-الجهاديّة» وتضعها على النقيض من الثورات التي جرت في المنطقة؟

لا أعتقد أنّ الثورات الأخرى سلمت من التيارات المتطرّفة، بشقيها (مسلّحة أو مدنية)، هناك أسباب عديدة لظهور كل هذا التطرّف عند كل الأطراف، والعديد من الدراسات، وأنا لست محللة سياسية أو عسكرية، ولا فكرة لي حقيقة كيف يمكن أن نصل إلى يوم تُحل فيه كل الفصائل والميليشيات المسلّحة، عندها فقط سيصبح حلم الدولة المدنية والعلمانية أكثر واقعية وقابلية للتطبيق.

في الختام؛ ما هي أحلامك المؤجّلة؟

حلمي المؤجل هو إنجاز كتاب أروي فيه شهادتي عمّا حدث، أحتاج إلى تخصيص وقتٍ له بين أشغالي العديدة ليصبح واقعًا.


[1] للاطلاع على مضمون النسختين العربية والإنكليزية من كتاب: https://bit.ly/3fsVcQi